الرئيسية / المكتبة الصحفية / لطفي شهوان أستاذي الذي علمني سماع القلب و عصيانه

لطفي شهوان أستاذي الذي علمني سماع القلب و عصيانه

 

  كان أستاذي الدكتور محمد لطفي شهوان مثلاً بارزاً للأساتذة الهادئين الذين تحبهم لأول وهلة، فإذا عاملتهم زاد حبك لهم يوماً بعد يوم، وتكشَّف لك الطلاء الفضي الجميل عن معدن من الذهب الخالص، ثم تكشَّف لك المعدن الذهبي الخالص عن جوهرة من الماس النفيس، وإذا أتيح لك الحظ بعد ذلك أن تقترب من هذه الجوهرة فستجد فيها نوراً يوقد من شجرة مباركة.

ولا أظن أنه قد أتيح لأحد أن يفيد من علم الدكتور لطفي شهوان ولا من شخصيته كما أفدت، ولا أظن أنه استثمر جهده في بناء شخصية إنسان كما استثمره في، وفي المقابل فإن أحداً غيري لم يكتشف كثيراً من قدراته الحقيقية في ظل الحديث السهل عن صفاته المشخصة سلفا، وهي صفات قد تضفي على صاحبها بعض مظهره، وإن لم تكن صادقة تماماً في التعبير عن جوهره.

أكثر من عرفت تمتعاً بالإرادة

كان أستاذي الدكتور لطفي شهوان على سبيل المثال أكثر من عرفت في حياتي القصيرة العريضة تمتعاً بالإرادة، وهي إرادة متميزة لا يمكنني التوقف عند وصفها بالحديدية أو الفولاذية، لكني أستطيع أن أنبه نفسي إلى أنها كانت من الإرادات الإيمانية، وإذا كان لي أن أصفها في جملة واحدة فإني أقول إنها كانت لها طبيعة الماء القادرة على أن تشق الصخر والحديد والفولاذ.

ولقد عرفت الدكتور لطفي شهوان عن أقرب ما يكون وهو في محنة مبكرة من محن المرض، وإني أستحضر صورته وشجاعته وقوة إرادته وصلابة عزيمته، وأتأمل فأجدها كما وصفت من قبل صلابة مصدرها الإيمان وكنهها الماء: لا يري إلا جاريا، فإذا سكن تأسن، وهي كالماء أيضاً من حيث إنه يصلح لكل شيء، ولا يصلح أي شيء بدونه.

المعارك المتوالية

خاض أستاذنا الجليل معارك متوالية، لم يهن عزمه في واحدة منها، ولم يتخل عن مبادئه وقيمه حتى حين كان يري بريق النصر مضمونا عند التخلي عنها، وفقد كثيراً من الناس لكنه كسب من نفسه أضعاف ما فقد، وأضاف إلى تجربته أبعاداً لم يكن له بها عهد من قبل، لكنه في النهاية كان سعيداً بكل ما أسفرت عنه التجربة من ألوان سوداء أو قاتمة لأنها أضافت إلى لوحة الحياة الدنيا المرسومة في خياله بعض الألوان التي اكتمل بها النضج الفني والتعبيري للصورة.. ثم إنها من ناحية أخري جعلته أقدر على التمسك بالاختيار الآخر، ولم يكن هذا الخيار الآخر إلا طلب السعادة في الحياة الآخرة.

كانت أفضال أستاذي الدكتور لطفي شهوان علي، بمثابة لمسات روحانية دافقة ربما لم يكن من السهل علي كثيرين تقديرها.. ربما كانت سماحة نفسه هي الدافع الذي دفعني كما دفع أغلب زملائي إلى مواصلة العمل في تخصص أمراض القلب الذي اعتاد الأطباء وصفه بأنه التخصص القمة، وربما زاد تفضله علي في هذه الناحية حين قاد خطواتي بكرمه وجاهه نحو العمل المبكر في الرعاية المركزة، حين بدأت ملامح رعاية الحالات الحرجة تتبلور في مركز خاص علي يد توأم عمره أستاذي الدكتور شريف مختار.

