الصاوي والموكب المصري في باريس
وسرعان ما يلتفت الأستاذ الصاوي إلي طرائف الموكب المصري الذي تولي هو نفسه قيادته في باريس:
«وكان الموكب، موكبنا المصري شائقا… كان يلفت الأنظار حقا لأن أكثرنا كان يضع «الكسكتات» وهي قلانس السفر التي لا يضعها في باريس غير العمال. وكان أكثر من واحد من الإخوان يحمل معه طربوشه… وكان حريصا علي ذلك الطربوش حرصه علي روحه… وقد خشي أيضا علي مكواه وهو يعلم أنه لا سبيل إلي مكوي الطربوش في إنجلترا فحمله في علبته الصفيح… فكنت تري في الموكب علبة طربوش من الصفيح الأحمر، وأخري من الصفيح الأصفر، وثالثة من الصفيح الأزرق».
قصة اللبن والقشدة
«وكان لا بد لنا من تناول طعام الفطور. فدخلنا قهوة ملأناها وملأنا قلب صاحبها سرورا. وطلبت لهم القهوة باللبن (Cafe au lait) فأصلح لي الجملة وقال لي (Cafe Creme) أي أن عندهم لا يقولون كما نقول في مصر قهوة اللبن بل قهوة القشدة. وقد عرفت بعد ذلك أن سبب هذه التسمية أنهم كانوا قبل الحرب يضيفون إلي القهوة القشدة. حتي جاءت الحرب فأخذت هذا «الخير» من القهوة مثلما أخذت الخير من كل شيء».
«ولكن صاحب القهوة لم يكن ينتظر تشريف هذه القافلة مقهاه الصغير في رصفة برسي، بجوار محطة ليون. وسمع لغتنا ولهجتنا فاستهتر. وقال: إن بيع اللبن محظور بعد الساعة العاشرة. ونظرت فإذا الساعة لما تبلغ العاشرة بعد. ونظرت فإذا الرجل في يقيني ساخرا منا. فنهضت معبرا له عن أسفي. ونهض الجميع. وكانت قرقعة في الموائد والكراسي. لأن عشرة أشخاص قد نهضوا دفعة واحدة يخرجون».
الإرباك المصري وارتباك الصاوي
ويصف الاستاذ أحمد الصاوي ملامح الإرباك المصري والارتباك الصاوي في المقهى الباريسي:
«ودخلنا بعد ذلك مقهي آخر من مقاهي العمال أو بالأحري هو مطعم من مطاعمهم التي يسلقون لهم فيها اللحم والأرنبيط (هكذا كان الأستاذ الصاوي يكتب ما تعارفنا علي كتابته الآن بالقرنبيط) فأحسنوا وفادتنا، وكانت بنت صاحب المقهى تخدمنا. وانبرت لذلك في رقة وظرف وانعطاف. وكانت قد كشفت عن ذراعين هما ورد ولبن. واستبد الإخوان. فواحد منهم يطلب إلي أن أوصي له بالشوكولاته، والثاني بالكاكاو، والثالث بالشاي، والرابع بالقهوة، والخامس بالجبن والزبد والمربي الخ الخ..
“وكان لابد من ترجمة هذا كله… وكانوا فرقا وشيعاً… فاثنان منهما يدفعان معا.. وثلاثة يدفعون معا.. وأربعة يدفع كل منهم عن نفسه!… فانظر نقودهم وأضبط حسابهم وأخلصهم من أنفسهم، ثم أخلصهم من أصحاب المقهي!… وكان أسهل من ذلك كله الدفع لهم!!».
