كان الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر طرازًا رفيعًا من أساتذة علم اللغة العربية الذين استطاعوا أن يكشفوا عن جوانب الإعجاز الرائع في بنية اللغة ووظائفها، بحثًا ودرسًا وتأصيلاً وتجديدًا وتيسيرًا.
العالم المصلح والفقيه اللغوي
صادف زملاؤه منه صورتين، صورة العالم المصلح المدقق الذي يتعقب الأخطاء ويتطلع إلى القضاء عليها والخلاص منها إلى الأبد من خلال الإعلام والتعليم على حد سواء، وصورة الفقيه اللغوي المستنير الميسر الذي يري للصواب وجوهًا متعددة يؤصل لكل منها، ويراها لا تتعارض مع بعضها، ويفيد برحابة فكر من تعدد الأساليب المعبرة عن المعني الواحد، بل يعتقد أن هذا التعدد لا يتنافى مع الدقة ولا مع السلامة ولا مع الأصالة، وإنما يفسح المجال لصور أدق وأرحب من اللغة الشاعرة المعبرة في الوقت ذاته.
ولم يكن من السهل أن يجد الدكتور أحمد مختار عمر من يقدر فهمه هذا على نحو لائق بهذا المزيج العبقري المتسق في شخصية هذا العالم العظيم وعلمه، ولكنه في الوقت ذاته كان يدرك قيمة نفسه وكان يدرك أن الأجيال التالية ستكتشف في تراثه ما اكتشفه هو نفسه في أحمد فارس الشدياق من ريادة وجسارة وأصالة.
وظف حاسته في التحقيق
رزق الدكتور أحمد مختار عمر حاسة التحقيق، ووظف هذه الحاسة على خير ما يكون، ولو أنه اشتغل بالبحث في التاريخ لكان قد سبق كل معاصريه بل كل أسلافه أيضًا، ومع هذا فإنه فيما حقق من تاريخ علماء اللغة قد وصل إلى نتائج لم يكن من السهل على غيره أن يصل إليها.
وكان في تحقيقه التاريخي يعبر عن خلق الباحثين الذين لا يسلمون بما يرونه متواترًا لمجرد تواتره، وكم من قضية استقصاها بالدرس والبحث حتى وصل إلى أنها تواترت عن مصدر واحد فقط، وإذا هو يجد في نفسه الشجاعة والقدرة على أن ينفي عن هذا المصدر الأول قداسته وينسف بهذا كل ما تواتر من بعده، ولعل أبرز نموذج لهذا الجهد ما فعله في تحقيق وطن ابن منظور ومدي الخطأ في الاعتماد على رواية واحدة من أجل نسبته إلى طرابلس دون تحديد، ومن ثم تصويره على أنه عالِـم ليبي.
تمثل فيه مفهوم الرجل المؤسسة
كان أحمد مختار عمر بالإضافة إلى هذا واحدًا من رجال نوادر عرفت فيهم مصر معنى الرجل المؤسسة، وقد أثمرت كل جهود الدكتور أحمد مختار عمر في هذا المجال على نحو لم يتيسر لغيره من أسلافه، لكن الذين يكتبون تاريخ الدراسات اللغوية بعد خمسين عامًا سيكتشفون حاجة مثل هذا الوطن إلى الآلية الغائبة.. الآلية التي كانت كفيلة بالاستحواذ على جهد أحمد مختار عمر وتقطير هذا الجهد من أجل اللغة، ولو وجد هذا الرجل في وطن متقدم لأطلقت يداه فيما يريد من إمكانات ليترك لأمته زادًا عبقريًا يتعلق بذاتها اللغوية، ولكن اعتزاز العالم في شخصيته ونفسيته دفعه إلى أن يترفع علي أن يطلب من وطنه ما كان في واقع الأمر حقًا لوطنه عليه، وهكذا كان إباؤه وشممه من النوع الذي يضيف إلي الشخص كرامة وعزة، ولكنه يسلب من الوطن ثروة شبيهة بثروة البذور الصالحة التي لا تتهيأ لها التربة الصالحة وإن كانت التربية الصالحة قد تهيأت لها من قبل.
ومن أسف أن هذا الوطن لايزال بحاجة إلى مثل هذا النوع من البصيرة الكفيلة باكتشاف ما لابد من اكتشافه من أمثال أحمد مختار عمر.
