لماذا يتيه الشانزيليزيه على شوارع الدنيا
السؤال الأول الذي يحب الناس تكرار الإجابة عليه كما يحبون تكراره : ما الذي يميز الشانزليزيه عن بقية شوارع الدنيا حتي يحتل من بينها هذه المكانة المرموقة؟ و الإجابة لا تتمثل في رد واحد و لا حقيقة واحدة وإنما هي إجابات متعددة من بينها اتساعه، وجماله، وبدايته، ونهايته، ومحلاته، ومقاهيه، ومحطاته، وسهولة الوصول إليه، والعودة منه، وسهره، وحريته.
لكنك تستطيع أن تلمح في الشانزليزيه كل المتناقضات، ففيه هؤلاء الذين يسيرون بأسرع من ركضة الخيل ، وفيه أيضا مَنْ يسيرون سير السلحفاة، وهؤلاء وهؤلاء يحققون ويجدون متعتهم البالغة في هذا السير.
الشانزليزيه معرض حي للأزياء
وتستطيع أن تلمح أيضاً أزياء تقليدية وأزياء لم ترها من قبل، وتستطيع أن تري ذلك الالتزام الديني في الزي، كما تستطيع أن تري التحرر المطلق من كل ثوب ، ومن كل التزام.
وفي أحيان كثيرة تعجب من هذا التناقض الصارخ في الزي الذي ترتديه سيدة واحدة، فبينما هو يصل إلي أقصي درجات الاحتشام في النصف العلوي، إذا هو قصير جدا وكأنه حسب تقاليدك يصل إلي أقصي درجات التحرر في النصف السفلي، بل ربما إنه يغيب تماما عن الركبة وعما فوقها بكثير، ومن الطريف أنك تري في بعض الأحيان صورا رسمية لسيدات سياسيات وهن في مثل هذا الزي أو ذاك ، لكنك إذا جلست في الشانزليزيه لتتأمل فيمن يمرون أمامك فسوف تجد ما هو أكثر غرابة من هذا بكثير.
معرض السيارات الحية
من المتعارف عليه بيننا أنك تستطيع أن تشاهد أحدث صيحات السيارات من كل جنسية وهي تجري في شارع الشانزليزيه ، وعن خبرة طويلة فإنك في خلال ربع ساعة فقط سترى موديلات لم ترها من قبل ، ثم تعود إلى وطنك وتمر سنوات حتى تراها وقد دخلت الخدمة كما يقولون ، لكنك بالإضافة الى ما تراه وهو يجرى تستطيع ان ترى في الشانزليزيه مجموعة معارض للسيارات الأكثر شهرة في العالم اذ لا يليق بتويوتا مثلا الا يكون لها معرض حي و فخم و متميز في مبنى مستقل بذاته في الشانزليزيه .
وأنت تري في الشانزليزيه أيضا معارض متعددة لشركات السيارات اليابانية وقد أخذت الطابع الباريسي في العرض، وحافظت علي كل ما في المبني نفسه من تقاليد باريس، حتي إنك لتحس وأنت تري معرض شركة «تويوتا» أنه قائم هنا منذ ولدت باريس، وتجد مبني كاملا لشركة يابانية أخري، بل تجد مبني ثالثا لشركة كورية ، وقل مثل هذا عن الماركات العالمية الكبرى وهكذا هي الحياة التي تعطي للناجح مكانه على المسرح .
وبالطبع فان لشركة ستروين الفرنسية معرض متميز كما أن لشركة رينو معرض ضخم في امتداد الشانزليزيه في الجراند آرميه ، فإذا لم تجد لشركة كبيرة معرضا في الشانزليزيه فاذهب الى شارع سان سير القريب من الشانزليزيه فسوف تجده موازيا للشانزليزيه في هذا المضمار .
ربما أضيف لك مفاجأة طريفة وهي أن كثيرا من سارات أو لوريات النقل الثقيل ( الكاسحات أو الكساحات) مسموح لها بالمرور في الشانزليزيه ، و بخاصة أنها تنقل مواد حيوية للتعمير و التجميل، وهكذا يمكن لك أيضا أن ترى الجديد في ذلك العالم المثير .
