سيدي الرئيس،
سيدي النائب،
سيدي الأمين،
الأساتذة الأعضاء،
السادة الضيوف:
جمعتني بأستاذي الدكتور شفيق بلبع ـ عليه رحمة الله ـ صداقة نادرة توطدت طيلة عقدين من الزمان، وتُوجت في العام الأخير حين قدر له أن يعاود نشاطه في هذا المجمع، وقد كنت قبل أن أحظي بشرف صداقته أنظر إليه كقمة عالية القامة، رفيعة الهامة، أعطت بسخاء، وضربت المثل في السمو الخلقي، والعفة، والشجاعة، وكنت قد اكتشفت في مرحلة مبكرة أنه ـ رحمه ا# ـ كان من الذين يعاملون الجميع بأسلوب واحد هو أسلوب الندية الكاملة، وليس هذا بالأمر الصعب علي مَنْ يعتزون بأنفسهم في مواجهة المتغطرسين مع احتفاظهم في الوقت نفسه بالتواضع في معاملتهم للذين يمشون علي الأرض هونا، لكن المركب الوعر الذي تفوق فيه شفيق بلبع كان هو القدرة الفائقة علي خلق الإحساس بهذه الندية عند الطرف الآخر، وهو مركب وعر كما تعلمون لكنه كان ينجزه في ذكاء بالغ، مستعينا بثقافة عريضة، ومستزيدا من فلسفة عميقة. والحق أن هذا الخلق البارز فيه لم يصدر إلا عن شخص كانت له نفس الحرَّ الأبي الذي لا يرضي بالضيم لنفسه ولا لغيره، ولم يصدر إلا عن شخص كانت له أيضا نزعة إنسانية تترفع عن الصغائر لكنها لا تكف عن الإلمام بالدقائق: دقائق الأمور، وتفصيلات الحياة. كان شفيق بلبع يشغل نفسه بهموم مساعديه مهما قل شأنهم، ومهما كانت هذه الهموم بعيدة عن منظوره، وكان في لحظة واحدة قادرًا علي أن يضيف ما يسمع إلي ما عرف، وعلي أن يضيف ما عرف إلي ما يسمع؛ ذلك أنه كان يتعشق القراءة، ويحسن التفسير، ويتقن الاستحضار، ويجيد الاستبصار، وكانت قدرته علي التعامل مع المواقف تنطق بالحكمة الموهوبة التي عرف صاحبها قدرها فنمَّاها، وعرف موطنها فزكاها.
وإذا صح أن بعض الناس يتمثل فيهم العقار الشافي.. فقد كان شفيق بلبع من هؤلاء، وإذا كانت العقاقير نفسها تتفاضل بفعاليتها وبموثوقيتها وبمأمونيتها وباتساع نطاق تأثيرها.. فقد كان شفيق بلبع من أفضل العقاقير طرًّا، وإذا صح أن بعض العقاقير تكون علماً علي ما تبعها ونهج نهجها.. فقد كان شفيق بلبع عقارًا عبقريا كما كان علما خفاقا في دنيا العقاقير، كأني أريد أن أقول إنه لم يكن عقارًا عبقريا فحسب ولا عَقَّارًا عبقريًا فحسب، بل كان أستاذًا للعقاقير، وعلمًا علي العقاقير، ورائدًا للعقاقير، ومقيمًا للعقاقير، ومكتشفاً للعقاقير.
ومن حسن الحظ أن الفرصة لهذا العقار النادر قد أتيحت ليكون لؤلؤة متفردة في جبين الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، وليكون علمًا هاديًا في مجتمع الصيادلة، وإذا كان البقاء علي القمة أصعب بكثير من الوصول إليها.. فبوسعكم أن تتصوروا هذا الرجل وقد جلس علي القمة ثمانية وثلاثين عامًا متصلة، ترنو إليه الأفئدة قبل أن ترنو الأبصار، وتؤمن به العقول قبل أن تؤمن القلوب، وتتهيبه السلطة قبل أن يتهيبه العامة، وتتنازعه المحبة قبل أن تتنازعه المصلحة. وقد كنت علي الدوام أطيل التأمل فيما كان وراء هذا النجاح كله، حتي أدركت أن نجاح شفيق بلبع كان محصلة للفطرة والسلوك معًا، وكان تعبيرًا عن الإيمان والعلم معًا، وكان تجسيدا للريادة والقدرة معًا، وكان استشرافًا للمثالية والخلود معًا.