وظف اللغة لأجل المعجم والمعجم لأجل اللغة
وظف أحمد مختار عمر اللغة من أجل المعجم بقدر ما وظف المعجم من أجل اللغة وارتقى بالدراسات والممارسات المعجمية ارتقاء لم يُسبق إليه، بيد أنه في كل ما حقق كان يتوجه نحو الصواب والصواب وحده، ولهذا فإنه كان يغفل في كثير من الأحيان عن شيء آخر لا يقل أهمية: هو رواية طريقه إلى الصواب، ولو أنه سجل قصصه مع الخطأ لمكن خلفاءه من أمثالنا من أن يوفروا وقتًا طويلاً في استكشاف ما اكتشفه وارتياد ما ارتاده، ولكنه كان حفيًا بقدر مواز برواية المتاعب والعجائب والغرائب، وهكذا حرمنا من زاد كبير كان من الممكن لنا أن ندركه لو قدر لنا أن نقرأ أحاسيسه طوال حياته المثمرة.
كان أحمد مختار عمر أكبر من أن يلجأ إلى النزعة الخطابية فيما كتب وأبدع من علم مصفي، ولو أنه فعل ولجأ إلى هذه النزعة لترك لأمته تراثًا علميًا يتناسب مع ديوانها، ولكنه فيما يبدو كان يخشى على علمه أن يأتي في المحل الثاني بعد هذه النزعة وما تقتضيه من صدارة، وهكذا بقيت آثاره العلمية أقرب إلى أن تكون مكتوبة بلغة إنجليزية أكاديمية لا تعرف التزيد ولا الاستهلال وإن عرفت التثبت والاستقلال.
ترك عملا موسوعيا كبيرا
منذ ستة أعوام شرفت بالكتابة عن عمل جليل قدمه هذا العالم الجليل للمكتبة العربية بعنوان صناعة المعجم الحديث، وتمنيت على الله أن يهيئ لنا علي يد هذا العالم الجليل عملاً علميًا ضخمًا يضاف إلى رصيده في وضع معجم لاروس، ولم تمض سنوات إلا وقد حقق الله هذا الأمل بإصدار الدكتور أحمد مختار عمر لعمله الموسوعي الضخم المكنز الكبير، وهو كما كتب على غلافه في جملة واحدة ثرية بالإيحاء بالمعني المكثف: معجم شامل للمجالات والمترادفات والمتضادات.
مجموعة معاجم في معجم واحد
وليس من سبيل إلي وصف هذا المعجم الفريد الجديد إلا وصفه بأنه: مجمـوعة معـاجم في معجـم واحد، بل إن هذا الوصف لا يوفيه حقه من التقدير، فهو لا يجمع هذه المعاجم معًا ولا يضيفـها إلي بعضها أو ينسـقها، لكـنه يفعـل مـا هـو أرقـي وأنقـي، وأعقـد وأعرض، وأروع وأرفع مـن هـذا بكثير، إنه يقدم مستويات متعددة من العمل المعجمي في نفس اللحظة، وكأنه صورة متقدمة من فن التصوير الذي كان يُعرف، ولا يزال، بأنه الإيحاء بوجـود بُعد ثـالث، فإذا بهذا المكنـز يقدم لنا كل الأبعـاد الممكنة وغير الممكنة بما فيها بالطبع البُعد الرابع المرتبط بالزمن، بل بمـا فيها بعض ما لا تتكفل به إلا الحاسـة السـادسـة.. وهو يفعل هذا من خلال فكرة ذكية تعمد إلى استغلال كل مدخل لكل ما يمكن من اسـتخدام وتوظيـف لغـوي وأدبي ودلالي بل مجـازي أيضـًا.
بهذه الفكرة الذكية التي قد تبدو ــ الآن وبعد إنجازه عمله العظيم ــ بسيطة تمكن أستاذنا عليه رحمة الله من أن يطوع مفردات اللغة وجذورها لقراءة جديدة تنطلق من حيث تبدأ كي لا تنتهي إلا وقد أحاطت باللغة واستقصتها استقصاءً علميًا محددًا كفيلاً بأن يستوعب كل ما هو متصل بالمدخل من قريب أو بعيد.
الإنجاز المختاري
ولا يظنن ظان أن عصر المعلومات وحده كان كفيلاً بأن يحقق هذا الذي تمكن الدكتور أحمد مختار عمر من تحقيقه، ولا يظنن ظان آخر أن مثل هذا الجهد ليس إلا نتاج مؤسسة ونتاج روح المؤسسة، ولا يظنن ظان ثالث أن مثل هذا الجهد قابل للتكرار أو الاحتذاء أو التقليد.. ذلك أن سر وجود هذا العمل على نحو ما وجد عليه لم يكن إلا الروح ولم يكن روح ذلك العمل إلا هذا العالم الجليل نفسه الذي تواضع فوصف دوره على غلاف المعجم بأنه رئيس فريق المتخصصين بينما هو روح المكنز.