معرض الموتوسيكل أروع من معرض السيارات
وأنت تري في الشانزليزيه معرضا للبيجو فيفاجئك المعرض بأنه يعرض طرز الدراجات البخارية التي تنتجها شركة البيجو، وربما تكون هذه المرة الأولي التي تعرف فيها أن بيجو تنتج دراجات بخارية، فلم يحدث لك أن رأيت موتوسيكلا بيجو!! لكنك سرعان ما تجد أن هناك ما يقرب من مئة طراز من طرازات موتوسيكل البيجو، وأن التفاوت في إمكاناتها لا يقف عند حد، وتتعجب من هذا المعرض العظيم الذي تراه أكثر جاذبية من معارض السيارات التي تأكل السيارات مساحات العرض فيها، حتي ليكفيك أن تشاهدها وأنت في الشارع، أما معرض الموتوسيكل فحياة أخري وثراء آخر في الفرجة و المتعة والفن.
باريس قبلة حقيقية
تدرك علي الفور أن باريس متسامحة في محلات الشانزليزيه، لكنه السماح مدفوع الأجر، وتظن أن باريس تتسامح في كل شيء لكنها لا تسامح إلا فيما هو محل السماح، فما الفارق بين أن تعرض تويوتا سياراتها بنفسها أو من خلال تويوتا الفرنسية، وبين أن تعرضها شركة لبيع السيارات كشركة الفرسان أو شركة الخيول؟
إن الأولي أن تفسح باريس صدرها الذي في الشانزليزيه لأسماء هذه الماركات العالمية حتي تكون قبلة حقيقية ومنارة حقيقية.
معارض العطور
وأنت كقاهري تستمتع بالمرور علي كثير من معارض العطور ولا نقول محلات العطور ، وفي المبنى الذي يضم ماريوت الشانزليزيه تجد محلا من سلسلة محلات العطور « سيفورا» فتروعك مساحته الضخمة، ونظامه البسيط المبهر، ويروعك هذا التسامح المقصود الذي يبذله المحل عن طيب خاطر لكل المارين به والمارات الذين يذهبون إلي أي قسم يريدون ويتعطرون مجانا، بل وبإمكان الآنسات والسيدات أن يضعن مساحيق التجميل بدرجاتها وأنواعها كما يشاءون أو كما يشئن، وكل هذا علي سبيل العينة، ولم يشك «سيفورا» أبدا ولم يصبه الفلس، وهو نموذج رائع لهذا العطاء التجاري الذكي الذي لا تقيده بيروقراطيات، ولا تستطيع أن تقيده.
الطهطاوي يُبدع في وصف “الشمزليزة”
أما وصف رفاعة رافع الطهطاوي للشانزيليزيه فبديع:
«فمنها حديقة تسمي “الشمزليزة” (هكذا كان رفاعة يكتب الشانزليزيه متأثرا بالحروف اللاتينية للكلمة)، معناها بالعربية: رياض الجنة، وهي من أرق المتنزهات وأنضرها، وهي بستان عظيم يبلغ أربعين أربانا، والأربان هو قياس يقرب من الفدان، ومع أن طول طريقها نحو ألف قامة فإنها موضوعة بحيث أنك إذا مددت نظرك رأيت طرفها الثاني قدام عينيك”
” وفي هذه الروضة العظيمة دائما شيء من الملاهي لا يمكن حصره، وسائر أشجار هذا البستان متصافة [مصفوفة ] متوازية بعضها مع بعض، رتبت بحيث إنه يوجد مدخل من كل الجهات، فهو علي سمت الخطوط المستقيمة من سائر الجهات، وفي وسط كل جملة من الأشجار يوجد محل مربع.
“وهذه الحديقة يتصل أحد جوانبها بنهر السين، وبينها وبينه رصيف، وبجانبها الآخر بيوت بأطراف الخلاء، وفيها كثير من القهاوي و”الرسطراطورات” (هكذا كان رفاعة يكتب كلمة المطاعم، وهي كتابة دقيقة من مقابلة حروف الهجاء الفرنسي)، يعني بيوت الأكل، وفيها سائر أنواع الطعام والشراب”.
“وهي مجمع الأحباب والأكابر، وبها كثير من المرامح للخيل، ويدخل فيها الأكابر بالعربات المزينة، وفيها عدة آلاف من الكراسي بالأجرة يجلس عليها في زمن الربيع نهارا، وفي الصيف ليلا، وأعظم اجتماع الناس فيها يوم الأحد، فإنه يوم البطالة (أي يوم الإجازة أو يوم الراحة) عند الفرنساوية، وبالجملة، فهذه الحديقة محل للمواسم وللأفراح العامة والزينات، وبها تتماشي سائر النساء الجميلات.
