صعوبة الفراق والتأبين
أكتب اليوم ناعياً أستاذي الحبيب الأعز.. ووالدي الجليل الأكرم الذي تلقيت عنه ومنه على مدي عقدين من الزمان كل ما حاولت أن أتلقاه، وكل ما استطعت أن أتعلمه وأن أكتسبه من طابع نبيل، وخلق حسن، وعلم غزير، وإخلاص عميق، وتفان لا محدود، وحب للناس، وغفران للإساءة، وتسام عن كل حقد، وترفع عن كل صغيرة، وتمسك بكل قيم الحق والحب والخير والجمال.
تكاد نفسي تنفطر حزنا على فراق هذا الأستاذ الجليل، لولا أن وجوده في هذه الحياة كان يبتعد عنا يوما بعد يوم في مرضه الذي ابتلاه به الله في نهاية حياته، وكنا نراه وهو يبتعد عن الحياة ويقترب من الحياة الأخرى، ونحن على عجز عن أن نفعل له شيئاً، وهو الذي علمنا جميعاً كيف نصارع المرض ونسعى من أجل الشفاء.
لكن يبدو أن هذه كما ذكرت من قبل في رثاء صديق عزيز علي كلينا هي سنة ذي الجلال والإكرام في خلقه من ذوي الحضور الذين يكون من الصعب على من عرفوهم أن يفتقدوهم بين لحظة وأخرى، فتأبي رحمته سبحانه وتعالى إلا أن يسترد وديعته على نحو ينبئ بقرب اللحظة التي لا يعلمها إلا هو، ومع هذا كله تأبي عقولنا أن تتقبل ما أدركته الحواس من افتقاد من كان ملء السمع والبصر.
مكانته بين أعلام الجامعة
كان أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف، عليه رحمة الله، جامعياً من الطراز الأول وجراحا من الطراز الأول ومفكراً من الطراز الأول، ومع أنه وجد في زمن المتأخرين، فإن فضله وعلمه وإخلاصه وأداءه المهني كان يرتفع إلى مصاف أطباء القرون الوسطى من الحكماء العالمين العاملين، ولم تكن قيمته في نظر زملائه وأساتذته وتلاميذه لتقل أبداً عن أعلام الجراحة العظماء من أمثال علي باشا إبراهيم، وعبد الوهاب مورو، ولا عن أعلام الجامعيين الكبار: أحمد لطفي السيد، وطه حسين، ومحمد كامل حسين، وسليمان حزين. وقد هيأت له الأقدار أن يكون أول من حصل على تقدير الامتياز في الجراحة العامة في كلية طب قصر العيني سنة ثمان وخمسين 1958، وأن يعمل بعد هذا في ثلاث جامعات هي: القاهرة وأسيوط والزقازيق حتى رأس الأخيرة في سن مبكرة بعد أن تولي عمادة كلية الطب بها في سن مبكرة أيضاً، وكان ثاني رئيس للجامعة الكبري، كما كان ثاني عميد للكلية التي أصبحت بفضل جهوده وجهود زملائه وتلاميذه كلية كبري أيضا. وكان أقدم الأساتذة العاملين في الكلية حين تولي عمادتها، كما كان أقدم أساتذة الجامعة العاملين من ذوي الخدمة المتصلة حين تولي رئاستها.
العطاء النادر لكليته وجامعته
بذل أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف في صمت وإيثار وتجرد كل نفسه ولا أقول كل جهده من أجل كليته وجامعته، فكان إلي آخر أعوامه المحاضر الذي يتولى تدريس مقرر الجراحة كله مرتين على الأقل في كل عام، كما كان صاحب الدائرة في دروس الجراحة الإكلينيكية، وظل بمثابة الممتحن الأول الذي يتولى تصحيح الورقة الأولي من مادة الجراحة كلها لكل طلابه، وهكذا ظل باستمرار بمثابة الميزان الحاكم لكل تقييم وتقدير، وقد نهج نفس النهج في امتحانات الدكتوراه والماجستير، ولم يكن في مصر كلها من يفوقه في المشاركة الدائبة في كل هذه الامتحانات، بل وفي تقييم أبحاث أعضاء هيئة التدريس في اللجان العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المصرية.
