فنوح نشاطي يسجل انطباعه الناضج عن الفرنسيين
أبدأ هذا الفصل بأقوى نص عربي مكثف عن موضوعه، وهو النص الذي سجله الاستاذ فنوح نشاطي في مذكراته بعد ثلاثة شهور من وصوله إلى باريس (في يوم 12 يوليو) مضمنا فيه انطباعه الناضج عن الفرنسيين:
«من كثرة اختلاطي بالفرنسيين من مختلف الأمزجة والعقليات والطبقات، أمكنني أن أكوّن عنهم رأياً خاصاً أرجو ألا يكون بعيداً عن الصواب.
- ” إن الرجل الفرنسي بقدر ما يبدو إيجابياً [يبدو لنا أن الأستاذ فتوح نشاطي يقصد بهذا اللفظ السمة العملية لا الإيجابية كما يدلنا النص ] في سلوكه بالنسبة لما يمسه شخصياً في حياته الخاصة اليومية، إلا أنه في وسط الجماعة يبدي اهتماماً كبيراً بالمثاليات. وهذا الازدواج يفسر لنا كيف أن الشعب الفرنسي الذي تجري في دمائه غريزة الملكية، ينقاد بسهولة إلي النظم الاجتماعية التي تجعل كل شيء في صالح الجماعة، ولعل هذا يفسر أيضاً النكتة الشهيرة عن الفرنسيين التي تقول: «الفرنسي يحمل كيس نقوده في يمينه، وقلبه في يساره».
- «يضاف إلي ذلك الكثير من الملامح المميزة لخلق الشعب الفرنسي التي ورثوها عن أجدادهم الغاليين، ومن أهمها:
- ميلهم الذي لا يقهر إلي المنافسات الشخصية
- واستعدادهم الفطري للشجار والعصيان
- والانتماء إلي حزب من الأحزاب، أو جماعة من الجماعات.
- “ولعل هذا هو السبب في أن الشعب الفرنسي يرمز له «بالديك» لأنه مغرم بالعراك والغلبة.
- ” ويضاف إلي ذلك حبهم المتطرف للبلاغة، وهم في ذلك أنداد للإغريق،
- ” وأعتقد أن من أهم ما يتميزون به حبهم للوضوح، ونفورهم من الرموز والمعميات.
- ” ويختلط مع هذه الصفات حبهم للعدالة الذي يتحول فجأة إلي دعوة عنيفة للمساواة بين الناس، وهذا هو صميم روح الثورة الفرنسية».
ونبدأ في تصفح عدد من التجارب الخاصة التي تطلعنا عن قرب عن آراء كتابنا في أخلاق الفرنسيين وطباعهم.
يحيى حقي يتحدث عن التزام الموظفة الفرنسية
حين أراد الأستاذ يحيي حقي أن يتحدث عن الالتزام الخلقي في أداء الفرنسيات لوظائفهن في الحياة، فإنه أجاد تصوير موظفة شركة الطيران الفرنسية باعتبارها نموذجاً بارزاً ومعبراً عن الجدية في تعامل الفرنسيين مع الضيوف، ثم تناول نماذج أخري من حياة الفرنسيات مبلورا رؤيته الراقية:
«… هذه البنت الجالسة في مكتبها بشركة الطيران،
” ملبسها البسيط: زينتها”.
“لا الزينة الفاحشة: ملبسها.
” ليس في الأوراق أمامها أي اضطراب أو خلل، ليس في حديثها أي حشو فارغ”. “عليمة هي بدقائق عملها، كأن حياتها هي الأخرى وقفٌ علي إتقانه”.
يقصد يحي حقي من هذه الجملة أن يقول إنها وهبت حياتها لعملها وكأنها أوقفت هذه الحياة على اتقان العمل .
عناية بائعة الزهور بما باعته
«بائعة الزهور العجوز البدينة، التي لم تحلق شاربها لأنه ناعم كالقطيفة، الواقفة سريحة علي ناصية طريق، اشتريت منها باقة لا تزيد علي ملء اليد من زهور البنفسج، وهي أرخص الزهور، أجاذبها إياها وأستعجلها، وهي تأبي أن تسلمها لي إلا بعد أن تلفها بإحكام، وتربطها بعناية، كأنها تبيعني أغلي باقة عندها، لتجارتها أصول لا ترضي لها أن تتكسر، لأي سبب من الأسباب، أو لأي إلحاح بالتساهل، كنت في نظرها زبونا همجيا، ولكن هذا شأني لا شأنها».