رحلة البحث عن الدكتور عابد
ثم يصور الأستاذ الصاوي قصة طريفة قد لا نتعجب من تفاصيلها لأننا نعرفها حق المعرفة، فقد مررنا جميعا بمثيلاتها ، ولكننا مع ذلك نعجب بقلم الأديب الفنان الذي يصورها علي هذا النحو الجميل الدقيق:
«وكان أحدنا مريضا، أصابه دوار الباخرة ولبث فيها مريضا وسافر في القطار أربعة عشرة ساعة مريضا ونزل باريس وهو مريض، وكان ساخطا متذمراً شاكياً مستثقلاً نفسه علينا متألما من تعبه ومشيه. وكان لابد لنا من أن نأخذه إلي الطبيب، ولكن ما حيلتنا أول وصولنا باريس؟ فتذكرت عنوان طبيب هو شقيق زميل لي في مصلحة المناجم والمحاجر التي كنت موظفا بها. ومعي خطاب له. ولكن لابد من فتح الحقائب لنجد الخطاب. والحقائب تركناها في «الأمانات» بمحطة ليون»
«وكنت أذكر أنه «الدكتور عابد» ويسكن شارع لافاييت. فسألنا عن هذا الشارع من رجل البوليس فدلنا علي «الامنيبوس» الذي يقودنا إليه. فأخذناه. وإني أشفق من وصف حسابنا مع الكمساري ، وحساب الكمساري معنا. وكانت بيد أحدنا ورقة بخمسة فرنكات أو زعم أنه كانت في يده خمس فرنكات، فلم يجد فيها شيئا!… وكنا حديثي عهد بالنقود لابد أن نقرأ عليها عددها ونقلبها وجها لظهر… ونتردد في الاختيار بينها… “
تقديس أثر الزمان
“.. وصلنا إلي ميدان الأوبرا ورأينا دار التمثيل الذائعة الصيت زرقاء سوداء كأنها النحاس الصدئ… فدهشنا.. كان ذلك جديدا علينا.. وتساءلنا لماذا لا ينظفون الأوبرا… وبعد ذلك فهمنا أن لطابع الزمن قيمته عندهم. فهم يقدسون كر الغداة ومر العشي وما تصبغ بآثارهم ودور فنونهم من ألوان … ويحترمون فعل الدخان وفعل الشمس وفعل المطر وفعل الثلج».
السير في شارع لافاييت
ونمضي مع الأستاذ الصاوي وهو يسير في شارع لافاييت علي نحو ما لاتزال رموزنا المصرية [أوالشبيهة بها] تسير جامعة في سيرها بين الاندهاش والتعبير عنه، والفوضي وتكرارها، والسعادة ومظاهرها، والحيوية وتدفقها:
«جعلنا نسير في شارع لافاييت. وزعمنا أنه شارع مثل شوارعنا لا نلبث أن نجد فيه بغيتنا. والقافلة علي ما يجب أن تتخيل من قلانس ومن أزياء متنافرة الألوان مع الوسط الذي تسير فيه، ومن علب الطرابيش المصنوعة من الصفيح الأحمر والصفيح الأزرق والصفيح الأصفر… وفي وسطنا ذلك المواطن الشاحب المريض ضيق الصدر بنفسه وبنا وبالناس جميعا..”
“واذا بهذه القافلة لا تعرف كيف تسير «علي بعضها» لأن كل شيء كان يلفت النظر: النساء، والمحال التجارية، والسيارات والجو، والمترو، والضجيج، والحركة، والعاملات… فإذا بعضنا يسير علي رصيف، والآخرون علي رصيف آخر… واذا بعضنا يقف أمام واجهة حانوت، متأملا معجبا مندهشا أو مستنكرا ، والبعض الآخر قد ساروا شوطا وخلفوه وراءهم. والمريض يزداد مرضا”
“و شعرت أنا قائدهم بأنني المريض حقا لا المريض. وشعرت بأن شارع لافاييت – وهو فعلا من أطول شوارع باريس – لا ينتهي. وشعرت بسخف قيادتي وذل جهلي. وضاقت في عيني باريس واستنكرت هذه الجلبة وهذه الحركة وهذه الشوارع التي ليس لها آخر وهذا السير علي غير هدي».