أربعون عاما متصلة من ممارسة الجراحة
ولم يكن في جيل الدكتور محمد عبد اللطيف مَنْ مارس الجراحة على نحو ما مارسها هذا الأستاذ العظيم، الذي انقطع لها أربعين عاماً متصلة، مارس الجراحة فيها سبعة أيام في الأسبوع، سواء في حجرة العمليات، وفيما قبلها وفيما بعدها، لم يمنعه واجب رسمي أو وظيفي أو اجتماعي عن ممارستها، وقد شهدته في كثير من الأيام يسافر في الصباح المبكر كي يحضر اجتماعا في القاهرة ثم يعود إلي جامعته لينهي توقيع أوراق أصحاب الحاجات ثم إلي عيادته في الثانية ظهراً، ثم يجري عمليات جراحية، ولا يمنعه هذا من أن يعود مرة ثانية في بداية المساء إلي عيادته وأن يعود مرة أخري إلي القاهرة في المساء لحضور مؤتمر أو اجتماع رسمي لابد له من حضوره بحكم منصبه، وفي مرات عديدة حضر إلي القاهرة وعاد منها إلي الزقازيق ثلاث مرات في أربع وعشرين ساعة فقط.
رئاسته للجامعة
عمل أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف رئيساً للجامعة ثماني سنوات متصلة لم أشهده أغلق باب مكتبه غير مرة واحدة فقط كان لابد منها ليتولى الكشف على مريض أصابه الجزع والهلع من أن يكون مريضاً بالسرطان، ولم تكن حالة المريض النفسية تمكنه من أن يصبر على طلب الاطمئنان حتى الظهيرة. ولم يحدث خلال هذه السنوات الثماني أن تأخر ولا لساعات قليلة في اعتماد مذكرة، أو طلب سفر، أو إجازة، أو طلب علاج، أو اعتماد صلاحية رسالة للمناقشة، أو اعتماد نتيجة فرقة دراسية، أو شهادة عليا، أو اعتماد توقيع أي ورق من أوراق الجامعة، كانت كل أمور الجامعة تتم إجراءاتها كلها في نفس اليوم الذي يبدأ فيه أول موظف صغير تحرير المذكرة أو يبدأ كتابة الاستمارة، لأن كل الجامعة كانت تعرف أن رئيسها لا يخرج من مكتبه كل صباح وكل مساء إلا وقد أنهي اعتماد وتوقيع كل الأوراق التي تتطلب اعتماده وتوقيعه، وقد كان من طابع هذه الروح الوثابة أن توسع من نطاق مَنْ هم مسموح لهم بعرض البريد علي رئيس الجامعة، وعلي حين كانت جامعات أخري لا تسمح بعرض البريد إلا بعد مروره علي أحد نواب رئيس الجامعة أو الأمين، فإن سياسة الدكتور محمد عبد اللطيف وسعت النطاق إلي حد السماح لرؤساء الأقسام العلمية ولرؤساء الأقسام الإدارية جميعا، وليس مديري الإدارات فحسب، بعرض طلباتهم ومذكراتهم علي رئيس الجامعة مباشرة.
الذكاء ودقة الأداء
وكان ذكاء الراحل العظيم الدكتور محمد عبد اللطيف يمكنه من التعرف بعينه المجردة على التوقيعات وصحة نسبها إلى أصحابها، وفي الحالات القليلة التي شك فيها في التوقيعات المذيلة كان شكه في محله، وحول بنفسه المخالفات إلى النيابة، وربما أذيع سرا حين أقول إنه هو نفسه وليس موظف شئون الطلاب كان من اكتشف الواقعة الشهيرة التي حدث فيها التلاعب في بعض شهادات الثانوية الإنجليزية، كما أنه هو نفسه الذي اكتشف التلاعب والتزوير في الشهادات التي كان يحصل عليها البعض من بعض الدول الشرقية بدراسة السنوات الأولي في كليات الطب بها.
الواجب الاجتماعي
لم يتخلف أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف يوما واحدا عن أن يقوم بأداء الواجب الاجتماعي تجاه كل فرد من أفراد أسرة الجامعة، وكان يقوم بالواجب بنفسه، ولم يحدث في تاريخ الجامعات ولا المؤسسات المصرية أن ودع رئيس هيئة بمثل ما ودع به الدكتور محمد عبد اللطيف عام واحد وتسعين عند نهاية رئاسته للجامعة، وقد استمرت الاحتفاليات علي مدي أكثر من أربعين يوما لم تكف كافة الكليات والأقسام عن أن تؤدي له حق الشكر علي ما قدم في فترة رئاسته الجامعة، ومع أن التقاليد المصرية كانت قد تعودت علي الترحيب بالقادم الجديد، ثم شكر الراحل بطريقة مهذبة ومقتضبة، فإن إحساس الجامعيين دفعهم دفعا إلي أن يقتصروا في كل ما نشروا من إعلانات اجتماعية حرصوا علي أن يدفعوا أجورها من أموالهم الخاصة علي أن يشكروا الراحل، ولم يشذ عن هذا النمط من السلوك سوي اثنين فقط عادا بعد وقت قصير جداً فعبرا عن مشاعرهما الحقيقية تجاه أستاذنا الكبير علي نحو ما عبر الجميع.