«المعاملات كلها كلمة ورد غطاها، لأن البضاعة مفرزوة طبقا لمواصفات ثابتة، فلا يختلط فيها الرديء بالحسن، محددة الثمن، بلا فصال ولا غش، لكل صنف مكانه وسعره، بل المدينة كلها كأنها موضبة عن عمد لأناس صم خرس، باعتماد الرجل علي نفسه، ودون أن يفتح فمه بسؤال، يستطيع أن يصل إلي جميع أغراضه، ومَنْ شذ لغبائه أو كسله وحماقته، وتطفل علي الناس وسأل، لما تطوع له مَنْ لا يعرف بالقول بأنه يعرف، أو بأن يجعل كلامه تخمينا، أو نصف نصف».
لا يجد مَنْ يضلله
«فهو إن لم يجد مَنْ يرشده لا يجد مَنْ يضلله مع الطبطبة بحسن نية علي ظهره».
فتوح نشاطي يراهم أكثر الناس محافظة
ونعود الي فتوح نشاطي في بدايات مذكراته وبالتحديد في يوم 4 أبريل فنجده يؤكد مبكرا علي ماذهب إليه يحيي حقي فيقول:
«يشيعون عن الفرنسيين أنهم شعب لهو وخفة، وأشد الخلق ميلا إلي الهدم والتجديد ولو عن طريق الثورة، وما أراهم تحت مظاهر الخفة هذه إلا رجال جد وعمل، وهم أكثر الناس محافظة حتي في تجديدهم، إذ يعلمون تمام العلم أن الحضارة الحقة إنما هي جماع ما راكمته العصور المتعاقبة من جهود كل فرد، وعلم كل فرد، وفن كل فرد، وآلام كل فرد».
يحيى حقي يثني على الفرنسيين في تربية بناتهم
ثم نعود الي يحيي حقي وهو يتحدث عن الجانب الخلقي في تربية الفرنسيين لبناتهم حديثاً منصفاً حيث قال:
«ونسينا أن هذه الشعوب التي حكم عليها جيل مصطفي كامل بالفساد، إنما تعتمد علي أسر متحشمة تحافظ علي فروض دينها، ولا تسمح لفتاتها أن تخرج مع فتي إلا في صحبة رقيب من أهلها، ولا تجيز لفتي أن يأتي لزيارة إلا بحضرة الأسرة، فإذا تكررت الزيارة أكثر من مرتين قالوا له: يا أخينا.. أفصح عن غرضك، إن كان هو الزواج فأهلا وسهلا، وإلا فأرنا عرض أكتافك”
لويس باستور وستيفان زفيج
ويستشهد يحيي حقي علي صحة رأيه بما في ثقافته وقراءاته:
” هكذا يروي لويس باستور كيف اقترن بزوجته ، ويقول ستيفان زفيج في مذكراته: إنه لم يدرك السبب في تقدم العلوم في فرنسا وهو ثمرة جهد متصل وتكريس دائم للنفس، من قبل الدارسين، إلا بعد أن خالط الأسر الفرنسية، وشهد تحشمها والدور الكبير الذي تقوم به الزوجة في إعداد كل وسائل الراحة الذهنية والروحية لزوجها لأجل أن يتفرغ لعمله».
لويس عوض يصور تربية الفرنسيين لبناتهم
وقد عبر لويس عوض في كتابه «مذكرات طالب بعثة» تعبيرا دقيقا عن معني مراقبة الفرنسيين لبناتهم من خلال قصة عابرة حدثت له في بداية زيارته الثانية (أو بالأحري الزيارة الأولي غيرالعابرة لباريس:
” كان مفروض ف البروجرام بتاعي أني أحضر الكريسماس وعيد رأس السنة في باريس، وأشوف الفرنساويين بيهيصوا ازاي، قالوا فيه رقص ف العمودية بتاع الحي اللاتيني، رحت لابس ، ورايح من غير تردد، لقيت صالة كبيرة وف الصالة ناس كتار، وفرقة المزيكة ف آخر الصالة، لكن كان فيه حاجة غريبة حوالي ما شفتهاش قبل كدا في مراقص إنجلترا».
«لقيت الصف الشمال كله ستات عواجيز بين الأربعين والخمسين، لابسين لبس سهرة لكن ألوان حشمة، وتفصيل حشمة، ما فهمتش إيه الحكاية. ف إنجلترا كنت أحيانا تلاقي ف كل مرقص سبع تمن ستات عواجيز مخلوطين بنسبة معقولة في جمهور الشباب اللي بيرقصوا مش راضيين يقبلوا الحقيقة الأليمة، أن زمانهم فات، وأن مكانهم جنب دفايات البيوت، برضه تلاقيهم بيشربوا ويرقصوا غالبا مع رجالة من سنهم.