شيخ العروبة يصف الشانزيليزيه
وبعد عقود من الزمان وصف أحمد زكي باشا الشانزليزيه في العام الفاصل بين القرنين التاسع عشر والعشرين أي عام 1900 فقال:
«وسرت بجلال ووقار، بين عبير الأزهار، وتمايل الأشجار، وتغريد الأطيار، حتي خلت نفسي قد انتقلت إلي عالم كله أسحار في أسحار، او إلي عالم الجنون بل ملكوت الجنان. كيف لا، وقد كنت أسير في طريق الشانزليزيه (أي جنات النعيم)، والأشجار متناسقة متتابعة علي ستة صفوف بين صنوان وغير صنوان».
د. محجوب ثابت يرى الشانزيليزيه إلى بولونيا
تحدث الطبيب والسياسي المصري الدكتور محجوب ثابت عن الشانزليزيه فقال:
«ولا يفوتني أن أذكر لك ذهابنا إلي غاب بولونيا إذ تتوقنا (يقصد: اشتقنا) أن نري هذا الغاب «بوادي بولوني» والشانزليزيه التي لا أقدر علي ترجمتها ولا يجوز أن تترجم وهيهات لترجمة أن تعطي رنينها أبدا، أو «الرياض الفردوسية» إذا أردنا الترجمة الحرفية، وهي تعطي الصورة النفيسة التي أرادها الفرنسيون”.
” لا أجد لفظاً أصف به ذلك الطريق السحري الموصل من ميدان الكونكورد إلي غاب بولونيا وتري قوس النصر الذي ذكرنا بهذه الصحيفة النابليونية التي سجلت ميادين القتال».
تعبير فتوح نشاطي عن إحساسه بالشانزليزيه
أما فتوح فإنه يعبر عن إحساسه بالشانزليزيه بطريقة شاعرية تنتهي باقتباس بيتين لخليل مطران لم ينظمهما الخليل في ذلك الشارع، لكنهما يبدوان مناسبين له تماماً بفضل ذوق فتوح نشاطي:
«… وأشاهد في إعجاب التماثيل المتناثرة في الحدائق والميادين، وأقف في زهو أمام مسلتنا المصرية التي ترتفع في وسط ميدان الكونكورد وقد ترامي أمامها شارع الشانزليزيه الصاعد إلي قوس النصر، تطل من خلفه شمس غاربة ترسل في السماء ألوانا مختلفة تخلب اللب والبصر، فتذكرني بأبيات لخليل مطران يقول فيها:
والشمس في أفق يسيل نضارة |
|
مثل العقيق علي ذري سوداء |
مـرت خــلال غمامتين تحدرا |
|
وتقطــرا كالدمــعة الحمــراء |
الشوارع المحيطة بميدان النجمة
من الطريف أن أسماء الشوارع الاثني عشر المحيطة بميدان النجمة أو الإيتوال (أو إيتوال شارل ديجول) هي في معظمها أسماء لقادة من قادة نابليون، علي حين أن اسم نابليون نفسه ليس موجودا علي شارع من هذه الشوارع.
أما الشوارع البحرية فهي بترتيب القادم من الكونكورد (سواء أكان قادما علي قدميه أم بالسيارة): شارع فريدلاند، يليه شارع أوش، وثالثها هو شارع فاجرام، وهو من قادة نابليون، ثم مكماهون، ثم كارنو.
أما الشوارع القبلية فهي بالترتيب للقادم من الكونكورد علي قدميه (ولا تقل بالسيارة لأن الترتيب يكون بالطبع عكس هذا): مارسو، ثم إيينا وفيه سفارة مصر ، ثم كليبر القادم من ، ثم فيكتور هوجو، ثم فوش.
وإني أذكر بسعادة أني قطعت كل واحد من هذه الشوارع الخمسة علي قدمي مرات عديدة حين كنت آتي إلي الشانزلزيه [من ميدان التروكاديرو مثلا أو مما بعده من الناحية الأخرى من النهر].
لا فتات عربية في شوارع باريس
وليس من النادر أن تجد الآن لافتات عربية كثيرة في شوارع كثيرة من باريس، ففي الحي السابع عشر الذي أقمت فيه في 2006، باعة عرب كثيرون يعرضون أسعار مبيعاتهم باللغة العربية بل إني وجدت مكتباً للاتصالات يشبه المكاتب اليمنية وقد رفع في واجهته أسعار دقيقة الاتصالات إلي بلاد عربية كتب أسماءها بحروف عربية مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس.
والمطاعم العربية الفاخرة أصبحت تزداد باطراد، واني أذكر لك علي سبيل المثال أني أعجبت بلافته تشير إلي مطعم فخر الدين وهو مطعم عربي يطل علي شارع مارسو، زرته في طريقي إلي الكافتيريا الشهيرة «كورونا» في مساء يوم من أيامي في باريس.