ولست أنكر أن كلينا مع الفارق بين قدرينا.. كنا متوافقين إلي أبعد حدود التوافق في رؤانا، ولم يكن لي أن أعجب من توافق آرائنا في سياسات التعليم الجامعي والعالي والبحث العلمي، لكني مع هذا كنت لا أفتأ أعجب من هذا التقدم الفكري الذي تميزت به رؤية هذا الرجل الذي لم تضعه مناصبه في أسر رؤي تحبذ ما هو كائن أو تبرر ما قد كان، وإنما كانت مواهبه تنتصر علي مناصبه ومهامه لتجعله أمام عيني بل لتجعله في عيني ثوريًا بأكثر مما كنت أتصور ثوريًا من جيله.
**
والحق أن الدكتور شفيق بلبع كان شخصية متميزة، نادرة، فقد جمع بين الذكاء والألمعية، وبين النشاط والجدية، وبين الفهم والتأني، وبين القدرة علي القيادة، و القدرة علي الإقناع. وكان ملتزما بكل القيم التي يجدر بالإنسان أن يلتزم بها، وكان حريصا علي كل سلوك حسن يحرص عليه الإنسان، وقد أفاد وطنه إفادات قصوي، وخدم قضايا العلم والطب والصحة والصيدلة والتعليم الجامعي والبحث العلمي وتاريخ العلم والسياسات القومية علي مدي سنوات طوال، ولست أجد للتعبير عن هذا المعني خيرا من شهادة أستاذنا الدكتور محمود حافظ في استقباله في هذا المجمع، من أن حياته العلمية التي امتدت أكثر من خمسين عامًا قد اتسمت بالخصوبة والنماء، والإنتاج العلمي الغزير، والخبرة الواسعة، مما هيأ له الريادة في مجال تخصصه، وأسبغ عليه مكانة علمية بارزة علي الصعيدين القومي والعالمي.
**
أساتذتي الأجلاء:
علي المستوي القومي كان للدكتور شفيق بلبع دور بارز في ثلاث مؤسسات قومية، وقد وصل في هذه المؤسسات الثلاث إلي أقصي ما يمكن أن يصل إليه عالم رائد من طبقته نشاطا وتوجيها.
أما المؤسسة الأولي فهي المجالس القومية المتخصصة، وقد اختير الدكتور شفيق بلبع عضوا بالمجلس القومي للتعليم الجامعي بالمجالس القومية المتخصصة عند نشأة هذه المجالس عام أربعة وسبعين، وسرعان ما اختير أمينا لشعبة التعليم الجامعي، ثم مقررا لها ليكون ثاني مقرر في تاريخها بعد الدكتور محمد مرسي أحمد، وفي هذا المجلس تولي الدكتور بلبع الإشراف علي إعداد وصياغة أكثر من ستين دراسة عن التعليم الجامعي والعالي في مصر واتجاهاته تناولت نظم وسياسات واستراتيجيات التعليم الجامعي والعالي، وتطويره، ومعالجة مشكلاته بما يحقق له الارتقاء والتقدم لمواكبة متغيرات وتحديات العصر. ومن أبرز ما شارك فيه وراجعه من هذه الدراسات التي تم إقرارها من المجلس: سياسة التعليم الجامعي في مصر والاتجاهات العالمية المعاصرة، وأسس ومعايير إنشاء جامعات أهلية أو تعليم عالٍ خاص، وتقويم الأداء في العملية التعليمية والبحثية في الجامعات، والتعليم الجامعي والعالي: وظائفه وسياساته والتوزيع الجغرافي لخدماته، والأوضاع الأكاديمية بالجامعات وأساليب تطويرها، والتعليم الجامعي والعالي في ضوء تحديات المستقبل، وتطوير منهجية التعليم الجامعي والعالي، وصيغ ونماذج جديدة للتعليم الجامعي والعالي، وتعظيم عائد مخرجات التعليم الجامعي والعالي في المجتمع المعاصـر، وتعظيـم دور المكـتبات ومراكز المعلومات في الجامعات والمعاهد العليا.
