الرئيسية / المكتبة الصحفية / باريس مدينة المقاهي

باريس مدينة المقاهي

ثقافة المقهى في باريس

سؤالان يشعر بهما زوار باريس بعد تأمل: الأول هل باريس مدينة من المقاهي ؟ و الثاني: هل المقهى من أخص خصائص باريس؟

أبدأ بالإجابة عن السؤال الثاني باختصار ، وأجيب فأقول: نعم، وربما لا يعرف القاهريون فضل المقهى الباريسي علي مقاهيهم إلا إذا كانوا من الذين يمرون بالإسكندرية حيث تحتل المقاهي الاسكندرية مكانة أفضل بكثير من المقاهي في المدن العربية الأخرى.

  • المقهى في باريس هو أسهل نقطة من نقاط الالتقاء، حتي إن الذين يريدون أن يلتقوا (حتي من دون الجلوس) يتواعدون باللقاء فيه أو أمامه.
  • والمقهى في باريس هو أيضا جزء من صالون البيت لكنه صالون اختياري تختاره أينما شئت، ومتي شئت.
  • والمقاهي الباريسية حريصة علي الديكورات الجميلة التي تليق بالصالونات، وحريصة أيضا علي أن تظل مفتوحة، سواء في ذلك أن تكون مفتوحة الأبواب، وأن تكون زجاجية الحوائط التي تفصلها عن الشارع.

الموعد والجغرافيا و التاريخ

و باختصار شديد :

  • فان المقهى في باريس هو الموعد، موعد العمل، أو موعد الحب، أو موعد اللقاء.
  • المقهى في باريس هو الجغرافيا حيث تعرف الأماكن والمحلات بالإشارة إلي أقرب مقهي منها.
  • والمقهى في باريس هو التاريخ حيث احتفظت ذاكرة الفرنسيين بأسماء المشاهير الذين آثروا هذا المقهى أو ذاك بالجلوس عليه واللقاء مع مريديهم فيه.

مقهى سهيل إدريس تحول إلى بيتزا

 ومع هذا فإن بعض المقاهي الباريسية بدأت تعاني من الموت والانقراض، وعلي سبيل المثال فقد كان هناك في الحي اللاتيني مقهي اسمه مقهي «كلوني»  و يروي أن سهيل إدريس كتب روايته «الحي اللاتيني» وهو جالس في هذا المقهى  الذي كان بمثابة المكان المفضل لكثيرين من الأدباء والفنانين العرب، ومنهم جورج البهجوري، لكنه تحول إلي مطعم للبيتزا بعدما كان أحد مراكز تجمع اليساريين العرب والمعارضين علي وجه العموم.

بين كل مقهى باريسي وآخر يوجد مقهي

ونعود الان الي ما وعدنا به من الحديث عن المقاهي،  وكما أن باريس تبحث لكل يوم عن عيد فإن في باريس مقهي بين كل مقهي وآخر.

يروي أن عدد المقاهي في عهد الثورة الفرنسية كان قرابة السبعمائة مقهي، أما في أربعينيات القرن العشرين فقد ارتفع عددها إلي ثلاثة آلاف مقهي.

وأنت قد تعشق مقهي بعينه أو تضطر إلي آخر تبعاً لموعد حدده لك آخر، لكنك في كل الأحيان لابد أن تمر بمقاهي الشانزليزيه علي الأقل، ومقاهي الحي اللاتيني، أو تتجول في ذلك التقاطع الذي ينشأ من التقاء الشارعين الشهيرين اللذين تفوق شهرتهما سعتهما: سان ميشيل، وسان جرمان،

مقاهي مونمارتر ملتقي شتي الفئات

أما إذا أردت ان تري المقهى الباريسي علي حقيقته فلابد أن تمر بمونمارتر حيث يلتقي الرسامون والفنانون والبوهيميون، وحيث يلتقي أيضا مَنْ يريدون أن يتأملوا هؤلاء جميعا وهم يحيطون كنيسة الساكركير من كل الجوانب والأرض مختلفة المستويات، والشباب اللاهي جنبا إلي جنب مع الشباب الفنان، والأهل يصطبحون أبنائهم ليرسم لهم الفنانون بورتريهات (رغم أنفهم في بعض الأحيان) أو إسعاداً لهم (في أحيان أخري).

ويروي أن العهد الذهبي لمقاهي هذه المنطقة كان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد خلد كثيرون من الفنانين معالم هذه المنطقة وجعلوها بمثابة موضوعات لرسوماتهم، ومن هؤلاء فان جوخ، وبيكاسو، وقد كان هذان الفنانان فيما روي عنهما يستوحيان بعض لوحاتهم من وجوه المارين بهذه المنطقة، ومن ملامح الطبيعة المتقلبة والمتعددة الصورة في هذا التل وعلي سفوحه.