الروح المختارية
ولولا هذه الروح المختارية ما قدر لهذا الإنجاز المختاري أن يكون علي هذا النحو الذي وُجد عليه كيانًا معجميًا حيًا نابضًا بالحياة والحركة، والإبداع والفهم، والإيحاء والدلالة، والعلم والفن، والمعاني والبيان، والتوحيد والتعريف، والتدقيق والتفريق، والتمييز والحصر والإحصاء، والتصنيف والترتيب والإسناد والتأويل، والتصوير والتخيل وكل ما تقوم به علوم اللغة من وظيفة سواء للغة نفسها أو للعلوم والفنون المختلفة التي هي وعاؤها الأول، وربما الأخير، وإنما كان أقصي ما يمكن لهذا المعجم أن يكونه من غير روح الأستاذ هو أن يكون مجموعة من البيانات المعجمية أو غير المعجمية فحسب.
اللغة العربية تفخر بإنجازه المتفرد
وإني أكاد أتخيل أستاذنا الجليل حين جلس إلى صناعة هذا المعجم وقد أخرج الدنيا كلها من اهتماماته حتى إذا ما صفت له نفسه أخذ ينظر إلى الدنيا وإلى الحياة وإلى الطبيعة وإلى ما وراء الدنيا وما وراء الحياة وما وراء الطبيعة، ثم يمعن في هذه النظرة من آفاق محلقة يحيط بكل ما في اللغة من أسرار، ثم يرتفع إلى آفاق أعلي ليحيط بالأجواء البعيدة ثم يعود ليهبط مقتربًا من الألفاظ ليحدد الفوارق وليميز عن قرب ثم يعود ليعلو مبتعدًا كي تنفسح أمامه مجالات الملاحظة والاكتشاف.
الطائر الذكي القادر على دقة الملاحظة
وقد كان أستاذنا في كل هذا الصعود والتسامي والتحليق صورة بشرية متخيلة من الطائر الذكي الذي زوده ربه بقدرة لا نهائية على دقة الملاحظة وعبقرية الربط بين كل شيء، وكأنه لا يري في كل شيء إلا بعض صورة من غيره، حتى لو كان هذا بالتضاد أو التشابه، أو التخالف أو الترادف، أو التكامل، أو التفاضل، وهو معني باستخدام كل قدراته العقلية من تحليل وربط أو تفكيك، وتركيب، وتجريد، وتجسيم، وتشبيه وتصور، وتخيل، واستنتاج، واستنباط، واستقراء، وهو في كل هذا قادر قدرة منحها له الله سبحانه وتعالي علي أن يصل في سرعة البرق إلي هذه الثروات اللغوية التي تتطلب جهود المجموعات وتستنزف جهود الإدارات وربما لا تصل بعد هذا كله إلي بعض ما وصل إليه.
وللغة العربية أن تفخر بهذا المكنز الذي أضاف إليها مما فيها من عبقرية، وقد تمكن أستاذنا من تجلية بعض هذه العبقرية على نحو لم يُسبق فيه، ومبلغ حدسي أنه سيظل متفردًا فيما سبق إليه وحققه، وقد قدم نموذجًا يُحتذي في عبقرية المنهج وكثافة العمل ودقة الأداء وتوظيف الإمكانات المتاحة إلي أقصي حد، وقبل هذا كله ففي هذا العمل بعض ما نطمح جميعًا إليه دون أن ننجح وهو أن نعتصر التراث كله اعتصارًا ثم نجعل من هذا الرحيق الناشئ عن الاعتصار الذكي بعض مكونات إنجازنا الحديث.
عمله يزكي توقعاتنا للنهضة اللغوية
ولو أن مسار القرون يُتنبأ به من خلال بدايتها فإنه يمكن لنا القول بأن القرن الحادي والعشرين سيشهد نهضة توظيف للغة العربية إلى آفاق لم تصلها طوال تاريخها على نحو ما تبدي في وضع هذا المعجم العظيم في بداية هذا القرن الذي ربما يكون من حظه – في نظر خلفائنا – أن يعرف بأنه القرن الذي شهد في بدايته وضع المكنز الكبير وصدور طبعته الأولي.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]