لا جدال في أن كان الدكتور محمد حلمي مراد 1919-1998 كان معارضا سياسيا من طراز نبيل، وقد تمثلت قيمته الأولى فيما كان وجوده يبعثه و يبثه و يشعه ويشيعه من الإلهام ، فقد كان وجوده في الحياة السياسية إلهاماً صادقاً بالعطاء الحقيقي الذي لا ينتظر مقابلاً، بل يعد بالمعاناة التي هي من أسمى درجات العطاء الوطني . وفيما قبل هذا فقد قدر لهذا الرجل أن يبقى رمزا فقد أوذي في حريته و دخل السجن في عهد الرؤساء الثلاثة عبد الناصر و السادات ومبارك ومع هذا فإنه لم ينسحب و لم يغترب، ومن الحق أن نقول إنه اجتهد كثيرا بل كان اجتهاده بأكثر مما ناله من تقدير، لكنه لأسباب لا تخفى على أحد ظل منخدعا أو خادعا لنفسه فيما بين ١٩٥٤ و ١٩٦٨ حين قدر له أن ينتبه وأن ينبه وأن يواصل التنبيه طيلة ثلاثين عاما تالية توجت حياته الثرية الخصبة .
قيمة الإيحاء الإيجابي
جمع هذا الرجل النادر في أفكاره بين الانتماءات الإسلامية والقومية والمستنيرة والاشتراكية وظل على مذهبه في الولاء الوطني مهما كلّفه هذا من إجهاد وإنهاك وإعراض من النظام والأمن ورجال السياسة، ومع أنه كما ألمحنا ، في الفقرة السابقة لم يقم بواجبه المعارض إلا في نهاية عهد الرئيس جمال عبد الناصر ثم طوال النصف الثاني من عهد الرئيس أنور السادات فإنه أضاف إلى هذا معارضة دؤوبة ومتصلة طيلة عهد الرئيس حسني مبارك، وبعد أن كان معنيا بالتوجهات في المقام الأول فإنه لم يجد مانعاً من أن يتفرغ أو يبذل وقتا كبيراً و جهداً كبيراً في “التفرغ” لقضايا الفساد وبخاصة في قطاع البترول، ومع أن معارضته لم تكن واعدة في الظاهر بتوقف الفاسدين عن الفساد فإنه لم يتوقف عن المعارضة ضاربا المثل الكفيل بإنجاز ما نسميه الإيحاء الإيجابي الذي كان كفيلا بضمان الطمأنينة لكثيرين من السياسيين الشبان بأن الحق كفيل بأن يجد دوماً من يناصره مهما كان الأمل ضعيفا ومهما كان الظلام كثيفاً .
من الحق أن نقول إن إقالة الرئيس جمال عبد الناصر له كانت ختاما قاسيا لكل محاولات الرئيس عبد الناصر نفسه في استعادة حيويته السياسية فقد اثبتت هذه الإقالة أن حالة تصلب الشرايين السياسية للرئيس جمال عبد الناصر قد وصلت إلى مرحلة اللا رجعة حتى إنه غير قادر على أن يستوعب “عرضا مختلفا” للأمور من يد وزير كلفه هو نفسه بأن يتم هذا العمل ، وبات واضحاً يومها أن الرئيس جمال عبد الناصر أصبح لا ينتظر إلا التصفيق الحاد حتى مع أزماته الشديدة طيلة عام ١٩٦٨وهي أزمات ظلت تُلقي بظلالها على عهدي الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك حتى مع عدم مسئوليتهما عن أسبابها أو عن تجاهلها المبكر أو عن طريقة الرئيس عبد الناصر في التعامل معها.
حصوله المبكر علي جائزة الدولة التقديرية
وعلي المستوي العلمي يحتل الدكتور محمد حلمي مراد المرتبة الثالثة عشرة بين الأساتذة الحاصلين على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية فقد حصل عليها عن عام 1973 بما كان يعني أن الدولة في بداية عهد السادات لم تكن تمانع في تقديره المستحق ، وذلك في ظل توجه العهد الجديد الى استرضاء العلماء والسياسيين المختلفين لا البعد عن الصدام معهم فحسب وهو الطابع الذي استمر حتى السنة الأخيرة من عهد الرئيس عبد الناصر حين حصل الدكتور عبد الرزاق السنهوري على الجائزة ذاتها عن عام 1968 فأبدى الرئيس عبد الناصر رغبته في ألا يسلمها له .
ترتيبه بين سلسلة الوزراء من أساتذة الاقتصاديين
رأس الدكتور محمد حلمي مراد لفترة طويلة من الزمان اتحاد الاقتصاديين العرب وكان له دائما دور بارز في الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع. وقد كان الدكتور محمد حلمي مراد (المتخرج ١٩٣٩) تاليا في تخرجه للدكتور حسين خلاف ( المتخرج 1934 والذي سبقه إلى تولي الوزارة ) لكنه كان سابقا في تخرجه بثلاثة أعوام على المفكر الاقتصادي الدكتور سعيد النجار ، و الدكتور محمد زكي شافعي ( العميد و وزير الاقتصاد في وزارة ممدوح سالم ) وكان هذان سابقين بعامين على الدكتور فؤاد مرسي الذي كان سابقا بعام على الدكتور إسماعيل صبري عبد الله الذي كان سابقا هو الآخر بعام على الدكتورين محمد لبيب شقير و رفعت المحجوب ، اللذين كانا سابقين بأربعة أعوام على الدكتور عاطف صدقي.
متانة أخلاقه
تمتع الدكتور محمد حلمي مراد طيلة حياته بخلق رفيع، وأداء متميز، ويد متعففة، كما تمتع بالشموخ والكبرياء و الحرية والكرامة ، وجمع بين الوطنية والقومية من دون تغليب ، وعمل من أجل حماس تحرير فلسطين على نحو ما عمل من أجل تحرر مصر ، وكان نموذجا للخلق الرفيع، والأدب المثالي، وكان في بعض أدائه التربوي كلاسيكيا أقرب إلي التزمت، وقد أشرنا في كتابنا «المرأة والحرية» إلي ما حرصت السيدة اعتدال ممتاز علي تصويره في كتابها «مذكرات رقيبة سينما» من تصلبه وهو وزير للتربية والتعليم تجاه فيلم شقة العازب، حتى انها تقول ان الفيلم قد تحول بسبب خضوع الرقابة لتشدده من فيلم يصور قيمة اجتماعية إلي شيء آخر.