**
أما المؤسسة الثانية التي حظيت بنشاط الدكتور بلبع فكانت المجلس الأعلي للجامعات، وقد ظل المجلس ينظر إليه نظرة الابن إلي قلب الأب الحنون، بل نظرته إلي صدر الأم الرءوم، وظل الدكتور بلبع يؤدي للمجلس كثيرا من المهام الدائمة والمؤقتة حيث عمل رئيسا للجنة الفنية للمجلس، ورئيسا للجنة التنفيذية للبعثات، ورئيسا للجنة الثقافية والتبادل الثقافي بالمجلس الأعلي للجامعات. علي أن الأهم من هذا أن عقليته المنظمة قد أهلته لكي يكون بمثابة اليد المحركة لسياسات هذا المجلس ولجانه الفنية علي مدي سنوات طوال، من خلال منصب أمين المجلس الأعلي للجامعات، وقبل توليه هذا المنصب وبعد أن تركه إلي رئاسة جامعة المنصورة ووكالة مجلس الشوري، وبعد أن تقاعد أيضا، وقد كان الدكتور شفيق بلبع طيلة هذه الفترة رجل إنجاز صامت وهادئ. ومع أنه لم يكن في كثير من الأحيان صاحب الدعوات ولا السياسات ولا الشعارات، إلا أنه كان بمثابة الرجل الذي حوَّل كثيرا من الدعوات والسياسة والشعارات إلي واقع ملموس من خلال جهد دءوب في تأطير العلاقة بين الدولة والجامعة، وفي إضفاء روح واحدة علي الكيانات الجامعية التي استقلت منذ بداية السبعينيات لتكون جامعات مستقلة في طنطا، والمنصورة، والزقازيق، وحلوان، والمنيا، والقناة، والمنوفية؛ ولهذا فقد كان اختياره لرئاسة جامعة المنصورة خطوة موفقة استهدفت تقوية كيانات هذه الجامعة ونظمها والنهوض بها إلي مصاف شقيقتها الكبري في القاهرة التي ظلت مرتبطة بها حتي أتيح لها الاستقلال. وكان الدكتور شفيق بلبع ثاني رئيس لهذه الجامعة، وكان هو ورئيسها الأول الدكتور عبد المنعم البدراوي قد شغلا من قبل منصب العمادة في الجامعة الأم.
**
وأما المؤسسة الثالثة وهي أكاديمية البحث العلمي فقد كان الدكتور بلبع نائبا لرئيس مجلس البحوث الطبية بها، وتولي بصفة مستمرة الإسهام البارز في تقييم مشروعات الأكاديمية وتوجيه لجانها القومية، وتطوير الأكاديمية، وقد كان عضوا بالشعبة القومية للكيمياء البحتة والتطبيقية، كما كان عضوًا في لجان منح جوائز الدولة، وإليه يرجع الفضل في وضع كثير من النظم المعمول بها الآن في منح هذه الجوائز.
أما علي مستوي الجمعيات العلمية فقد كان الدكتور بلبع عضوا في الأكاديمية المصرية للعلوم، وكان أحد الذين تولوا رئاستها، وهي رئاسة دورية، كما كان عضوا بالمجمع العلمي المصري، وعضوا بالجمعية الكيميائية الأمريكية، وعضوا بالجمعية الأمريكية للنباتات الطبية والعقاقير، وعضوا بالاتحاد الدولي للصيدلة، وعضوا بالجمعية الأوروبية للنباتات الطبية، وعضوا بالجمعية الصيدلية المصرية، وقد توج هذا كله بانتخابه من أول ترشيح عضوا في مجمع اللغة العربية عام تسعة وتسعين ليكون ثاني صيدلاني في تاريخ هذا المجمع. ومن الجدير بالذكر أن سلفه الدكتور عبد العظيم حفني صابر كان أيضا سلفه في عمادة الصيدلة.
وفي مجال تخصصه اختير الدكتور بلبع مستشارًا لمركز الأبحاث والرقابة الدوائية، ومستشارًا للنباتات الطبية والعطرية لوزارة الزراعة، وعضوا بالمجلس الأعلي لقطاع الدواء.
**
أساتذتي الأجلاء
كان فهم شفيق بلبع لتكوين الأستاذ الجامعي القادر علي البحث العلمي ينبئ عن سعة أفق امتزجت امتزاجا كاملا بالحِْرفية الفكرية علي أعلي مستوياتها، وقد وصل في تلخيصه وعرضه لمجموع المهارات المطلوبة في الباحث إلي عبارات واضحة وضوح الشمس في تعبيرها عن أفكار «ميكرسكوبية» أو «ميكروية» الطابع، وهو علي سبيل المثال ينبه إلي أن إعداد الباحث العلمي لا يعتبر مكتملا إلا إذا اكتسب قدرا من المهارة في عدد من التقنيات، من قبيل التعبير عن الأشياء بلغة الرموز، والقدرة علي معالجة العلاقات القائمة فيما بينها، وصياغة ومعالجة الأفكار بلغة موضوعية، وتقييم مدي صحة هذه العمليات، ومعالجة البيانات، وفهم مدلولاتها، وتعميم التجارب في صورة تؤدي إلي نتائج متميزة، ثم إجادة عرض الأعمال التي اضطلع بها الآخرون في الماضي، وعرض العمل الذي يقوم به الباحث نفسه كجزء من عملية مستمرة تهدف إلي إثراء وتنمية المعرفة وتطبيقاتها، والقدرة علي التعبير عن النفس بطلاقة، سواء عن طريق المحاضرات أو عن طريق الكتابة.