سؤال الصيدلية
«وهداني الله إلي أن أتجه إلي أجزخانة ، فدخلتها ودخلها ورائي منهم ثلاثة أربعة خمسة… وسألت عن «الدكتور عابد» وهل يعرفونه؟! وكان السؤال في نظري بديهيا إلي درجة تدعوني الآن إلي الابتسام من سذاجته إذ كنت أعتقد أنهم سيجيبونني من وحي الخاطر وسيقولون لي إن الدكتور عابد جارنا وأنتم لا بد من مواطنيه.. والحمد الله علي السلامة وكيف حال أهل مصر».
«ولكنهم مع ذلك كانوا مثال الدماثة ورقة الطبع، ففتحوا أمامي لدهشتي كتالوجا ضخما يضم آلاف الصفحات وأخرجوا باب «شارع لافاييت». ونظروا في هذا الباب حرف «ع A»… وأخرجوه للحال فقالوا لي: نمرة 83 “
نهاية مغامرة تقليدية
وتتواصل المغامرات التقليدية المحدودة الطريفة:
«وخيرونا بين ركوب الأمنيبوس أو المشي ثلاث أو أربع محطات أخري. فاستخرنا الله في المشي. وكيف يمكن أن أرضي بغير ذلك وأنا أعرف مشكلة انتظار الأمنيبوس واستحالة وجود عشرة محلات في مركبة واحدة. بل واستحالة وجود محل واحد في أحوال كثيرة. وأعرف مشكلة العد والصرف والحساب… وأعرف مشكلة الاثنين اللذين حسابهما معا، والثلاثة الذين حسابهم سويا، والأربعة الذين كل منهم يحاسب علي حدة!».
«سرنا علي مضض. وقد بدأنا نتعب فعلا. ونتعب عن حق بعد سفر 14 ساعة بسكة الحديد ليلا لم نكد نذوق فيها النوم إلا سنة… ونتعب لجهلنا بكل ما حولنا. وجهلنا بما ينتظرنا… وكنا عطاشي لا نجد كوب ماء… ولا يوجد باعة شربات في حوانيت.. أو باعة عرقسوس في الطرقات!
” ووصلنا بعد لأي وعذاب وسألنا البوابة فأخبرتنا بأن الدكتور عابد في الدور الأول إلي اليسار. ووجدنا أمامنا عاملا يدق الجرس يحمل صندوقا من زجاجات مياة فيشي وإفيان… ونظرت الخادمة إلي تلك القافلة تملأ درج البيت… وسألتها عن الدكتور… وإلي جانبي مريضنا… فإذا هو منصرف عن داره لوجوده بالمستشفي. وإذا هي لا تنتظر عودته قبل الساعة السادسة مساء!
«أف لهذا الطالع!… لقد زاد المرض علي مريضنا وزدنا وهنا علي وهن وضقنا ذرعا. لا نعرف كيف نتوجه. وكان الظهر قد فات. وبدأنا نشعر بالتعب والجوع. فتذكرت أنه ليس أمامنا إلا حل واحد هو أن نقصد من فورنا دار البعثة المدرسية المصرية بشارع المدارس رقم 24 – وكنت لا أعرف أن «التاكسي» رخيص إلي الحد الذي هو عليه في باريس فجازفت بميزانياتنا الصغيرة ……!» … وركبنا سيارتين إلي الحي اللاتيني…».
طه حسين في مونبلييه
نترك باريس ونعود بعد هذه الزوايا السبعة إلي طه حسين وهو يتحدث عن حياته في مونبلييه التي ابتعت اليها قبل أن ينتقل في سفرة ثانية إلي باريس فيبدو سعيدا راضيا بكل ما في تلك المدينة.