” إن كنت راجل عندك قلب إنساني تفهم وتعذر، بس تتأسف ع الوقار اللي بيضيع في صالات اللهو، وإن كنت راجل إحساسك ميت، وخيالك محدود تضحك وتستهزئ كل ما تفوت قدامك واحدة رقبتها مليانة تجاعيد، ولحمها التحتاني مرخر تحت الفستان، ورجليها محنية شوية….
قصة صف السيدات الكبيرات في السن
«أنا لما شفت الستات الكبار دون قاعدين ف صف واحد قعدت أفكر، دول جايين يرقصوا طبعا، طب وليه مرصوصين كدا؟ دا مش من مصلحتهم.
” لقيت بنت جميلة طويلة باين عليها النعمة، لابسة تللي أبيض مفضفض زي العروسة ليلة الزفاف، وديل فستانها نايم ع الأرض جنبها كأنه كلبها الأمين. كان شكلها من بعيد زي صورة من ريشة رومني. طلبتها رقصت معايه».
«رقصنا كام مرة حوالين الصالة وبعدين خطر لي أسألها عن الستات العواجيز اللي قاعدين ع الشمال، قالت لي: إن دول شابيرونات مش جايين يرقصوا إنما جايين يحرسوا البنات اللي ف الرقص. فهمت كمان منها إن كل واحدة من الستات العواجيز دول واخدة بالها تمام إذا كانت بنتها أو بنت أختها أو بنت عمتها رقصت مع “الفارس” بتاعها مرتين وتلات مرات، عشان مفروض إن البنت ماترقصش مع شخص واحدة مدة طويلة”
” سألتها ليه؟ قالت لي إن الولد والبنت إذا رقصوا مع بعض مدة طويلة يمكن يبتدوا يستلطفوا بعض ويعملوا علاقات، ودا مش كويس.
” قلت : معقول، وابتديت أصلح الخطوات بتاعتي ع المزيكة وأرقص كونجا زي خلق الله بعدما بوظت لها جزمتها من كتر الدوس والتكعبيل».
بيرم التونسي يقارن بين صورتي الحضارة
أما بيرم التونسي في كتابه «السيد ومراته في باريس» فقد كان حريصا علي أن يقارن بكل وضوح بين الاختلافات في صور الحضارة متمثلة في رقي السلوك، والتزام القانون، وكان حفيا بأن يدل القراء من مواطنيه المصريين بأسلوب ساخر علي بعض عيوب المصريين من خلال المقارنة بالسلوك الفرنسي العام في الشوارع، أو في الحياة العامة واليومية، وهو يلجأ في هذا إلي إدارة الحوار بين الزوج السيد (مختصا نفسه بهذا الدور) والزوجة التي يسميها مراته في كتاب «السيد ومراته في باريس».
وعلي سبيل المثال فإنه يتحدث عما صدم الزوجة، أو ما يصدم الزائر المصري لباريس حين يري أهلها من الرجال والنساء يتبادلون القبلات في الشارع، أو يعبرون عن الحب علي نحو علني، وهكذا يخرج بيرم من انتقاد مظاهر الحب العلني إلي الحديث عنه كبديل مختلف عن سلوك الطبقات الدنيا في شتائمهم العلنية بعضهم لبعض في مصر .
«… أيوه كده اعترفي بالحق.. أهوه آدي انتي بقي لك هنا مدة طويلة سمعتيش واحد واقف يذكر أعضاء التناسل علنا كدا في وسط لشارع؟ شفتيش عركة واحدة في الشارع؟».
«أبدا والنبي».
«بقي نفوت بلاوينا ونيجي هنا نقول بيبوسوا بعض.. طب ياريت نبوس بعض إحنا ، ونعبط بعض ، ونعانق بعض بدال ما احنا قاعدين نشتم بعض ونضرب بعض ونبهدل بعض».
«ابقي ألف كتاب في فن الكلام اللي بتقول عليه».