الحكيم : مونمارتر مملكة الروح لا مملكة المادة

ونعود إلى حديث توفيق  الحكيم  عن حي الفنانين  ومقاهي مونمارتر لنجده يجاهر في صراحة برأيه القائل إن مونمارتر ليست المرأة الفاجرة التي توحي باللذة السافلة،  وإنما هي امرأة لا توحي بغير الطهارة الكاملة:

” .. أريد أن أقول إن مونمارتر ليست قط تلك المرأة الفاجرة التي توحي باللذة السافلة. كلا. إنها في أعماق نفسها امرأة لا توحي بغير الطهارة الكاملة. أقسم لك يا جان أني في حياتي ما أحسست الطهارة العليا الكاملة إلا في هذا الحي الخليع! هذا؟ وهل تعرف السبب؟ السبب بسيط: الحرية. تلك الحرية المطلقة في إتيان أية رذيلة بدون خشية قيد أو تحريم. هذه الإباحة للرذيلة زهدتني في الرذيلة نفسها. إن الانسان بطبعه يطلب الممنوع عنه المحرم عليه ويزهد في المباح».

«إن الملك شهريار الذي استمتع طول حياته السابقة بالنساء وباللذة الجسدية كاد يقتله الملل فصار يقتل كل امرأة بعد ليلة واحدة. حتي جاءته شهرزاد فكشفت له عن اللذة الروحية. فاذا هو ينقلب إنسانا يعشق كل ما هو روح ويمقت كل ما هو مادة. وإذا هو يصيح كلما عرضت له المادة:

«شبعت من الأجساد… شبعت من الأجساد!».

“هذه الصيحة انطلقت من فمي يوما… كما انطلقت من فم كل فنان في مونمارتر”.

“أرأيت كيف أن مونمارتر هي حقيقتها مملكة الروح لا مملكة المادة!”

 مونمارتر نافذة مفتوحة علي بيداء الفكر

ويصور الحكيم اجتياز مونمارتر علي أنه الاستحقاق الاول الذي لا بد منه في عالم الفكر والفن:

“أكثر من هذا أيضا يا جان: مونمارتر هي الناقدة المفتوحة علي بيداء الفكر المهلكة، هي المحطة التي يبدأ منها كل فنان أو مفكر رحلته المخيفة في طريق البحث عن الحقيقة العظمي: علمته مونمارتر التفكير فاتجه اليه هازئا بالعطفة غير حافل بأعباء السفر حتي يظفر بالمجهول. ألا تذكر: بيكاسو. جان كوكتو. إيريك ساتي. زادكين… الخ… أسماء في التصوير والشعر والموسيقي والنحت ذهبت مغامرة في تلك البيداء… لا يعلم أحد أتعود أم لا تعود.

كذلك شهرزاد أوحت لزوجها بجمال الفكر فخلع عنه العاطفة وانطلق يهيم في تلك الصحراء خلف سراب العقل والفكر… لا يعلم أحد أيعود هو أيضا أم لا يعود… كل هذا وشهرزاد باقية كمونمارتر ترمق محبها القادم والراحل بتلك النظرة العميقة، وتلك الابتسامة التي لا يدرك لها كنه».

«وصمت قليلا، ورفعت عيني إلي جان فاذا هو واقف بغير حراك يصغي وكأنه في حلم،  ودخل القهوة رهط من العمال والعاملات يطلب كل قدحا من القهوة وخبزا صغيرا. فانتبه الخادم وانصرف إليهم مسرعا. ولبست أنا قبعتي ووضعت معطفي فوق منكبي وضعا… وتوجهت إلي حجرتي… أسدل سجفها حتي لا يزعجني الضوء… وأملأ زجاجة الماء الساخن تحت قدمي خوف البرد… وأنام حتي «مطلع» الليل». شأن الفنانين عشاق مونمارتر المدللين… الخاضعين لهذا الشعار: «حياة الليل وموت النهار».

 زولا وصف  مانيه بأنه يتقابل مع نفسه

ويروي أن الفنان مانيه كان يستوحي لوحاته من مرايا مقهي «لاموموس» حتي وصفه أديب فرنسا العظيم زولا بأنه يتقابل مع نفسه.

من مقهى فلور انطلقت الرمزية والسوريالية والواقعية الاجتماعية

 وفي مقهي «فلور» أو كافيه «دو فلور» كان سارتر وبوفوار يجلسان في زاوية دائمة، وقد عرف هذا المقهى أيضاً بألبير كامي وبيكاسو، حتي ليقال إنه قد انطلقت منه مذاهب العصر الحديث: الرمزية والسوريالية والواقعية الاجتماعية في الأدب.