ولاشك أن شفيق بلبع كان من خيرة الذين اشتغلوا بالبحث العلمي في مصر أداء وإدارة علي حد سواء، وكان وعيه كاملا بالتطور المستمر في هذه المهمة، وكان تعبيره عن هذا الوعي ناصعا ساطعا، وكان يفرق بين طائفتين من مهارات البحث العلمي: المهارات الفكرية، والمهارات التجريبية. فيما يتعلق بالأولي كان يري أنه لابد للباحث من أن يكون علي دراية كافية بالمجال الذي يبحث فيه فيما يتعلق بالوضع المعرفي الراهن، وبشيء من الوعي التاريخي بالمسارات التي أدت إلي هذا الوضع، وأن علي الباحث عند تقييم هذه المعرفة أن ينمي في نفسه ملكة وإحساسا، ملكة نقدية مرهفة، وإحساسا دقيقا بالقيمة، فليس كل ما ينشر متساويا في قيمته، وكان يلفت النظر إلي مدي ما يمكن للباحث الناشئ أو المبتدئ من أن يفيد به من تكرار المناقشات مع أقرانه، وكذلك مع مشرفيه وأساتذته.
**
ولهذا السبب فقد كان شفيق بلبع يدعو، في مقام آخر، إلي تنمية فن الاتصال لدي الباحثين المبتدئين، عن طريق الحلقات الدراسية أو المحاضرات أو مراكز المعلومات، أو تقديم تقرير سنوي، أو بحثٍ إلي جمعية أو مجلة علمية، وكان يقول إن مثل هذه الأنشطة تعاون الباحث علي أن يتساءل عما إذا كان الآخرون سيسلمون بصحة نتائجها، وعما إذا كانت النتائج التي توصل إليها تؤدي بالفعل إلي إجابات مفيدة. وكان يري أن المهارات التجريبية لا تقتصر علي تعلم نظام المختبرات والقدرة علي تقدير الدقة النسبية والألفة مع المواد والأجهزة ذات الصلة بعمل الباحث، والبراعة اليدوية في تناولها بطريقة اقتصادية، وإنما تشمل كذلك المهارة في تعميم التجارب العلمية وتنفيذ تجارب أكبر أو أدق، أو تجارب تتكون من سلسلة من التجارب تسهم نتائجها في حل أسئلة أهم.
أساتذتي الأجلاء:
علي نحو ما كان الدكتور بلبع واعيا كل الوعي لجوهر العلم ومكانة التجربة والبحث فيه، فقد كان واعيًا لدور الكلمة في التعبير عن العلم، وقد أبان بوضوح عن إيمانه باللغة ودورها الجوهري في كلمته في حفل استقباله عضوًا في مجمع الخالدين حيث قال:
«إن المعرفة في المجالات الطبيعية لاتصبح علما إلا إذا خضعت للوصف المدقق، والتعبير السليم، والقياس المحكم، وهل بدون الكلمة الصحيحة المختارة يمكن أن تُسجل معرفة ما، وأن تنقل من شخص إلي آخر أو من جيل إلي ما بعده من أجيال، لذلك فالمشتغلون بالعلوم الطبيعية حريصون كل الحرص علي وزن اللفظ بأحكم الموازين لتطابق المعني المنشود وتعريف الأشياء والأفعال بأوضح التعاريف، فلا يُطلق اللفظ إلا علي معني واحد و شيء واحد، فلا تلتبس المعاني، ولا تتداخل المفاهيم، فاللغة هي وعاء كل فكر، ومفتاح كل قول».
وقد كان عليه رحمة ا#، واعيًا أشد الوعي لمكانة مجمع اللغة العربية ومعتزًا بها علي نحو ما عبر في حفل استقباله حين قال:
«إن مجمعكم ليس فقط للغويين والنحاة، بل هو أيضا مجمع الموسوعيين والثقات، جمع فأوعي فلا يعرف الفجوات».
**
أساتذتي الأجلاء:
نشأ شفيق بلبع ودرس وابتعث وبحث في الخارج في ظل نظم جامعية راسخة تُعنَي بالمفاهيم الحقيقية للأداء الجامعي، ومن هذه المفاهيم مفهوم السلطة الرأسية التي كان شفيق بلبع مقتنعا تمام الاقتناع بدورها في ترفيع مستوي الأداء الجامعي، لهذا فإنه كان ينظر بامتعاض إلي ما نص عليه قانون الجامعات الحالي من نصوص متعددة أضعفت من هذه السلطة من قبل إنشاء منصب نائب رئيس مجلس القسم، وكانت وجهة نظره في هذا أن مثل هذا المنصب وأمثاله يسبب إضعافًا لخطوط السلطة الإدارية الرأسية، وتقوية لخطوط السلطة الأفقية علي حساب السلطة الطبيعية، وكان يري السياسات الحالية لترقيات أعضاء هيئات التدريس في هذا الإطار نفسه، وكان يري أن تضخم عدد الأساتذة عند القمة قد أخل بالتركيب الهيكلي لهذه الأقسام، ووسم خطوط السلطة الرأسية بالضعف، وقلل كفاءة العملية الإدارية داخل الأقسام العلمية، فهبط مستوي الأداء، واهتزت السلوكيات.
