الرئيسية / المكتبة الصحفية / سليمان حزين التجويد الذي لا يتوانى

سليمان حزين التجويد الذي لا يتوانى

يمثل الدكتور سليمان حُزَيِّن علامة مهمة في تاريخ التعليم في وطنه مصر، ويصعب جدًا أن تتكرر الفرصة التي أتيحت لسليمان حزين، فهو من ناحية أول خريج في أول دفعة في أول كلية من أول جامعة حكومية، حيث كان أول دفعته التي كانت أول دفعة تتخرج في جامعة فؤاد الأول بعدما درس أربع سنوات في هذه الكلية الجديدة من الجامعة الجديدة

.. ومن الناحية الأخرى فقد كان سليمان حزين المدير المؤسس لرابع جامعة مصرية، وهي في ذات الوقت أول جامعة تمت نشأتها الحقيقية في عهد الثورة.

كان ممن طال عمرهم وحسُن عملهم

سليمان حزين إذًا متميز جدًا من حيث هو نتاج، ومتميز من حيث هو منتج ولكنه يجمع مع هذا التميز درجات عليا ورفيعة من الوجود والجد والتجويد، وقد أعطاه الله طول العمر فكان نموذجًا لأولئك الذين عناهم الحديث الشريف خيركم من طال عمره وحسن عمله.

وجوده وجده وتجويده

فأما الوجود فإن سليمان حزين قضى جل حياته في مصر، وقضاها في وجود حقيقي ولم ينقطع أبدا عن الوجود في قلب حياتنا الثقافية والعلمية والتربوية، وكان وجوده هذا نموذجًا للنفس الطويل الهادئ الذي يصعب أن يتاح للوجود ما لم يكن الوجود نفسه رياضيا في روحه يتقبل الظل بمثل ما يتقبل اللمعان، ويتقبل السخط بمثل ما يتقبل الرضا، ويتقبل قبل هذين الجحود الشديد بقدر ما يتقبل الامتنان السريع.

أما الجد فقد كان لسليمان حزين منه النصيب الأوفى، فهو مجتهد في دراسته إلي الحد الذي يحفظ عليه الأولية، ومجتهد في تثقيف نفسه إلي الحد الذي يجعله مستعدا علي الدوام لتقبل الرأي الآخر والاطلاع علي آراء الآخرين والاستماع إلي الآخرين بنفس القدر الذي يستمع فيه إلي نفسه، وبقدر أكبر مما يُسمع به نفسه للآخرين، ثم هو حريص علي أن يرتقي بقدرته على اتخاذ القرار وبفرصته في اتخاذ القرار فإذا هو من أوائل الأساتذة الذين تركوا جامعة القاهرة ليكونوا الرواد المنشئين لجامعة الإسكندرية في مطلع الأربعينيات، ثم إذا هو بعد ذلك حريص علي أن يشارك في العمل العام من مستوى قومي رفيع من خلال مناصب عليا في وزارة المعارف العمومية، ثم إذا هو بعد كل هذا يقود خطوات بلده في جامعة الصعيد علي خير ما تكون القيادة وبأكثر ما تكون الأقدام ثباتا، ويكفي القارئ هذا الجزء من حياته نموذجا للجد الواضح، ولكن القارئ سيعجب عندما يعرف أن سليمان حزين أضاف إلى كل هذا الجد المتواصل ثلاثين عامًا بعد ذلك من الجد الشاق الذي يؤديه الشيوخ الأفاضل

أما التجويد وسليمان حزين فهما صنوان، ويكفي أن سليمان حزين اختار لجامعة أسيوط هيئة تدريسها وبعثاتها اختيار الحنبليين من بين الحنبليين فكان كل الذين اختارهم بلا استثناء دررًا في قلادات هذا الوطن وفي أسيوط وفي الجامعات التي تفرعت منها في جامعتي المنيا وجنوب الوادي، وفي الجامعات التي نشأت في سهولة في السبعينيات معتمدة في المقام الأول علي الغذاء العقلي الذي قدمته أسيوط وهي جامعات  الزقازيق والمنصورة وطنطا وقناة السويس والمنوفية وحلوان فضلاً عن كليات جامعة الأزهر الحديثة التي أنشئت بعد قانون تطوير الأزهر، بل وفي جامعات خارج الوطن من أولئك الأعلام الذين يتبوأون أرفع المناصب العلمية في العالم العربي كله بلا استثناء، كل أولئك قدمهم وأتاحهم وأتاح خدماتهم للعلم وللوطن وللتعليم الجامعي رجل واحد عظيم هو سليمان حزين .