«واستقبل الفتي حياته في مدينة مونبلييه سعيدا بها إلي أقصي ما تبلغ السعادة، راضيا عنها كأحسن ما يكون الرضا، فقد حقق أملا لم يكن يقدر أنه سيحققه في يوم من الأيام».
«وكان يكفيه أن يفكر في صباه ذلك البائس الذي قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا، تشقي نفسه في الأزهر، ويشقي جسمه ونفسه في حوش عطا، حياة مادية ضيقة عسيرة كأقسي ما يكون الضيق والعسر، وحياة عقلية مجدبة فقيرة كأشد ما يكون الإجداب والفقر، ونفس مضيعة بين عسر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية، ثم يوازن بين حياته تلك وبين الحياة الجديدة التي أخذ يحياها في هذه المدينة الفرنسية، لا يحس جوعا ولا حرمانا ….”
طه حسين يحكم بين رفاقه في شئون الحب
ويتحدث طه حسين عن الدور الذي قدر له أن يلعبه وهو طالب جديد في مونبلييه حديث العهد بفرنسا حيث أصبح وجد نفسه و قد أصبح حكما في الخصام الذي يقع بين زملائه بسبب مغامراتهم العاطفية، وهو يعترف أنه أصبح حكما لأنه لم يكن له شأن بالحب حتي ذلك الحين!!
«… يحيا الفتي حياة ليست حلوة ولا مرة، ولكنها تُمرر في أول النهار، وتحلو في آخره حين كان الفتي يلقي رفاقه ويسمع لأحاديثهم، ويقضي بينهم فيما كان يعرض لهم من المشكلات، وما أكثر ما كان يعرض لهم من المشكلات، ومن مشكلات الحب والغرام خاصة!».
«وكيف تريد فتية من المصريين أن يعيشوا في فرنسا ويختلفوا إلي القهوات والأندية وبعض ما يقام من الحفلات بدون أن يداعبوا الحب، أو يداعبهم الحب، وبدون أن تقسو عليهم دعابة الحب بين حين وحين؟”
“ومن ذا الذي يستطيع أن يمنع صديقين من أن تروقهما فتاة واحدة، وإذا هما يلتمسان إلي لقائها الوسيلة، فإذا أتيح لهما هذا اللقاء ابتغيا عندها مواقع الرضا، ثم لا يلبث أن يكون بينهما التنافس، ثم الخصومة، ثم التلاحي، ثم الفُرقة، أيهما ظفر عند صاحبتهما بالرضا فهو عدو لصاحبه الذي أخلفه الظن، وكذبه الأمل، ولم يقع من نفس الحسناء ما كان يرجو من موقع الرضا والارتياح، ولا تلبث هذه الخصومة بين الرفيقين أن تتجاوز الحب إلي غيره من ألوان الحياة التي كانا يتعاونان عليها، ويشتركان فيها».
«وإذا صاحبنا (أي طه حسين نفسه) يصبح قاضيا بين رفاقه في شئون الحب، وليس له أرب فيه، ولا سبيل إليه، وأنّي له بشيء من ذلك وهو المكفوف الذي لا يحسن شيئا حتي يعينه عليه معين، وهو لا يري وجوه الحسان، ولا يعرف كيف يتحدث إليهن، أو كيف يبتغي إلي رضاهن الوسائل، فهو يغدو علي الجامعة مصبحا، فإذا راح إلي منزله آخر النهار لم يبرحه حتي يسفر له صبح الغد، والرفاق يلمون به في آخر النهار وأول الليل، فيختصمون بين يديه ويتخذونه حكما بينهم، وهو يصلح بين المختصمين مرة، ويقضي لبعضهم علي بعض مرة».
د. الفيومي يصور الضياع في باريس
وهذه زاوية تاسعة أجاد الدكتور محمد إبراهيم الفيومي من خلالها وصف حالة الضياع التي صادفته في مطار باريس وهي الحالة التي تواجه الذين يسافرون إلي الخارج معتمدين علي أن هناك مَنْ يستقبلهم ويهيئ لهم أمورهم ثم لا يجدون هذا المستقبل لسبب أو آخر.