جهده في التأليف الطبي
أسهم الدكتور محمد عبد اللطيف بجهد وافر في التأليف الطبي، وقد طبع كتابه في الجراحة العامة مرات عديدة، ثم كان رائد المحاولة الضخمة التي نجح فيها حين وضع لأول مرة كتابا مصورا باللغة العربية في دروس الجراحة الإكلينيكية، وقد عرض فيه مئات الصور للحالات الجراحية المصرية التي سجلها بنفسه بالتصوير الضوئي، وكان كتابه هذا فتحا كبيرا في عالم الجراحة في وطن تعود منذ فترة أن يكون عالة علي المؤلفات الأجنبية في فروع الطب المختلفة، ولم يكتف الأستاذ العظيم بما نشر من حالات في هذا الكتاب في أواسط الثمانينيات، لكنه واصل مراجعته وتعديله علي مدي سنوات متصلة ليتلافى كل ما كان يتصوره من نقص فيما ألف وصنف.
وقاده هذا إلى أن يتولى وضع معجم متطور للمصطلحات الطبية باللغة العربية، وقد نجح الدكتور محمد عبد اللطيف في هذا العمل أيما نجاح بعدما استطاع أن يطور منهجا للتأليف المعجمي لا يقف عند ذكر المصطلحات وإنما يقدم تعريفا وافيا بالمصطلح علي نحو كفيل بالإحاطة والتعلم، وقد تولت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية طبع هذا المعجم، كما تولي مركز التعليم الطبي في الكويت التابع لجامعة الدول العربية طبع أطلس الجراحة.
كان لي شرف مشاركته
وقد كان لي شرف مشاركته فـي كل هذه الجهود كما كان لي شرف مشاركته في ترجمة ومراجعة معجم طبي كبير يضم خمسين ألف مصطلح باللغات الثلاث، وقد أضاف جهده في ترجمة هذا المعجم ثراء جديدا للغة العربية التي أصبحت اللغة الرابعة في هذا المعجم الدولي المتميز.
ولم يكف أستاذنا الدكتور محمد عبد اللطيف في خضم هذا كله عن متابعة البحث العلمي وتعديل الخطط الجراحية بما يتناسب مع ما مكنته خبرته الهائلة من فهم عميق لأسرار المرضي والجراحة، ومع أنه لم يكن ميالا إلى تدوين خبرته الثمينة فإن تلاميذه قاموا ببعض الواجب في هذا المكان، ويصعب علينا جميعا أن نحصر البحوث التي شارك فيها أو أشرف عليها أو قيمها أو وجهها، وربما يفوق عدد هذه البحوث جميعا رقم الألف بلا مبالغة.
تلاميذه ومرضاه ومريدوه
أما تلاميذ الدكتور محمد عبد اللطيف الذين تلقوا العلم مباشرة على يديه فيفوقون الآلاف المؤلفة في مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا.أما مرضاه الذين تطببوا على يديه فإن عددهم يفوق الحصر والوصف أما مريدوه فإنهم يضمون كل هؤلاء جميعا وكل من عمل تحت رئاسته، ويكفيني أن أذكر في هذا المجال أن أحد أصدقائي وكان أستاذاً للطب وكان مديراً لمستشفى خاص كبير في القاهرة لم يلتق بأستاذي أبدا، لكنه كان يعبر عن رأيه ذات مرة في أعلام الوطن فقال: إنه لم ير في حياته على طولها وعرضها من يستحق الحب والتقديس المطلق مثل أستاذي الذي لم يشرف هو بمعرفته، ومع هذا فإنه ظل على مدي سنوات يتلقى منه توصيات متتالية على ذوي الحاجات.
وكان سبب دهشته أنه ظل يعجب من أن يجد نفسه مع كل توصية من هذه التوصيات مسوقا إلى تحقيق رغبة حاملها دون أن يدري السر الذي كان يجعله يندفع إلى تحقيقها، ومع أنه تعود أن يحسب حساب كل شيء وأن يقدر الأمور، فإن قوة قاهرة كانت تدفعه دفعاً إلى تلبية رغبات الناس الذين أوصي عليهم محمد عبد اللطيف ببطاقاته الرقيقة التي كان يكتبها بنفسه باهتمام وجدية حتى إن كل حرف من حروف بطاقاته المكتوبة بخط اليد كان مكتوبا بالقدر نفسه من العناية رغم روتينية مثل هذا العمل الاجتماعي البحت. وكان صديقي يقول لنفسه: إذا كان هذا الرجل العظيم قد اهتم بالتوصية على هذا النحو فكيف بي لا ألبي رجاء لمن هو في طبقته!