مثالية الخيال ومثالية الواقع

كان الدكتور لطفي شهوان صاحب الفضل الأوفى في نقل مسار حياتي العلمية من مثالية الخيال الذي لا يتحقق إلى مثالية الواقع الذي قد يتحقق مع بذل الجهد. وربما أجسد الأمر بأن أقول إن كرمه من هذه الناحية كان مضاعفاً حين أتاح لي وسطاً يتمتع بنسبة أكبر من الأكسجين المتاح للغذاء العقلي.. وذلك، من أجل مواجهة الاستهلاك الذي يستنزفنا جميعاً في مجتمع يعاني ونعاني معه ولا أقول منه، ولو لم يكن هذا الأستاذ الجليل قد فعل بي هذا الذي فعل في تدرج وحنو فلربما كنت اليوم نزيلا في مستشفيات الأمراض العقلية.

لا نؤذى إلا بالخير، ولا نلام إلا بالشكر

أما مدرسته العلمية التي اعتز بالانتماء إليها فهي الأسرة الكريمة التي أعطاها من جهده أقداراً مضاعفة، وربما صدق علينا قول المثل القديم إن الصحة تاج علي رءوس الأصحاء لا يعرف قيمته إلا المرضي.. ولكني مع ذلك كنت أدرك أن غيرنا كان يحسدنا، أنا وزملائي، على ما نحن فيه، فنحن لا نؤذي إلا بالخير، ولا نلام إلا بالشكر، ولا نمتحن إلا بالنعم.

عيوبه كانت لازمةً لوجود المزايا الكبيرة

كانت شخصية أستاذي الدكتور لطفي شهوان حافلة بالمزايا، ولم يكن في شخصيته عيب إلا ما كان لازماً لوجود المزايا الكبيرة التي لا بد لوجودها من عيوب صغيرة مصاحبة، وقد كنت مؤمناً بهذه النظرية في تفسير سلوك أستاذي حتى ما بدا منه متناقضاً أو غير متوقع، وكنت في معاملته هادئ النفس على الدوام لأني كنت أعرف حدود ما أتوقعه من مزاياه الإيجابية، وكنت أعرف أيضاً ما قد أتخيله من مزاياه التي تبدو سلبية.

خاض أستاذي الدكتور لطفي شهوان معارك انتخابية كثيرة طيلة الفترة التي عملت فيها معه عن قرب، فقد كان على حد تعبير بعض زملائنا لا يترك انتخابات إلا ودخلها، والواقع أن هذه المشاركة في الانتخابات لم تكن على هوي أستاذي تماماً، وإنما كانت نوعاً من أنواع الالتزام الحزبي كما يقال في أدبيات السياسة.

إيمانه بالبحث العلمي

كان أستاذي الدكتور لطفي شهوان مؤمنًا بالبحث العلمي ومدركًا لمتاعبه وتكاليفه، وكان – على خلاف كثيرين من تلاميذه – لا يكلف الباحثين من أمرهم رهقًا، فإذا وجد القياسات أو المعاملات أو المعدلات التي ستجري كثيرة اقترح الاكتفاء بالجوهري منها دون البعض الآخر، بل إنه كان صاحب الفضل في الأخذ بالفكرة التي تجعل الجداول الكبري الرئيسية للرسائل على هيئة ملاحق، وتكتفي في تسجيل النتائج بجداول المقارنات العمومية.

أورث تلاميذه المهارة

كان من حسن حظي أن أستاذي الدكتور لطفي شهوان كان يتمتع بثقافة حقيقية. وكان شأنه شأن كل أستاذ مجيد ومخلص، يحب أن ينقل توجهاته في الحياة إلى بعض تلاميذه، وهو الخلق الذي يصدر فيه الإنسان السوي عن السعادة بالشعور بالتوريث، فكما أن الرجل البسيط يسعد بأن يترك لابنه بيتًا أو أرضًا، فكذلك يسعد الأستاذ المميز بأنه أورث تلميذه مهارة معينة، أو قدرة معينة، وكان أستاذي نموذجًا فذًا لهذا الخلق، وإني لمدين له بأفضل ما في عقليتي من صفات البحث العلمي المرتبطة بالثقافة، فهو الذي صبغني بفكرة أن البحث العلمي والثقافة لا ينفصلان.

       كانت لأستاذي الدكتور لطفي شهوان توجيهات فكرية تركت قيمة كبيرة في منهجي العلمي، وكانت توجيهاته في غير الطب تعدل في قيمتها توجيهاته في الطب، فإذا كان على أن أختار أحد هذه التوجيهات للحديث عنها، فإني أوثر الحديث عن عناية أستاذي بتوجيهي إلى قيمة الموارد التاريخية التي كانت تتاح في يدي، ولم أكن واعيًا بالقدر الكافي لقيمتها التاريخية.