السرياليون و مقهى الكوبول

أما في حي «مونبارناس» فيتألق مقهي «الكوبول» الذي كان محل التقاء النخبة من طراز كوكتو وماكس جالوب، ومقهي «كلوزيرودو ليلا»، وفي هذا المقهى تجمع السرياليون وعلي رأسهم بروتون، كما أنه كان المكان المفضل لهنري جيمس وأرنست هيمنجواي.

مقهى «ديماجو»

وفي الحي اللاتيني لايزال مقهي «ديماجو» قائما وأمامه ساحة يلعب فيها الهواة والعازفون والبهلوانات.

يحيى حقي يختم زيارته لباريس بالجلوس في «ديماجو»

وعندما وصف يحيي حقي الحركة في باريس وصفاً دقيقاً فإنه لجأ بحاسة الفنان أن يصف المفارقة المقصودة في أنه جعل ختام زيارته لباريس هو الجلوس علي المقهى الباريسي، وأن هذا القرار الذي اتخذه كان في رأيه حكيماً، لأنه لو عكس الترتيب وبدأ بما انتهي به، لاتسمت نظرته (كلها) إلي فرنسا (كلها) بالقنوط:

«… حمدت حظي ألا يكون أول شيء أفعله هو آخر شيء فعلته كان فيه الوداع من فرنسا هو جلوسي ـ والزمن صيف ـ علي رصيف قهوة (ليه دي ماجو) في الحي اللاتيني بباريس (قلمي حرن أن يكتب مقهي بدلا من قهوة فاعذرني)، وإلا لو بدأت به لقلت من ضلالتي: العفاء علي فرنسا!».

أحمد الصاوي يصف جلوسه على مقهى داركور

ونحن تقرأ اسم مقهي «داركور» في كثير من المواضع في كتاب زكي مبارك «ذكريات باريسية».

وقد وصف الأستاذ احمد الصاوي جلوسه علي مقهي داركور في عيد الاستقلال وما اضطرته إليه الأعياد والحياة الفرنسية من ترك العزلة والحرص علي الاندماج في المجتمع علي الرغم من أنه كان يجلس في ظلال الفيلسوف كانت.

 .. يشاهد تمثال أوجست كانت  

«جلست آخر الأمر في «قهوة داركور» حتي لا أكون بمعزل عن السوربون موطني الروحي وحتي أشاهد الرقص الطائش والموسيقي الجنونية وأثرهما في تمثال شيخ من شيوخ الحكمة الغابرة الحاضرة الخالدة خلود القدر «أوجست كانت» الشاخص بعينيه الصافيتين الساهيتين وازدحم الناس ازدحاما وشاركني في المنضدة فتاتان من بنات «التاميز» بريطانيتان تزري ملاحتهما بكل ملاحة لأنها ملاحة عزيزة غير مبتذلة».

مقاهي عصر الدكتور هيكل

ويشير الدكتور هيكل إلي أن أبناء جيله كانوا يلتقون أيضا في قهوة دي لا بي، وهي قهوة السلامDe la Paix     وقد كان هذا المقهى الشهير (الذي يتسمي باسمه مقلدون له في الإسكندرية وغيرها) بمثابة نقطة الارتكاز لعبد الله باشا فكري ووفد مصر حين زاروا باريس في طريقهم إلي مؤتمر المستشرقين (1889).

وفي مذكرات الدكتور هيكل (1910) نري إشارات إلي مقهي فاشت في منطقة شارع المدارس Rue des ecoles، وهو يذكر أنها كانت ملتقي المصريين في حي الطلبة.

المقاهي العربية في باريس

ومع أن كثيرين قد يعتقدون أن المقاهي العربية في باريس جاءت نتيجة من النتائج المباشرة للحقبة النفطية فإننا نجد في تراثنا ما يدل علي أن المقهى العربي في باريس كان موجوداً من قبل الحقبة النفطية بعشرات السنين.

أما المقاهي العربية فكثيرة أشهرها «مقهي بغداد»، وصاحبه من عشاق الشيشة، وهو بطل الجودو العالمي الجزائري الأصل جمال بوراس.

زكي مبارك يصف قهوة الجامع بباريس

وفي تراثنا الأدبي نص جميل وصف به الدكتور زكي مبارك مقهي عربيا كان موجودا على عهده منذ نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، وقد تصادف أن أقيم هذا المقهى إلي جوار جامع باريس الذي بني في عهد الملك فؤاد.