ميدان الكوندورد في شعر شوقي
نكرر عليك ما تعرفه من أن ميدان الكونكورد (الوفاق) بباريس هو الميدان الذي أعدم فيه الملك لويس السادس عشر في أيام الثورة الفرنسية. وبهذه الحادثة يذكره أحمد شوقي في أشعاره ، و يتفلسف في الحديث عن معني اسمه في الحاضر، وما ارتبط بالميدان في الماضي من مظاهر الشقاق في الثورة فيقول:
ميدان الوفـاق، وكنــت تدعي |
|
بميدان العداوة والشقاق |
أتدري: أي ذنـب أنـت جــان؟ |
|
وأي دوم ذهبت به مراق؟ |
ويكني أحمد شوقي عن إعدام الملك بقوله “: هوي السرير” ومن عليه، وهو يخاطب الميدان بقوله:
هوي فيك السرير ومَنْ عليه |
|
ومات الثائرون، وأنت باق |
أصابوا واستراح (لويس) منهم |
|
لذا سميت ميدان الوفاق
|
وصف د. هيكل لحي مونمارتر
وننتقل من الشارع الأشهر والميدانين اللذين يصل الشارع بينهما إلي الحديث عن بعض الأحياء. و نبدأ بحي مونامارتر. و في مذكراته التي لم تنشر إلا بعد وفاته بأربعين عاما وصف الدكتور محمد حسين هيكل حي مونمارتر في تلك الحقبة من الزمان التي كانت لاتزال قريبة من عهد مجد هذا الحي، مشيراً إلي أنه ذهب إلي بؤرة من بؤرملاهيه بناء علي نصائح صديق له :
«… وبعد تخبط طويل في البحث عنها وصلتها الساعة العاشرة ونصف مساء، (فإذا بي) مبدر (يقصد: مبكر) أكثر من اللزوم».
«في مثل هذه الساعة يوجد في تلك الجهة من باريس كما يوجد في غيرها عائلات تريد أن تفرج الكرب عن نفسها، فإذا ما انتصف الليل وخلا الجو لأصحاب السهر ابتدأ يحل محل هؤلاء (شبان) وبنات مونمارتر”
” ويدخل السرور إلي المكان بشكل فظيع سرور غير مرتب، ويملأ وجه كل إنسان، فتدور البنات بين الترابيزات ويلبسن برنيطة هذا ويرتدين رداء ذاك ويصحن ويدخن ويجذبهن الشبان نحوهم، والموسيقي تدق بنغمات شديدة، ويتتابع المغنون والملحنون أشكالا وألوانا.
” ومن لحظة لأخري ترن في المكان ضحكة من بعض النواحي التي أخذها جماعة معا من الشبان، وكأن في ذلك الجو المملوء بالدخان حتي ليختنق مخدرات تذهل كل مَنْ فيه عن همومهم ولا تدع مكانا إلا للضحك والسرور، وسط هذه الضجة الفرحة بقيت أنا وحدي ساكنا حتي الساعة الثالثة بعد نصف الليل».
رؤية توفيق الحكيم لحي مونمارتر وحي مونبارناس
أنتقل بك مباشرة إلي توفيق الحكيم وهو يفرق بين حيين من أحياء باريس لهما اسمان قد يتشابهان علينا نحن المصريين (مونبارناس ومونمارتر)
لكن الحكيم يري أحدهما حيا للتجارة بالفن.
ويري الآخر حياً للحياة بالفن.
ونحن نقرأ تفاصيل رؤية الحكيم هذه في أحد حواراته المصنوعة باتقان:
” صمت جان لحظة. ثم رفع رأسه وهزها ثم قال:
– كلا. كلا يا مسيو «الحكيم». كلا. حياتنا نحن في هذا الركن الحقير. قهوة «سيرانو» وأمثالها وحانات «القط الأسود» و «الأرنب الخفيف» وأرستيد برويان» و «الجنة» و «الجحيم»… الخ… تلك مونمارتر الحقيقية. أما «الفأر الميت» وأشباهه فمصايد لاقتناص المال من جيوب الثراة.