وقد كان شفيق بلبع يعلي من قيمة عطاء عضو هيئة التدريس إلي حدود لم يسبقه إليها أحد من الذين شاركوه مسئولية التخطيط للتعليم الجامعي، وكان يصل في هذا إلي حد القول بأن الحديث عن إنجازات الجامعات إنما يدور حول عطاء أعضاء هيئات التدريس بها، وكان يقول إنه لا كيان للجامعات بدون أستاذ الجامعة الكفء، فهو محور الارتكاز في تحقيق أهدافها والركيزة الأساسية في كفاءة أدائها.
وقد كان – عليه رحمة الله – يؤمن بضرورة أن تكون الجامعة إحدي أدوات تغيير ثقافة المجتمع إلي الأفضل، بل قيادة ثقافة المجتمع.
**
وقد ظل شفيق بلبع يكرر الجهر بانتقاد ظاهرة جامعية خطرة بزغت في الستينيات واستشرت بعدها حتي بدا الأمر الآن كما لو أنها جزء أصيل من النظام الجامعي المصري، وهي ظاهرة نظام الأجر الإضافي، وكان يري هذه الظاهرة بمثابة أحد العوامل الرئيسية التي أثرت علي كفاءة الجامعات المصرية، وكان يشير إلي أن منشأ هذه الظاهرة قد صاحب ظاهرة التزايد المفرط في أعداد طلاب الجامعة، وكان ينبه إلي ما لنظام الأجر الإضافي من تأثير سلبي علي سلوكيات الجهاز الأكاديمي، وعلي مستوي الأداء، وعلي الاهتمام بالدراسات العليا والبحث العلمي، وعلي التأليف والنشر العلمي، بل علي نوعيات الخريجين ومستوياتهم، وعلي كثير من التقاليد الجامعية الأصيلة، وما أدي إليه من ضعف قدرة الجامعات علي إعداد وتنمية أعضاء هيئة التدريس.
**
أساتذتي الأجلاء:
لا يمكن لنا في هذا المقام أن نتجاوز الحديث عن فكر شفيق بلبع فيما يتصل بالإدارة الجامعية، والواقع أنه، بحكم ممارسته للإدارة الجامعية والتخطيط للتعليم الجامعي طيلة ثمانية وثلاثين عاما متصلة، كان ملماً كل الإلمام بتطور التشريعات التي حكمت أساليب إدارة الجامعة المصرية في عصرها الحالي،وكانت له آراء واضحة تستشرف الصواب الممكن والفعالية المأمولة في بعض هذه التشريعات، وتشيد ببعض هذه التشريعات التي كفلت تحقيق هدف نبيل، علي حين تنتقد ـ وهذا طبيعي ـ بعضها الآخر.
وكان شفيق بلبع يكرر الحديث عن الإيجابية الكبري في قانوني تنظيم الجامعات الصادرين في 1954 و1956 حين خُصصت لكل جامعة موازنة مستقلة وموحدة وجُعلت في الموازنة العامة للدولة علي هيئة «إعانة» من الحكومة، وقد شملت «الإعانة» أبواب الميزانية كلها، وكان هذا التوصيف كإعانة يعطي للجامعة الحق في الاحتفاظ بما لا تنفقه في سنة مالية ما، وترحيله إلي سنة مالية لاحقة، دون أن يُخصم ذلك من جملة الإعانة التي تخصصها لها الدولة في السنة اللاحقة، وكان يري أن هذا النص كان كفيلا بأن يتيح – وقد أتاح – لكل جامعة في ذلك الوقت الفرصة لتخطيط سياساتها علي المدي البعيد، وإقامة مشروعاتها الإنشائية الكبيرة، واستخدام مواردها المالية الاستخدام الأمثل، كما أدي ذلك أيضا إلي ترشيد نفقاتها.
وكان يدعو إلي ضرورة إتاحة الحرية الكاملة للجامعة في التصرف في الموازنة التي تخصص لها مع استثنائها من جميع الإجراءات التي تعوق انطلاقها.
ولهذا فإنه كان ينتقد ما أخذت به قوانين الجامعات المتتالية التي صدرت منذ 1958 من العدول عن نظام الإعانة السنوية الذي كان مطبقا من قبل إلي مبدأ تخصيص ميزانية مستقلة لكل جامعة تتصرف فيها في حدود أبوابها المختلفة، وكان يري أن هذا النظام قد أدي إلي إضعاف قدرة الجامعات علي تنفيذ خططها ومشروعاتها وإنشاءاتها ومرافقها في المواعيد المناسبة، مما أثر سلبيا علي كفاءة الأداء بها، وذلك علي الرغم من إدخال بعض التوسعات في السلطات المالية للقيادات الجامعية ومنحها حرية أكبر في الحركة والتصرف.