بيرم يتعجب من قدرة الفرنسيين على تفعيل القانون
حرص بيرم التونسي على إبداء إعجابه بقدرة الفرنسيين علي تفعيل القانون في حياتهم من خلال المحاكم الموجودة في أقسام البوليس، والتي كانت قادرة علي أن تحكم بالقانون في المخالفات اليومية والمناوشات التي تثور بين الناس، علي حين تذهب هذه المناوشات في مصر لتعطل جهازنا القضائي من دون أن تحصل لصاحب الحق علي حقه، مما يدعو في النهاية إلي اللجوء إلي وسائل أخري غير القانون ، بينما لا يحتاج الأمر في نظر بيرم التونسي إلا إلي سرعة إنشاء محاكم صغيرة للأمور المستعجلة :
«هنا… كل كركون (أي قسم شرطة) فيه محكمة صغيرة تحكم في الحاجات الصغيرة اللي زي دي.. مثلا فران حرق صينية، أو مكوجي حرق هدمة أو ضيعها، أو مثلا واحد جاب سمكري وشغله خمس ست ساعات وحا يعطيه أجرة فارغة، الكركون في الحال يقدر المبلغ ويرغم الراجل علي دفع الأجرة المناسبة.
” عندنا الفران يقعد يتغذي من الصينية هو وصبيانه وفي الآخر يحرقها بالعند عشان ما تبانش السرقة؟ ويقول لك روحي اشتكي والشكوي عند أفوكاتو وتعيين جلسة وحق مدني يندفع عليه رسوم. والمكوجي يسرق الحاجة اللي تعجبه ويقول لك راخر روحي اشتكي.. يعني الحقوق الصغيرة تضيع كلها هدر علي صاحبها، ما عندناش إحنا محاكم صغيرة للأمور المستعجلة اللي يفصل فيها في الحال، وعدم وجود محكمة من النوع ده بتخلي الناس تخلص حقها بإيدها، لذلك تسمعي إن واحد قتل واحد عشان بصلة، وعشان مليم».
بيرم وطبيعة الديموقراطية في المجتمع الفرنسي
والشاهد أن بيرم التونسي جمع بين الانطباعية والابداعية في حديثه عن طبيعة الديمقراطية في المجتمع الفرنسي فقال في زجل جميل:
العلم والرقص دول في معهد السوربون
أعجب عجيبة أشوفها لو ألف الكون
معهد حكومي، وحقه يشبه الكركون
لكن فرنسا لها دون الأمم أحوال
«ليبران» في الاحتفال بيصافح الشيال
وبنت سوق الخضار ساكنة مع الماريشال
والبوسطة صندوقها واقف داخل الدكاكين
الصاوي يتحدث عن ضرورة الاختلاط بالناس
تنبه الأستاذ احمد الصاوي محمد إلى ضرورة الحديث عن تجربة مهمة في حياته حين قدر له أن يدرك ضرورة الاختلاط بالناس والاتصال بهم:
«وقد علمتني الشهور القليلة التي قضيتها هنا أن أكون أكثر أنسا وأقل تحفظا وانطواء علي ذات نفسي. وهو ما في طبعي وأوثره إيثاري العزلة والمطالعة علي الجماعة، والرقص.
“وقد حدث أن اعتزلت الشهر الماضي في ضاحية متواضعة من ضواحي باريس كعزبة الزيتون، وكنت أتناول طعامي عند عانس تعيش مع أمها في بيت أنيق وتنزل عندها طائفة من الناس، فكنت نزر (أي نادر) الكلام علي المائدة لأن أحاديثهم كلها لم تكن تعجبني، أحاديث تافهة لا توقد شرارة في الذهن ولا في الفؤاد. فلما تركت بيتها وعدت إلي باريس وصفتني لأحد أصحابي الذي ورث مقعدي علي مائدتها الموحشة بأنني «متوحش جدا».
«لقد تلقيت درسا فأردت الليلة أن أنفي بنفسي عن نفسي صفة الوحشية فأقبلت علي هذه الانجليزية التي لها وأختها من جمالها ما يوقد شرارتين في العقل والقلب معا… وحدثتها مداعبا «كيف لا ترقصين؟».
«فضحكت وقالت: «في هذا الجو الماطر؟».
فقلت: «هذا أدعي… فمن وسط عجيب لا يمكن تآلفه واجتماعه في غير الشوارع العامة إلي رقص علي قارعة الطريق علي أوزان موسيقي بسيطة شبه قروية بلا تعارف سابق ولا وداد لاحق إلي رذاذ يخمش الوجوه بلطف، ويختبئ في الشعر الغزير الأشقر!».
فابتسمت قائلة: «صدقت… ولكنني أوثر الحديث».
وكانت الفتيات لا عداد لهن ينظرن إلي الشبان نظرات العطف والابتهال كل نظرة تنم عن جملة تضرع أو نداء «ألك في رقصة معي؟».