تفكرت قليلا في كلامه فوجدته الصواب فصحت:
– برافو يا جان! مرحي وألف مرة مرحي! هذا كلام عميق ما تقول الآن. هذا حق. أتعلم لماذا تركت أنا مونبارناس وجئت أعيش في مونمارتر؟ أحسست بما تقول أنت الآن: إن روح التجارة وقنص المال تكاد تعم مونبارناس الذي ينافس حينا هذا حتي ليكاد يقتله. شعرت أن مونبارناس ليس إلا حيّ السائحين من جميع الأجناس. وحيث يظهر السائحون يظهر البذخ والكذب والادعاء. نعوت ثلاثة يهرب منها الفن هربا.
مرتع الفن الذي خلده موريس أوتريللو
” وأحسست من ساعتي أن مونمارتر في أنحائها السافلة الفقيرة ما تزال مرتع الفن الخصيب والفكر الحر. نعم لكم تنتعش نفسي إذ أجوس خلال هذه الجهة: شارع «روششوار»… شارع «بلانش»… ميدان «ترتر». تلك المناطق المتواضعة التي خلدها موريس أوتريللو في صوره ولوحاته” .
توفيق الحكيم يصف سعادته بالعيش في حي مونمارتر
ويمضي توفيق الحكيم بعد فترات يعبر عن سعادته القصوي بحياته في حي مونمارتر فيقول:
– أسكت يا جان! لا تذكرني بالغد. إني الآن أعيش. حسبي هذا. أعيش في مونمارتر. فردوس الفن… الذي سأفقده يوما. سوف أذكره مع الحسرات وأذكر حياتي الشاردة بين قهوة سيرانو. وحانة «الأرنب الخفيف». وسوف تتمثل لي كل لحظة تلك الحانة المظلمة بنورها الضئيل وروادها الجالسين إلي براميل انقلبت موائد ينظرون إلي رسوم علي الحيطان وتماثيل كلها ذوق في التصور ولذع في الفكاهة وغرابة في الأداء، وينصتون إلي أغاني القرون القديمة، وقد بعثت في ثوب جديد من مغنين وشعراء حديثين موهوبين. ويشربون «البورتو» ممزوجا بالكرز ويضحكون من نكات الساقين الظرفاء مثلك ياجان. تلك النكات الرشيقة المبطنة بحسن الذوق وعلو الكعب في التخيل والشعر… حانة ساقوها وخدامها شعراء ومغنون أليس منهم نبغ «كاركو» و «دورجليس»؟ كما نبغت «إيفيت جيلبير» من قبل؟
” فقال خادم القهوة (جان) سريعا في إعجاب يلمع في عينيه:
– أوتريللو؟ لقد آتي هنا أيضا وجلس في هذا الركن وسمعت حديثه!…
– في هذه القهوة! وأي غرابة؟ … إنه لا يستطيع رغم شهرته الآن أن يسلو حياة التشرد في مونمارتر. ولا أن يهجر هذا الحيّ الذي نشأ فيه. ما أجمل هذا الإخلاص! إنه ولا ريب المحب الأمين الذي لم تبرد عاطفته نحو مونمارتر! لدي بعض صور منقولة عن لوحاته. لكن لست أنظر فيها الآن كثيرا. إني أدخرها للغد يوم لا أجد عزاء غير الصور. أما الآن فان مونمارتر تحتويني بذاتها وحقيقتها وتهمس في نفسي بكل شعرها وبكل موسيقاها الداخلية التي لن يخفت لها صدي ما دمت أعيش». وسكت قليلا إذ بدا علي شيء من التأثير. فسألني جان: أتنوي أن تعيش هنا طويلا؟”
الحكيم يشبّه حي مونمارتر بشهرزاد
والحق أن أبدع وصف لحي مونمارتر الذي هو حي الفنانين هو وصف توفيق الحكيم له، وقد انطلق الحكيم إلي هذا الوصف من خلال تشبيه مونمارتر بشهرزاد، التي أحبها الحكيم وكتب عنها مسرحية جميلة، وقد رأي الحكيم في مونمارتر الحي صورة من شهرزاد الأنثى الفاتنة الحكيمة، وهو يخاطب محاوره “جان ” حواراً طويلا يكاد يكون مونولوجا من طرف واحد يتغزل فيه الحكيم ما شاء الله أن يتغزل في مونمارتر وصفاتها ومزاياها وسجاياها فيقول ضمن ما يقول:
«إن مونمارتر هي شهرزاد. وإني – لو عرفت الحقيقة – ما قطنت هذا الحي عبثا. ولسوف تقرأ «شهر زادي» وتتعرف فيها ملامح مونمارتر. إن «شهرزاد» في نظري لم تكن يوما قصة الخيال والبذخ والخرافة كما فهمها الشاعر «كاتول منديس» في قصيدته… والموسيقي «رامسكي كورساكوف» في قطعته السانفونية.