قدرته على إدراك نجاح أو فشل أي عقار جديد

كان أستاذي الدكتور لطفي شهوان قادرًا بحنكته – التي كونها على مدى السنوات التي مارس فيها الطب – على أن يدرك سر النجاح أو الفشل في كل عقار جديد تعرضه علينا شركات الأدوية، ولا أنكر أني مدين له بهذه القدرة التي يبدي زملائي إعجابهم بها، وكان صاحب الفضل في تعليمنا جوهر معادلة قياس التناسب بين التكلفة والفعالية حتى من قبل أن تفرط في الحديث عنها كتب الطب وبحوث علماء الخارج، وكان أشد ما يكون وعيًا للآثار الجانبية لبعض العقاقير ومدي إيلام هذه العقاقير للمرضي.

      ظل أستاذي الدكتور لطفي شهوان على عقيدته اليقينية في أن هناك علمًا نافعًا وعلمًا غير نافع، وقد زاد إصراره على هذه النظرية رغم أني كنت اعتقدت أنه عدل عنها بعد حوارنا عن تصميم مفاتيح الآلة الكاتبة وكيف أنه نظم وضع الحروف تبعًا لمعدلات تكرارها في النصوص وهو ما تم بعد دراسات من التي يسميها أستاذي علمًا غير نافع، لكني اكتشفت أن هذا الاقتناع كان اقتناعًا بجزئية، ولم يكن اقتناعًا بالعدول عن مبدأ أو عقيدة.

حواراتي مع أستاذي

كانت لي مع أستاذي الدكتور لطفي شهوان بعض حوارات عن الأعمال الفنية، وقد كان قادراً تماماً على أن يفصل بين المكونات المختلفة، ويتناول كلاً من هذه المكونات بما ينبغي من نقد أو ثناء دون أن ينعكس هذا على رؤيته للعمل الفني كله وبالطبع فقد اكتسب أستاذي هذه القدرة المهمة من نجاحه في ممارسة البحث العلمي الذي يقوم على التحليل وعلى الفصل بين العوامل المختلفة ودراسة كل منها منعزلاً على حدة، وذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة فيما يتعلق بتأثير العوامل المحددة لكل تطور بما في ذلك الشفاء نفسه، وبما في ذلك الأمراض نفسها.

كان أستاذي الدكتور لطفي شهوان يكثر من استعمال لفظ الجاهلية في ميادين مختلفة. كان يتصور العلم نوراً أضاء الحقيقة، فإذا بكل ما سبق هذه الإضاءة جاهلية وظلام، وكان يلذ له أن يتحدث عن بعض الحالات التي أصبحنا نشخصها بسهولة بفضل الآلات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، ثم يقول: كنا في الجاهلية نعجز عن هذا ونضرب أخماساً في أسداس، ونظن أننا أصبنا هدفنا بينما زدنا الموضوع ظلاماً.

سخريته من النفاق الزائد

كان أستاذي يسخر الدكتور لطفي شهوان من النفاق الزائد بطريقة مهذبة، وكذلك كان يفعل في كل ما يعرضه أي طبيب منا ناسباً الفضل إلى الوضع الجديد، فإذا أشار الطبيب إلى أن المريض كان يتعاطى أدوية خاطئة قبل أن ينتقل إلى قسمنا ويتعاطى الدواء الصحيح، كان أستاذي يعلق في التو واللحظة بأن هذا الخطأ كان أيام الجاهلية، ولم يطل بنا الزمن لنعرف أنه كان يسخر بشدة دون أن يبدو ساخراً، وهكذا كان يحدثني في كل أمر من الأمور التي يظن صغار أولي الأمر أنفسهم وقد أصلحوها بينما هم يفرطون في الادعاء بالإصلاح بلا مبرر.

      كان حييا في تصرفاته كما كان في نظراته

 كان أستاذي الدكتور لطفي شهوان يتمتع بقدر كبير من الحياء، أو قل إنه كان من الذين يتمتعون بالقدر الأكبر منه. كان حياؤه في تصرفاته كما كان في نظراته، ولم يكن يرتاح إلى أن يؤدي دوراً يتعارض مع الحياء الطبيعي الذي تربي عليه.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤] 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com