الأفكار الليبرالية في الإدارة الجامعية
على أن الأهم من هذا كله، في نظري، أن الدكتور محمد عبد اللطيف كان رائد الأفكار الليبرالية في الإدارة الجامعية وقد أدي هذه الريادة بسلاسة دون أن يباهي بذلك، ودون أن يقدم فكره في هذا المجال علي أنه إنجاز، وعلي الرغم من أن العصر الذي عاشه كان يحاول المناداة بالليبرالية فإن العصر نفسه لم يكن يستطيع اللحاق بأفكاره الليبرالية في التعليم الجامعي، ولا يخفي علي أحد أننا لا نزال عاجزين عن أن نضع من اللوائح ما يحقق بعض ما كان هو بشجاعة وجرأة ينفذه علي مسئوليته محققا الليبرالية ومعايير الجودة بطريقة سلسة دون تشدق كثير بالألفاظ أو المصطلحات أو الشعارات.
كان الدكتور محمد عبد اللطيف ـ على سبيل المثال ـ يسمح وهو عميد في النصف الثاني من السبعينيات لأي طالب بأن يؤجل أي امتحان من الامتحانات الدراسية في نهاية العام دون أن يعتبره غائبا بدون عذر، أو راسبا بالتالي، وكان فكره في هذا الشأن أنه يكفي هذا الطالب أنه أضاع من عمره عاما أو ستة أشهر حتى يكون مؤهلا للامتحان التالي، وكان يري في هذا معيارا من معايير الجودة الكفيلة برفع مستوي خريجي الكلية التي كان يتولى عمادتها، وقد تحقق هذا بالفعل، فلم يدخل طالب في عهد عمادته الامتحان لمجرد أن العام الدراسي قد انتهي ولابد له من دخول الامتحان، وإنما كان الطلاب يدخلون الامتحان لأنهم استعدوا له، وهكذا كانت نتائج طب الزقازيق تقترب علي الدوام من المائة في المائة، وكنت أتعجب لهذا حين كنت طالبا في طب القاهرة، حتي عرفت الحقيقة، ولم تكن معارفنا القاصرة ولا عقليات غيرنا المقصرة تفهم فلسفة محمد عبد اللطيف الليبرالية
.. ومضت السنون فإذا بمعايير الجودة لا تدلنا على طريق أسلم ولا آمن من هذا الطريق الذي قاده إليه تفكيره العبقري.
رئاسته للجامعة
وكان هذا هو نفس منطق الدكتور محمد عبد اللطيف الذي حكم توجهاته الليبرالية في أثناء رئاسته للجامعة حين كان على سبيل المثال يسمح بالإجازات للعمل بالخارج دون تقييد للعاملين بعدد معين من السنوات، وهو التوجه الذي أخذت به الدولة نفسها فيما بعد ذلك، كان مع حرصه الشديد علي استبقاء الأقسام العلمية للشخصيات الكفيلة بالقيام بالعملية التعليمية والبحثية علي أفضل وجه، لا يتقيد في الموافقة علي التعاقدات الشخصية بنسب صماء أو محددة سلفاً لمن هم في الداخل ولمن هم في الخارج، مغلبا جوهر القدرة علي أداء العمل علي معايير النسب الكمية التي كان يري أنها وضعت لمساعدة غيره ممن قد لا يستطيعون إدراك الأمور علي حقيقتها بطريقة مباشرة، وقد مكنته معرفته لجميع أعضاء هيئة التدريس في جامعته أن يزن الأمور بميزان الحقيقة والقدرة.
ولست أذيع سرا إذا قلت إن الدكتور محمد عبد اللطيف على الرغم من موافقاته المتوالية للأغلبية، كان يصمم في أحوال قليلة على عدم التضحية بكفاءة معينة مهما كان الثمن الذي كان في بعض الأحيان هو نفسه، وقد كان له في هذا الصدد الفضل الكبير في استبقاء بعض من نعرفهم في جامعة الزقازيق وفي الزقازيق بفضل استبقائه لهم بأسلوبه الآسر.