من أقطاب الفكر المصري

ليس كثيرًا إذًا على مذكرات سليمان حزين العظيمة الضخمة أن تحمل عنوان مستقبل الثقافة في مصر العربية؛ فقد كان بين أقرانه من الأساتذة الجامعيين بمنزلة الرجل الذي يمثل ما يقابل العامل المحدد الأول لمستقبل الثقافة في مصر العربية. كان عبد الحميد بدوي باشا وهو واحد من أعظم القانونيين المصريين، وهو كما نعلم أول عضو مصري في محكمة العدل الدولية يعتقد أن أقطاب الفكر المصري المعاصر ثلاثة هم: أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد كامل حسين. ومن عجائب الأقدار أن ثلاثتهم كانوا على التوالي المديرين المؤسسين للجامعات المصرية الأولى القاهرة والإسكندرية وعين شمس، وكنت أحدث نفسي لو طلب إلي عبد الحميد بدوي أو إلى مَنْ يخلفه في فقهه وقانونه وقضاته أن يختار الرائد الرابع هل كان يختار سليمان حزين المدير المؤسس للجامعة الرابعة.

وأظن القارئ قد يعتقد أن الجواب بالإيجاب هو الأقرب إلى الصواب.

جهده البارز في وزارة المعارف

نعم كان سليمان حزين بمثابة المسئول الفني الأول عن التعليم في العهد الأول للثورة المصرية ، فقد كان الرجل الفني القوي في وزارة المعارف العمومية التي تعاقب عليها لمدد قصيرة جدَّا اثنان من زملائه السابقين في نفس القسم، قسم الجغرافيا في آداب القاهرة، وهما الدكتوران عباس عمار ومحمد عوض محمد، وذلك بعد أن ترك هذه الوزارة الأستاذ إسماعيل القباني الذي كان مع طه حسين يمثلان اتجاهين قريبين من التنافر في الفكر الموجه للعملية التربوية في مصر، ثم أصبحت الوزارة في قبضة قادة الثورة العسكريين متمثلين في كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة، مما أتاح فرصة أكبر للفنيين من أمثال سليمان حزين أو الذين كان في مقدمتهم سليمان حزين أن يفرضوا كثيرًا من رؤاهم علي مسيرة التعليم، ولا نتجاوز إذا قلنا إن سليمان حزين استطاع في المهام التي تولاها أن يفرض رؤاه بأبعد من غيره .

يفاخر بتواضعه ويتواضع بفخر

وكتابات سليمان حزين تنطق لنا بكثير من هذا، وتوحي لنا بأكثر من الكثير الذي تنطق به؛ وعلى سبيل المثال فإن مذكراته هادئة ولكنها تثير السؤال القوي عن مدي الافتقاد إليها لمن لا يعرفون أنها صدرت؛ ولمن لم يتح لهم الحظ أن يتناولوها بالقراءة وبالاطلاع.

وقد نهج سليمان حزين في مذكراته منهجًا عجيبًا جديدًا ولكنه في حقيقته منهج جغرافي صرف، متأثر إلى أبعد الحدود بثقافته في الجغرافيا الحضارية التي هي تخصصه الدقيق، فهو لا ينظر إلى نفسه إلا في إطار البيئات المختلفة التي نشأ فيها أو أنشأته، وهو لا يتحدث عما فعل إلا في إطار الفعل، وهو بعيد عن الانفعال وبعيد عن أن يضع فكره أو أعماله في إطار الانفعال، وهو أبعد ما يكون عن أن يتناول الأمور من وجهة نظره الفردية، وإن كان في ذات الوقت يعطي نفسه كل حقها في أنها نفس متفردة من صنع الله الفرد المتفرد!

يتواضع سليمان حزين وهو يفخر، ويفاخر بتواضعه ثم يتواضع في فخر، وأظنه في سلوكه هذا شبيها بصاحب الجواهر الذي يضع الوسادات الرقيقة حول اللؤلؤ الذي يُخشي عليه من الكسر فيأبي إلا أن تكون الوسادات من خام يليق بأن يكون إلى جوار اللؤلؤ، ثم إذا هو يحدث نفسه عن قيمة اللؤلؤ ويتشكك في هذه القيمة لأنها عرضة للضياع حين يصيبها الكسر، وهو لهذا يكتشف قيمة جديدة في اللؤلؤ وهي أنه لا قيمة له إلا بالحفاظ عليه وبالحفاظ على الحفاظ عليه.

هذا هو سليمان حزين

هذا هو سليمان حزين وهذه هي حياته وكتاباته ومذكراته في اختصار شديد، بل في اختصار من ذلك النوع الذي قد يوصف بأنه مخل ومشوه للصورة العظيمة، ولكنه في ذات الوقت أقصي ما يستطيع القلم من تصوير!

 

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com