“لكنها عندي قصة الفكرة والحقيقة العليا. قصة الروح التي خرجت من المادة. كذلك مونمارتر التي اشتهرت بلهوها وانغماسها في بؤرة المادة… أي روح تخرج منها كل يوم فياضة بالخلق والابداع! مونمارتر هي تلك المرأة اللعوب ذات الروح العميقة. هي غانية تنام النهار وتسهر الليل تكشف لعشاقها عن محاسن الحياة وأسرار الحياة.
” هي أيضا كشهرزاد تعمر الليل بأقاصيصها وحكاياتها عن الحب والفن حتي الصباح فتسكت عن الكلام المباح وغير المباح! ولكن شهرزاد قالت ما عندها في ألف ليلة وليلة، ثم سكتت سكتة الأبد لأن زوجها وعشيقها شهريار كان قد أصغي إليها وانبهر مما سمع فزالت عن عينيه غشاوة الماضي. وأبصر ما في الحياة وما بعد الحياة من معان وأسرار. وأدرك أنه قبل أن يعرف شهرزاد ما كان إلا طفلا يلهو ويعبث كل ليلة بزوجة يقتلها في الصباح. فاذا هو مع شهرزاد يري في الحياة أشياء أخري غير مجرد اللهو والعبث. إن شهرزاد مربية شهريار ومثقفته في ألف ليلة وليلة قد صنعت منه رجلا. ثم صيرته بعد ذلك شيئا آخر غير الرجل: ما بعد الرجل…
«مونمارتر كذلك تدخلها طفلا يلهو فتصير رجلا يشعر ويحس ثم تتركها مخلوقا يتأمل ويفكر… أي تأمل وأي تفكير؟
“شهرزاد قامت بمهمتها في ألف ليلة وليلة. أما مونمارتر فتقوم بمهمتها في كل ليلة منذ مئات الأعوام… لا مع رجل واحد. لكن مع رجال كثيرين. لا مع كل إنسان. لكن مع الانسان الذي يصغي إليها ويجلس بين يديها ويعرف لغتها ويفهم عنها وينفذ إلي روحها السحيقة من خلال ظاهرها اللاهي الماجن المبتذل الخفيف. نعم يا جان. بل إني أريد أن أقول أكثر من هذا “.
ذكريات يحيي الجمل مع أستاذه جابر جاد في باريس
لعل أخف أو أطرف الذكريات عن “مونمارتر” وحي الفنانين حيث موقع كنيسة الساكركير ما يرويه الدكتور يحيي الجمل عن زيارة أستاذه الحبيب إلي قلبه الدكتور الدكتور جابر جاد عبد الرحمن لباريس، وحرصه علي طقوس معينة في كل زيارة باريسية:
«مازال يذكر أن الدكتور جابر قال له إني مسافر غدا إلي القاهرة وأريد الليلة أن أشرب “شوربة بصل” في مطعم معين في “مونبارناس”، وأنه يريد أيضا أن يزور “مونمارتر”، وأن تلك بعض طقوسه في كل زيارة له إلي باريس».
«لم يكن أمامه إلا أن يقول: “حاضر ياسيادة العميد”، وهو واثق أنه لو كان صاحب هذا الطلب شخص آخر غير “جابر جاد” ـ أيا كان موقعه ـ لاعتذر له. بل إنه يظن أنه لو كان جابر جاد نفسه مازال في منصبه مديرا لجامعة القاهرة لاعتذر له أيضا، ولكنه جابر جاد الذي يحبه، والذي خرج علي التقاعد ولم يعد صاحب سلطان، لذلك لم يجد غير أن يقول: “حاضر.. علي الرحب والسعة”».
«ووصلا إلي باريس.. ومداخل باريس صعبة علي غير العارفين، وإن كانت الإشارات لا تترك فرصة للضياع إلا مَنْ كان يصمم علي الضياع».
«ودخلا باريس واتجها إلي “مونبارناس” فإذا بهما ـ لحسن حظه ـ يجدان المطعم الذي يريده الدكتور جابر جاد قد أغلق أبوابه، لأن الوقت قد تأخر ولم يكن اليوم هو نهاية الأسبوع حيث تتأخر ساعات الإغلاق، وقال صاحبنا إنه يعرف مطعما آخر اشتهر عنه أيضا إجادة “شوربة البصل”، ووافق الدكتور جابر علي الذهاب إليه، وكان المطعم الآخر أيضا في منطقة “مونبارناس”، ولكنهما وجداه هو الآخر مغلقا».