**
أساتذتي الأجلاء:
لم يكن شفيق بلبع ينظر إلي الجامعة ككيان مستقل عن المجتمع، بل إنه كان من أشد المؤمنين بالوظيفة الثالثة لعضو هيئة التدريس في خدمة المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخري فإنه كان يؤمن بأن تقييم أعضاء هيئة التدريس لابد أن يرتبط ارتباطا وثيقا بالعقبات والمشكلات التي تحد من عطائهم، ولهذا فإنه كان يري ضرورة العمل علي إزالة هذه العقبات، وكان يري هذا بمثابة خطوة حتمية قبل الحديث عن سياسات التقييم أو الترقيات، وكان يري ضرورة توفير المناخ الملائم لعضو هيئة التدرييس كي يبدع ويسمو ويجود بنتاجه الفكري والذهني، وكان يلخص المناخ الملائم في ثلاث كلمات أو ثلاثة عناصر أساسية هي: الحرية، والوقت، والمال.
ولم يكن شفيق بلبع يقصد بالمجتمع المجتمع المحلي أو القومي فحسب، لكنه كان يؤمن بأنه يتحتم علينا أن نحافظ علي قنوات الاتصال بالعلم العالمي مفتوحة جارية. بل إن شفيق بلبع كان في إطار إيمانه بهذه الوظيفة ينبه إلي «الوظيفة الاتصالية» ضمن وظائف المشتغلين بالعلم، وكان يري أن هذه الوظيفة تتطلب ضرورة الاتصال بغير المشتغلين بالعلم، وكان ينبه إلي أن تبسيط العلم قد حظيَ في المجتمعات المتقدمة بمكانة بارزة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا تزال هذه المكانة تزدهر حتي اليوم في وسائل الإعلام ومراكز المعلومات والمجلات العلمية.
**
والحق أن شفيق بلبع كان ينظر إلي استقلال الجامعات من زاوية وطنية الهدف، ووطنية الطابع، وكان يعبر عن هذا بأنه علي الرغم من ضرورة تمتع الجامعات بالاستقلال الذاتي، وإدارة شئونها بنفسها، فإنه لابد من توافر قدر كبير من التنسيق بينها، وأنه لابد من تخطيط ما للتعليم الجامعي علي المستوي القومي، وكان لا يتصور أن تعمل الجامعات في مصر في غياب مثل هذا التخطيط.
ومع أن شفيق بلبع عُني عناية متصلة بدراسة سياسات القبول في الجامعات، فقد كان نتيجة لما تميزت به شخصيته من حب للعدالة وتكافؤ الفرص من أشد المدافعين عن وجهة النظر القائلة بأفضلية الأسلوب المتبع في تنسيق القبول للالتحاق بالجامعات بالرغم من عيوبه، وكان يشير إلي أن هذا النظام يوفر الوقت والجهد الذي يبذله الطلاب في الالتحاق بالكليات، وكان ينبهنا إلي أن كثيراً من الدول قد أخذت بمثل هذا الأسلوب.
أساتذتي الأجلاء:
كان شفيق بلبع ينتقد الهيكل الجامعي المصري الحالي الذي اكتفي بثلاث عشرة جامعة وأنشأ إلي جوارها نحو عشرين كيانا جامعيا من الكليات والأقسام العلمية الصغيرة، موزعة في المناطق الريفية المصرية، وكان يري أن هذه الكيانات الجامعية تمثل مراكز صغيرة لا تستطيع الاهتمام بدرجة مرُضِية بشئون المجتمع المصري والبيئة المصرية، وكان يقارن هذا الوضع بما أمكن تحقيقه في مجموع البلاد العربية الشقيقة ويعترف أن هذه الدول الشقيقة قد تفوقت في هذه الناحية.
وكان شفيق بلبع يري أن من واجبنا أن نُعدِّل من نظامنا الحالي في الاكتفاء بكليات صغيرة أو أقسام علمية محدودة النشاط لا تستطيع أن تنهض بواجبات الجامعات المتكاملة، لأن هذا الوضع يصعب أن يكفي احتياجاتنا، ولابد من أن نعدل عنه لأنه لا يمكن أن يعوضنا عن نظام الجامعات الكبيرة المتكاملة التي نحتاج منها إلي نحو ثلاثين جامعةٍ موزعة علي المحافظات المختلفة.