وكانت ليبراليته الحقيقية أيضا وراء قبوله تحويل طلاب جامعة بيروت إلى جامعة الزقازيق وكان من الشجاعة والإقناع بحيث حصل على موافقة المجلس الأعلى للجامعات على هذه الخطوات وذلك قبل أن يقر ذلك المجلس تطبيق المبدأ بصفة عامة على جميع الجامعات في العام التالي لقرار جامعة الزقازيق، وقد نهج المنهج ذاته مع المحولين من جامعات الدول الاشتراكية ومع أبناء السودان في أزماتهم، ولم يتجاوز في هذا كله قانونا ولا قاعدة، لكنه في الوقت ذاته لم يتعنت متحججا بنقص الإمكانات، ولا هو تعسف مستعملا حقه في الرفض.
يؤمن بالحرية إيماناً مطلقاً
كان الدكتور محمد عبد اللطيف رحمه الله يؤمن بالحرية إيماناً مطلقاً لا حدود له، ولا نهاية له، ولم يكن يستسيغ أن يعمد أحد من مرؤوسيه إلي اللجوء إلي أية سياسة أو قواعد تقيد الحرية من بعيد أو من قريب، وكان يجاهد في سبيل تحقيق هذه الغاية بكل ما وسعته قدراته وسلطاته بل ونفوذه ومحبته عند العمداء والوكلاء ورؤساء الأقسام والأساتذة، وكان يري أن تقييد الحرية وتقويمها لا يكون إلا بإتاحة أقدار أكبر منها، وكان في كل هذا السلوك ومظاهره سابقاً لعصره، ولم يكن له من دافع إلي هذا السلوك القويم غير فطرته القويمة، وكثيرا ما بت الليالي أفكر في جذور إيمانه بالحرية وهو الذي تلقي تعليمه وتكوينه في عصر شمولي، والواقع أني لم أكن في ذلك الوقت أستطيع أن أدرك حقيقة أن الفطرة القويمة وحدها قادرة علي أن تكفل كل هذا القدر من الإيمان بالحرية وممارسة هذا الإيمان.
يؤمن أولا بالقدوة
وكان الدكتور محمد عبد اللطيف يؤمن قبل هذا كله بالقدوة، وإذا قيل إن مجتمعا علميا تكون في مصر المعاصرة بفضل القدوة، فإن المجتمع الذي كونه وبناه وصانه محمد عبد اللطيف هو هذا المجتمع، لم يضع نظماً ولا قواعد، ولم يستعمل حقا قانونيا ولا إداريا، لكنه حقق كل ما حقق من نجاح بفضل القدوة وكان إيمانه بأثرها لا يعدله إيمان، ولم يكن عنده أي قدر من الاستعداد للإيمان ببدائل للقدوة في الإتيان بمفعولها السحري في تحقيق النجاح والتوفيق لمدرسته العلمية.
وكان الدكتور محمد عبد اللطيف يدرك إدراكاً عميقا أهمية توازي خطوط التنمية مع بعضها، خاصة في مجالات التعليم والتعليم العالي والصحة والبحث العلمي، وهي المجالات التي أتيح له أن يشارك في التخطيط لها، وكان من أشد المؤمنين بحقيقة أن جامعة رفيعة المستوي لا تغني عن محو الأمية، وكان واقعيا في تقدير النجاح، ولم تكن التقارير ولا المظاهر بقادرة علي أن تخدعه عن إدراك حقيقة تفضيل ما هو ممكن التحقيق علي ما هو مستحيل، ولم يكن يكلف الأمور أكثر من طاقتها، وكان يأسي لتدهور الأخلاق والجودة والإتقان، لكنه كان يحاول أن يجد العوض عن هذا في السرعة وقلة التكلفة، ومع هذا كله فقد كان الألم العميق يجتاحه كلما رأي خلقا ينهار، وكلما رأي جدارا يتداعى، وكلما رأي إنسانا يخون ، وكلما رأي خطيئة ترتكب ، وكلما رأي زيفا يسود.
كان رقيق الحاشية، كان أسدا هصورا
كان أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف لين العريكة، سهل القياد، رقيق الحاشية، لكنه مع هذا كله كان أسدا هصورا فيما يعتقده صوابا، وكان سدا منيعا أمام ما يراه كفيلا بفتح باب الوباء، وكان ذكيا في التفريق بين الصغائر والكبائر، وبقدر ما كان يتغاضى عن الصغائر بقدر ما كان حريصا على الوقوف بكل شدة أمام الكبائر.
وإني لأعترف بكل فخر واعتزاز أني مدين لأستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف بمعظم ما يظنه الناس في من تفكير متفتح، وقدرة على النظر إلي الأمور كلها بتجرد وحيادية، وقد كان من فضل الله علي أن هيأ لي أن يكون حواري العقلي الساخن والمتصل في سنوات التكوين مع مثل هذا العقل الكبير الذي يندر أن يتكرر في مجتمعنا العربي.
رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وعوضنا عنه.