«ولم يكن أمامهما إلا أن يذهبا إلي المنزل لقضاء بعض حوائجهما ثم يتجهان بعد ذلك حسب رغبة الدكتور جابر إلي مونمارتر لزيارة كنيسة “الساكركير” أو “القلب المقدس”».
«وفي المنزل حاول أن يفتح بعض المعلبات التي بها “شوربة” ويضعها علي النار، في حين جلس الدكتور جابر أمام التليفزيون، ولاحظ هو أن الدكتور جابر بدأ يغفو وبدأ التعب يحل عليه، وكان هو أيضا أكثر تعبا، وقليلا قليلا بدأ صوت الدكتور جابر يرتفع، وأدرك صاحبنا أنه استغرق تماما في النوم، فاقترب منه قائلا في مكر ريفي: “سيادة العميد.. سيادة العميد.. قم بنا لنذهب إلي مونمارتر”، وأشاح الدكتور جابر بيده قائلا: “مونمارتر إيه وبتاع إيه.. أنا أريد أن أنام”،
” وسر صاحبنا سرورا شديدا وهو يقول له: “طيب قوم” غير ملابسك وادخل السرير.”
الأستاذ الصاوي يتحدث عن الحي اللاتيني وبناته
ونص إلي الحي اللاتيني الذي يتكرر الحديث عنه في الأعمال الأدبية العربية برتابة وإعجاب. و هذا هو الأستاذ أحمد الصاوي عن الحي اللاتيني وفتياته علي حد تعبيره الذي يقصد به بنات فرنسا الشابات فيقدم تشخيصه القائل بأن الصراع في اللاتيني صراع بين العقل والنزوات، وليس صراعاً بين العقل والعواطف، ومن الحق أن هذا التشخيص دقيق وصائب، كما أنه غير مسبوق، بيد أن الأستاذ الصاوي لم يكن من الذين يجيدون استثمار أفكارهم العبقرية بالإكثار من الحديث عنها:
«تسألني عن الحي اللاتيني وقد سلخت فيه السنين؟
إنه حي الحب والحرب! حرب غرام لا هدنة معها ولا سلام، نضال دائم بين العقل والعواطف، كلا لقد أسرفت! فليته كان نضالاً بين العواطف والعقل، إذاً لكان أسمي وأعلي وأدعي إلي تخفيف مرارة التجربة. إن للعواطف قدرها وفضلها في تهذيب النفس، وترويض الفكر، وتخصيب الذهن.
” لكنه نضال بين العقل والنزوات. إن العاطفة شيء آخر بعيد عن تلك الشهوة الطارئة التي لا تأتي حتي ترحل غير مأسوف عليها، بل مأسوف منها واسمها النزوة».
«فتياته لا عهد لهن ولا زمام».
اجتماع ثقافات الشعوب
ويضرب الأستاذ الصاوي المثل بفتيات شعوب مختلفة يعشن في الحي اللاتيني، لا بالفتيات الفرنسيات وحدهن:
«وتجد فتيان للصين بعيونهم المنتفخة المشقوقة كأعين الهرة القابعة في الشمس، قد استأثروا بفتيات معينات جميلات صغيرات يروحون ويغدون معهن طوال أيامهم ولياليهم علي جانبي بولفار سان ميشيل، وفي حاناته وأزقته، وأينما دخلت وجدت من ثعلبة الصين آثاراً».
«وتجد أولئك الفتيات اللواتي آثرن أو حكمت عليهن السماء بصحبة “أبناء السماء” كاسفات اللون، عليهن غيرة، كما لو كنّ قد لحقتهنّ من أفيون الصين؟! ولا عجب فنهارهن ليل، وليل باريس فتاك شتاؤه يهرئ الأبدان، وصيفه ليس له أمان».
«وهؤلاء زنوج “المارتينيك” بلونهم القاتم الشاحب، وهم علي هذا اللون المبتذل ذوو عجرفة تراها في أنفهم الأفطس المرفوع إلي السماء، وهم يصرون علي أن يصحبوا الفتيات الشقراوات، وإنه لتناقض يلفت النظر ليصرفه آسفا علي أسف، فإن هذا هو الرقيق الأبيض بين السمع والبصر …. ».