وفي هذا الإطار ـ وبصورة عملية ـ كان شفيق بلبع ينادي بدعم الفروع التي سيتم استقلالها في المرحلة الأولي ببعض الكليات الجديدة، وفقا للاحتياجات الإقليمية العلمية والتنموية والثقافية، وإنشاء كليات جامعية جديدة إضافة للكليات القائمة التي تتبع مستقبلا بعض الجامعات في بعض المحافظات، مثل دمياط، وأسوان، والسويس.
وكان ينادي بتيسير تحويل الطالب من تخصص إلي آخر دون أن يفقد جزءا كبيرا مما درسه، وذلك عن طريق تكويد المقررات واعتمادها، والعمل علي تطبيق النظم التي تتيح للطالب اختيار المواد والتخصصات، مثل نظام الساعات المعتمدة، وذلك في الكليات التي تسمح إمكاناتها بذلك.
أساتذتي الأجلاء:
كان أستاذي الدكتور شفيق بلبع منتبها إلي الثورة التي شهدتها أنظمة التعليم في عالمنا المعاصر، وكان سباقا في دعوته إلي دراسة استخدام إمكانات شبكات المعلومات في دعم عمليات التعليم والتعلم، وكان يدعو إلي التركيز علي ما يسمي بالتعليم النشيط، الذي يتمثل محوره الأساسي في إتاحة قدر أكبر من التفاعل بين الطالب والبرامج التعليمية عن طريق عرضها بشكل أفضل يدعو إلي مشاركة فعالة بينهما، وذلك باستخدام الوسائط المتعددة التي تتيح أكبر قدر من الاستفادة، وكان يضرب المثل علي هذا بالتعلم المبني علي المحاكاة والمشاركة الفعلية، والتعلم العرضي، والتعلم بالتفكير الذاتي، والتعلم عن طريق النماذج أو الحالات أو الاستكشاف.. إلخ»
ولهذا كان شفيق بلبع يدعو زملاءه ولاحقيه إلي التطلع إلي استحداث أنماط جديدة من التعليم الجامعي المصري كالجامعات المتخصصة التي تتخصص كل منها في فرع واسع من فروع المعرفة، وإلي استحداث البدائل الكفيلة بإتاحة الفرصة للراغبين في مواصلة تعليمهم، وكان يؤكد علي أن بعض هذه الطرق قد تم تطبيقه بنجاح في العديد من دول العالم.
وفي هذا الإطار ظل شفيق بلبع علي الدوام من المطالبين بإعادة النظر في سياسات قبول طلاب برامج التعليم المفتوح التي استحدثت في بعض الجامعات المصرية، وإلغاء الشرط الخاص بمضي خمس سنوات علي حصولهم علي الثانوية العامة، فقد يكون في ذلك تخفيفا عن كاهل الجامعات ذات الأعداد الكبيرة، ورفعا لكفاءة الأداء بها.
أساتذتي الأجلاء:
أستأذنكم في أن أعود بكم إلي ما كان ينبغي أن أبدأ به من تصوير التكوين العلمي لفقيدنا العظيم.
تمتع الدكتور شفيق بلبع بتأهيل علمي مزدوج، حيث درس الزراعة وأتم دراستها قبل أن يدرس الصيدلة ويتفوق فيها، وقد مكنته هذه القاعدة العلمية الواسعة من أن يكون مبرزا تمام التبريز في العلم الذي أفني حياته فيه وهو «علم العقاقير»، وقد أضفي علمه الواسع العميق علي بحوثه الرائدة روحا من القدرة علي استخلاص أقصي ما يمكن من نفع من كل نبات طبي، وامتدت آفاق علمه لتشمل معرفة واعية بالتراث العلمي الصيدلي، وبالكيمياء التحليلية والصيدلية والعضوية والحيوية.
وبعد أن حصل علي بكالوريوس الزراعة (1942) وعلي بكالوريوس الصيدلة (1946)، وعلي الماجستير في علم العقاقير (1950)، سافر في بعثة إلي الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة بجامعة فلوريدا، وفيها حصل علي درجة دكتوراه الفلسفة في علم العقاقير (1953)، وقد قدرته أمريكا في فترة دراسته العليا حيث نال جائزة نيوكومب التذكارية لأحسن بحث في العقاقير علي مستوي الولايات المتحدة الأمريكية (1954)، وعمل الدكتور شفيق بلبع في هيئة التدريس في كليته حتي نال درجة أستاذ كرسي كيمياء العقاقير عام أربعة وستين، بعد ثمانية عشر عاما من تخرجه في كلية الصيدلة، وبعدها بعامين فقط اختير عميدا للكلية، وشغل هذا المنصب ست سنوات متصلة، ثم اختير أمينا للمجلس الأعلي للجامعات لِسِتِّ سنوات متصلة أخري، واختتم حياته الوظيفية برئاسة جامعة المنصورة لمدة عامين.