لكنه يعود إلى بيته وحيدا
ثم يصل الصاوي إلي أن يقول: ” والآن وقد أطفئت المصابيح الملونة، ورفعت الكراسي والمناضد المكدسة علي الأرصفة، وسكتت أنغام الشارلستون الهمجية، وبطلت حركة الأقدام الراقصة التي لا يعروها تعب، ونزلت الأعلام الخافقة، وتلاشت شهب النار والنور التي أطلقت من «القنطرة الجديدة» فوق نهر السين عدت إلي بيتي وحيدا، واجما، حزينا…».
الصاوي يصور احتفال الفرنسيين بيوم الباستيل
أما عن أخلاق الفرنسيين في جو الحرية ، فقد كتب الأستاذ أحمد الصاوي محمد وصفا للاحتفال بيوم الباستيل في باريس بطريقة جميلة في فقرة موحية ضمنها كل ما كان يؤمن به من عظمة فرنسا وارتباط الحرية بهذا الشعب العظيم علي نحو ما انطبعت الصورة في ذهنه من احتفالات الباستيل:
«إن لكل بلد في العالم روحا يميزه عن غيره من البلدان ويطبعه بطابعه الشخصي ولعل روح باريس هي الحرية المطلقة بأوسع حدودها في أكمل أشكالها. لذلك كان احتفالها بعيد حريتها طبيعيا لا أثر فيه للصنعة والتكلف.
“فهي حرة بفطرتها وبداهة أن تمجد فطرتها بالبساطة التي تعد من أصول الجمال”.
” لما رأيت الاستعداد للعيد قائما علي قدم وساق. وأماكن البيع المؤقتة للحلوى والزينة والثياب، واللعب بالكرات الخشبية والبلياردو الياباني وإطلاق الأسهم، وركوب الأراجيح الدائرة علي نغم الموسيقي. ولما رأيت الأكشاك المغطاة بالنسيج الأحمر ليجلس فيها رجال «الجاز باند».
“ولما رأيت الأعلام المثلثة الألوان تكاد تحجب وجه السماء لكثرتها ولما رأيت أسلاك الكهرباء تجري كالثعابين متلألئة حول المباني الحكومية السوداء الضخمة حتي تتعانق حول الحرفين الأولين من «الجمهورية الفرنسية» ولما رأيت تماثيل عظمائهم حالية [محلاة] بأكاليل الزهر من رجال الثورة إلي علماء الدولة.
تصور هول يوم الباستيل
“لما رأيت هذا كله مما يأبي الحصر، قلت في نفسي إن هؤلاء الفرنسيين قد ولدوا جميعا، أحرارا ، وإلا فمن ذا الذي رأي منهم الثورة العظمي وشاهد هول يوم الباستيل الذي قضي علي عهد الطبقات، وكسر شوكة القسوس والأمراء. من ذا الذي سمع منهم قرع الطبول وأزيز النار، وهي تمزق صدور رجال الملك؟ وتلك الصيحات الأبدية الداوية «إلي الباستيل… أهدموا الباستيل…».
أسلافهم قد اشتروا حريتهم بالدماء
” لكنهم علي ذلك يفهمون أن أسلافهم قد اشتروا حريتهم بالدماء والمهج ليموتوا فداء الوطن، فهم باحتفائهم بيوم الحرية يمجدون أولئك الأسلاف».
إعجاب الصاوي بفرنسا وإيمانها بالحرية
والحق أن الاستاذ الصاوي قد عبر باقتدار وحب عن إعجابه الشديد بفرنسا وايمانها بالحرية ، و انظر إلى قوله:
«حيا الله باريس ، إنك أينما قلبت بصرك رأيت تاريخا حافلا ومجدا موفورا وشهدت أن لهذه الأمة من ماضيها ما يفوق حاضرها ولو لم تفخر بذلك الماضي ولو أنها تجردت من عز الحاضر كله، لحق أن تتيه بذلك الماضي القريب السامي. وليس فوز أحرار الفرنسيين في هدمهم الباستيل بأيديهم وعصيهم وهم يلقون النار بصدورهم بالفوز المقصور عليهم أو علي خلفهم وحسب، بل إنه لفوز الإنسانية بأسرها، فكل من يضع حجرا في حرية أمة يزيد صرح السلام العالمي صلابة وعلوا. ودعاة الحرية وقادة الاستقلال في كل أمة هم أنبياء هذا العصر، وإذا كان لكل دين جاحدون فان الكفرة بهؤلاء الرسل هم أساطين الاستعمار وأذناب الأوتوقراطية والطامعون في بناء هياكلهم علي جماجم الضعفاء.
النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014