وقد كان زكي مبارك مشدوداً للمفارقة التي جمعت المقهى إلي الجامع، وظل مكرراً للحديث عن هذه المفارقة وقد وصف زكي مبارك (في رسالة له سجل أنه كتبها في 29 سبتمبر 1930) هذا المقهى وجوه  ومحيطه وصفاً جميلاً لا نستطيع أن نحرم قارئنا من أن ننقل منه بعض فقرات متفرقة:

«… هي قهوة عربية بكل معاني الكلمة، وتذكر القادم عليها بقهوات القاهرة وبغداد والآستانة والقيروان، فحيثما رفعت بصرك فمناظر عربية وإسلامية طريفة لا نقص فيها ولا تحريف، وأنت حين تجلس في «قهوة الجامع» تروعك الموسيقي الشرقية التي تطالعك بأجمل الألحان، وفي القهوة مغنون بعضهم من تونس، وبعضهم من بغداد، وفيهم مغن من الإسكندرية (هو العواد الشيخ عبده درويش)، وقد سمعت في الليلة الماضية طائفة من القصائد وطائفة من المواويل والأدوار المصرية والمغربية، وليتك كنت معي لتعرف كيف يحيا ابن هانئ الأندلسي حين يردد المغني قوله في ترجيع مملوء بالعطف والحنان:

 

حسبوا التكحل في جفونك حلية 

 

حلية تالله ما بأكفهم كحلوك

ودعوك نشــوي ما سقوك مدامة

 

لما تمايل عطفك اتهموك

…………………………………

ويواصل الدكتور زكي مبارك حديثه الممتع:

«وينجذب الناس إلي قهوة الجامع في باريس لعدة أسباب، منها القهوة التركية البديعة التي تنقلك إلي عالم غير عالمك في لطف ساحر أخاذ، ومنها الشاي المنعنع الطريف الذي يذكر بقول السيد عبد العظيم القاياتي:

 

وعسجد الشاي يجلي

 

في كؤوس من لجين

هذا يروق لقلبي

 

وذا يروق لعيني

«كل ما في قهوة الجامع جميل، ولا عيب فيها إلا أن اسمها قهوة الجامع، وأنها بالفعل في جناح من مباني الجامع… فإذا ركب إنسان سيارة وقال: إلي الجامع، فإن السائق لا يمضي به إلا إلي القهوة، وأكثر السائحين والسائحات لا يفرقون بين الجامع والقهوة، حتي لأخشي أن يظن أكثرهم أنه هكذا تكون مساجد المسلمين، وفي هذا عار وخزي يندي له جبين الرجل الغيور، فما الذي يضر الجماعة الذين يديرون شئون الجامع لو نقلوا هذه القهوة إلي نقطة بعيدة عنه إن كان لابد لهم من قهوة عربية في باريس؟».

«كل ما عندهم في المحافظة علي الآداب أن يضعوا لوحة علي أركان القهوة فيها هذه العبارة:

«Une tenue très courte est exigée»

«ومع هذا نجد للعشاق حركات وإشارات ينفر منها الذوق، ويمجها الطبع، ولا تجمل مطلقا بمحل يتصل ببيت من بيوت الله».

««إن باريس تحتمل كل شيء، وأهلها لا يخجلون من شيء، ولكني لا أحسبهم مع ذلك يفهمون أن من السائغ المقبول أن تتصل بأماكن العبادة أجنحة دنيوية خطرة يجري فيها اللهو واللعب، مهما قيل إن الغرض منها شريف، وأنه لا يقع فيها إلا اللهو المباح ، لقد كنت أصلي في المسجد ثم أنتقل إلي القهوة متمثلا بقول الشاعر: 

                      

ولله مني جانب لا أضيعه

 

وللهو مني والخلاعة جانب

«ولكني لا أستطيع الصبر علي السمعة السيئة التي تطغي بها القهوة علي كرامة الجامع».

المعلمة الروسية تقول : هذه هي باريس

وأخيرا ، فان خير ختام لهذا الفصل  يتمثل في فقرة قصيرة تحمل الإيحاء كله وتلخص الموقف كله، صادفتها في حديث الأستاذ أحمد الصاوي وهو يتحدث عن الشوارع الكبري في تلك المدينة:

«إن العالم كله في تلك الشوارع. ولقد حدث أن معلمة روسية ظلت خمسة عشر عاما تدخر من مرتبها الضئيل حتي تسافر إلي باريس ودونت في مذكرة لها، ما لابد لها من رؤيته، فلما جاءت بعد ذلك الزمن الطويل جلست علي مقهى في «الجران بولفار» ورأت الدنيا تسير في موكب أمامها، وقضت هكذا إجازتها كلها ، وهي فاغرة فمها دهشة تقول: «هذه هي باريس! باريس!»

النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com