ومن الطريف أن نقرأ هذا التصوير الدقيق والمؤثر الذي يقدمه أستاذ فلسفة أزهري معاصر درس الأدب وأحبه فإذا به ينتصر للأدب والصور الأدبية علي ما كان عرفه من توقيت الزمن الذي وصل فيه، وعلي ما يراه من مظاهر الطبيعة التي قد تدله عن الوقت علي سبيل التقريب:
«وفي مطار باريس هبطت الطائرة، وكنت أول مرة أركب فيها طائرة، وأول مرة أخرج من طائرة، فكنت أتعلم من الركاب ما يفعلون ومضيت أفعل مثلهم، وصرت أحاكيهم فيما يبدونه من أفعال حتى وجدت نفسي علي باب المطار في الخارج ومعي حقائبي أجرها علي “عجلة” من عجلات المطار، غير أنني كنت أتصور أن عليّ ثمن تأجيرها”
” وعلي باب المطار الخارجي وقفت أنظر هنا وأنظر هناك فلا شمسا أري، ولا نهارا، ولا قمرا أري، ولا ليلا، وكأننا بعد الفجر بقليل، أو قبيل المغرب، فلا أدري تماما في أي الوقتين نكون أقبيل المغرب أو بعيد الفجر؟ تاه مني الزمن».
«وعلي رصيف المطار طال انتظاري وتشتت رؤاي مع حركة باريس الدائبة، وسعي أناسها المتواصل، ونسيت تماما انتظاري الذي طال كثيرا، انتظار ذلك الزميل الذي كلفه أخي وصديقي د. أحمد خضير باستقبالي وأبرق له بموعد الوصول ورقم الطائرة، لم يأت ذلك الزميل، لم يحضر، طال انتظاري، ماذا أنا فاعل الآن؟ إلي أين أتوجه؟».
التجربة المتكررة للمصري الجديد علي باريس
ثم يتحدث الدكتور الفيومي عما يمكن لنا أن نسميه المصادفة السعيدة أو التجربة المتكررة أو الشائعة التي تنقذ الإنسان المصري الجديد في باريس:
«… لكني أحسست بعدما فقدت الأمل في عدم لقاء زميلي بصدمة، وخارت عزيمتي أمام تسلل مشاعر الوحدة الأليمة: وحيد في أرض غريبة اللغة واللسان، وتذكرت أني تركت زوجتي وقد وضعت مولودها الأول البكر ولدي إبراهيم وهو في شهره الأول، وانتابتني ذكريات الهموم، وكدت أن أستلسم لها لولا أن الله تداركني”
” ومن غير أن أدري ارتفع صوتي مناديا “تاكسي”، فسألني عن وجهتي، فتكلمت معه بصعوبة وتفهمني بصعوبة، ثم أعطيته العنوان.. وحين أحس بغربتي نزل وأعانني علي حالي، وحمل حقائبي وذهب بي إلي المدينة الجامعية، وأخذ يبحث عن ذلك الزميل فلم يجده، فلما رأيت منه ذلك شكرته وحاسبته، وأنزل معي حقائبي ووضعتها بجانبي خارج المدينة الجامعية وجلست بينها واضعا رأسي علي يدي، واستغرقني تفكير عميق في الحزن الشديد، فلا معرفة لي بذلك البلد تقودني إلي حيث السكن، ولا زميل يرفع عن كاهلي غبار السفر، وعبء المجهول الذي احتواني، ولا أدري إن كان أقبل الليل، أو تفتح الصباح، ولا أدري إلي متي يطول بي الانتظار”.