نشر الدكتور شفيق بلبع مائة وستين بحثا علميا في مجال العقاقير والنباتات الطبية، في أكبر المجالات العلمية المتخصصة المصرية والعالمية، وقد نجح في فصل المكونات الفعالة من بعض النباتات في صورة نقية من أجل استخدامها في العلاج، كما تمكن من استحداث طرق جديدة ودقيقة مبتكرة لتقويم المكونات الفعالة في عدد من النباتات الطبية والعطرية، كما أدخل زراعة أكثر من خمسة وعشرين نوعا من النباتات الطبية والعطرية في مصر لأول مرة بعدها استجلبها من الخارج وتأقلمت في البيئة المصرية. كما شملت دراسته وبحوثه ما يزيد علي ثمانين نوعا من النباتات الطبية والعطرية التي تنمو بريًّا في مصر، وقد ركز اهتمامه علي نحو ما ذكر الأستاذ الدكتور محمود حافظ في استقباله له في هذا المجمع، علي النباتات ذات الفائدة الاقتصادية مثل السكران المصري، وحشيشة الليمون، والبلادونا، والداتورة، وحلف البر، والخلة، والشطة، والنعناع، وزيوت الموالح، والبيروثروم، والبلانتاجو وغيرها.
وأسهم الدكتور شفيق بلبع في إنشاء أول محطة تجارب عربية نموذجية للنباتات الطبية والعطرية، وقد أشرف علي تجهيزها تجهيزا متميزا لإجراء الدراسات والبحوث العلمية والحقلية في هذا المجال. وكذلك أسهم في إنشاء معشبة للنباتات الطبية والعطرية لضم الأنواع المختلفة التي تنمو في مصر بريا، أو التي جري إدخالها وزراعتها وأقلمتها في مصر. وأسهم الدكتور شفيق بلبع كذلك في إقامة نظام يكفل تبادل المعلومات عن النباتات الطبية والعطرية وبذورها مع محطات ومراكز بحثية تعمل في هذا المجال خارج مصر.
وقد امتد نشاطه الأكاديمي إلي كليات الصيدلة المصرية المختلفة، فأشرف علي إنشاء قسم العقاقير والنباتات العطرية في شعبة الصيدلة بكلية الطب جامعة المنصورة، وإليه يرجع الفضل في إنشاء كلية الصيدلة بالمنصورة، التي بدأت كشعبة من كلية الصيدلة الأم في القاهرة. وإليه يرجع الفضل أيضًا في إنشاء شعبة للصيدلة وإقامة قسم للعقاقير والنباتات الطبية بجامعة الأزهر.
**
وللدكتور شفيق بلبع عدة مؤلفات صيدلية من أهمها: «مكونات النباتات الطبية»، و«كيمياء العقاقير، (باللغة الإنجليزية)، و«النباتات الطبية والعطرية». وله من المؤلفات التربوية: «التعليم الجامعي وسوق العمل في مصر». وله من المؤلفات في تاريخ العلم: «تاريخ العلوم الصيدلية»، فضلا عن إسهاماته المتميزة في كثير من الموسوعات، وقد كان لي شرف الاشتراك معه في عدد منها.
وقد نال الدكتور بلبع كثيرا من التقدير اللائق به في وطنه، فقد كان واحدا من الذين آلت إليهم رئاسة الأكاديمية المصرية للعلوم، وقد نال جائزة الدولة التقديرية في العلوم (1982)، وكان أول من نالها بين أساتذة كليات الصيدلية. وحصل علي وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي (1983)، ومن قبله حصل علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي (1978)، وعلي الميدالية الذهبية لأحسن بحث في العقاقير (1972) من اتحاد الصيادلة العرب.
أساتذتي الأجلاء:
لعلي أختتم حديثي ببعض ما أشرت إليه في مطلع كلمتي من أن شفيق بلبع كان علما خفاقا في دنيا العقاقير، كان عقارًا عبقريا وكان عَقَّارًا عبقريًا، كان أستاذًا للعقاقير، وعلمًا علي العقاقير، ورائدًا للعقاقير، ومقيمًا للعقاقير، ومكتشفًا للعقاقير. وقد جلس علي القمة ثمانية وثلاثين عامًا متصلة، ترنو إليه الأفئدة قبل أن ترنو الأبصار، وتؤمن به العقول قبل أن تؤمن القلوب، وتتهيبه السلطة قبل أن يتهيبه العامة، وتتنازعه المحبة قبل أن تتنازعه المصلحة.
وقد كان نجاحه محصلة للفطرة والسلوك معًا، وكان تعبيرًا عن الإيمان والعلم معًا، وكان تجسيدا للريادة والقدرة معًا، وكان استشرافًا للمثالية والخلود معًا.
من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008