«وهذا صيني قد عشش في رأسه الذباب، وتلوث وجهه الفاقع بالهباب، تراه فلا تشك لحظة في أنه لا يعرف شيئاً اسمه الماء، وملابسه كشكول عجيب لا أدري كيف وفق هذا التوفيق في جمعها، وهو لاريب قد شعر بالأنظار حائمة عليه، وإن لم يعر أحد غير صاحبته التفاتا، فأخرج من جيبه ألوفا عدة من الفرنكات وألقي بها علي الخوان وضربها بيده وصاح “شرابا”، وأن الندل يسرعون متهافتين علي خدمة هذا المخمور من أجيال، كأنما سيكيل لهم ما معه من المال!».
الصاوي يقدم النصيحة
ثم إن الأستاذ الصاوي يقدم النصح المباشر بالطريقة المعهودة في النصح المباشر، وهي الطريقة التي تدفع إلي ارتكاب المحظور فيقول:
«وكيف يحفل الفتي بهذا كله وهو إذا حفل ببعضه فقل عليه ألف سلام!».
بسكال و رينان و أناتول فرنس
«إن هذه الغواية ليست لها غاية ولا نهاية.. ومن ذا الذي يقف علي أفكار “بسكال”، أو علي تذكارات شباب “رينان”، أو علي أية قصة من قصص “أناتول فرنس” وتلهيه فتاة؟ إنك في الكتاب تجد نفسك تعرفها وتهيم بها حبا، في حين أنك لا تجد في الفتاة غالباً إلا صورة أميالك (أي: ميولك) الغريزية وهي جزء من نفسك، لكنها جزء من كل.. نفسك عالم.. وأميالك (أي: ميولك) دولة في هذا العالم!».
الصاوي: الحي اللاتيني الاختيار الأمثل للشاب
علي أن الأستاذ أحمد الصاوي محمد مع هذا كله يري أن الحي اللاتيني يمثل الاختيار الأمثل للشاب كي يسكن فيه، ويختبر قدرته علي النجاح في حياته بإرادته الحرة:
” وقصاري القول: إن هذا الحي هو محك معادن الشباب، فالذي يهرب من الحي اللاتيني يظل جاهلاً نفسه، والذي يقتحم الحي اللاتيني ليس أمامه إلا واحد من اثنين: فإما العمار، وإما الدمار، ولا ثالث لهما، اللهم اكتبنا في عداد الفائزين!
د. حسين فوزي وذكرياته في السوربون
وهذه فقرة من فقرات الدكتور حسين فوزي حين يتحدث عن ذكرياته في السوربون، وهو يذكر وزيرين رآهما يستقلان المواصلات العامة كعامة الناس:
بانليفيه و شيرون
«ولا أنسي منظر العلامة الرياضي الكبير جان بانليفيه، وكان قد تولي قبل وصولي رئاسة الوزارة ثم تركها، منحدرا علي سلم السوربون، حاملا حافظة أوراقه (أي حقيبة يده بلغة عصرنا)، ومتجها إلي محطة الأتوبيس بشارع المدارس، ولا المسيو شيرون، من وزراء المالية السابقين، وقد شاهدته نازلا من الأتوبيس أمام باب لوكسمبور (مقر مجلس الشيوخ) ليؤدي واجب عضويته بذلك المجلس».
د. محجوب ثابت وسكناه في الحي اللاتيني
يروي الدكتور محجوب ثابت قصة سكناه في الحي اللاتيني بعد أن سكن بعض الوقت في شارع شاتو بريان ، وكان قد انتقل إلي الحي اللاتيني لأنه حي الدراسة ولأنه راقته حديقة اللوكسمبورج وقد خطط هو وزميله أن يسكنا عند أسرة «جيرود» التي كان عبد الرحمن باشا سيد أحمد عم زميله مراد باشا سيد أحمد قد سكن عندها من قبل.
« …. فنزلنا عندها واتخذت غرفتي وطعامي هناك وكانت في شارع صغير اسمه «شارتريه» في آخر شارع «دساس» وكنا نري من شباك غرفتنا شارع المرصد (Av. de l’observatoire) أمام مستشفي الولادة المشهور ترنييه (وهو) المولد (أي طبيب النساء والتوليد) الفرنسي الكبير المنسوب إليه «جفت الولادة» المعروف،
“وكنا قبل ذلك في منتهي شارع دساس نمرة 134 حيث كان ينزل المرحوم رشدي باشا [يقصد : رئيس الوزراء حسين رشدي باشا] أيام كان قاضيا في المحاكم المختلطة. وما كان أبسطه في روحاته وجيئاته وما أحلي دعاباته مع الدكتور عثمان غالب حين مر علينا ونحن جلوس بقهوة «سوفليه» ذات مرة علي شارع البولفار «سان ميشل» أو «البول ميش» وشارع المدارس الذي به السوربون..».
النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014