” وبينما أنا كذلك ، إذ وقعت عيناي علي شاب توسمت فيه الملامح المصرية، فناديته بالعربية فأقبل علي وحياني بالعربية، فقلت له: أنت مصري” فقال: نعم. فقلت: أتسكن في المدينة الجامعية؟ فقال: نعم.. أسكن في المدينة الجامعية، فقلت له: تعرف فلانا؟ قال: نعم، قلت له: أنا ضيفه.. إلخ، فابحث لي عنه، فقال لي: تفضل عندي في السكن حتي أبحث لك عنه، فأقمت عنده يوما وليلة، وكان شابا مسيحيا يدعي بهاء، فأكرم وفادتي، وخفف عني عبء الغربة، وشد من عزمي، ودامت علاقتي به فكان صديقا بمعني الكلمة، وفي الغربة تظهر معادن الرجال”
” ثم جاء أخيرا ذلك الأخ الذي أخذ يتكلم عن سبب تأخره بكلام لا يفهم، فقد أخذت الدرس وأحلت مصادفة لقائي ببهاء الطمأنينة بالنفس، ورب صدفة خير من ألف ميعاد، فطلبت من ذلك الزميل أن يقوم بتعريفي بما يجب علي عمله، وصاحبني حتي ذهبت إلي السفارة، وقدمت أوراقي في السوربون وفي مدرسة الاليانس فرنسيس».
لويس عوض يتمنى التشرد في الحي اللاتيني
وهذه هي الزاوية العاشرة تتبدي في فقرة طريفة يصور فيها لويس عوض [بالعامية التي يفتعلها افتعالا] وصوله إلي الحي اللاتيني عام 1937، وهو في طريقه إلي بعثة في كامبريدج (بريطانيا)، وهو يتحدث بمنتهي السعادة عن وصوله إلي الحي الذي تشرد فيه زكي مبارك، وأحمد الصاوي محمد، وتوفيق الحكيم، متمنيا أن يصل إلي ما وصلوا إليه من تشرد وكتابة:
يعرفون لوكاندة
«إحنا وصلنا باريس الصبح، ما أعرفش الساعة كام، كان أول حاجة عملناها طبعا تاكسي وع اللوكاندة وأرمي العفش وحمام ، ويالله إحنا أحرار، اللوكاندة اللي نزلنا فيها ـ أنا فاكر كويس ـ كانت ف شارع مونج في الحي اللاتيني، مش فاكر بكام بالضبط، إنما غالبا حسبة 25 فرنك ف الليلة، افتكر عمار بتاع الجغرافيا (يقصد: الدكتور عباس عمار وزير المعارف فيما بعد) كان معاه عنوانها من الأول لأني سمعته بيقول إن الدكتور حزين مدرس الجغرافيا (يقصد: الدكتور سليمان حزين وزير الثقافة فيما بعد) بكلية الآداب كان بينزل فيها كل ما كان يفوت ف بارس، دا دليل علي أنه يعرفها من الأول.
” الشاهد، أنا كنت مضطرب طول الوقت، في التاكسي عيني كانت زايغة عاوز أشوف كل حاجة في مدينة النور في دقيقة واحدة، كمان لأني كنت مضطرب لأني وجدت نفسي فجأة في الحي اللاتيني اللي ياما قرينا عنه وكنت بحلم بيه ولسه با أحلم بيه، الحي اللاتيني “
أأنا في الحي اللاتيني
” أنا في الحي اللاتيني حاجة تخلي الواحد يضطرب، أبص حوالي ما ألاقيش حاجة تخلي الواحد يضطرب، كل حاجة عادية، برضه ناس لابسين برانيط وشوارع وبنايات، لكن الفكرة، آه الفكرة، وتعمل إيه في الفكرة، مجرد الفكرة أني في الحي اللاتيني اللي اتشرد فيه كل أدباء مصر خلتني أرتعش، امتي يا ربي أتشرد في الحي ده زي زكي مبارك، والصاوي، وتوفيق الحكيم، امتي يا ربي أتشرد وأكتب زي ما كتبوا؟».
النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014