هل يمكن اكتساب العلم في بلد الملذات؟
دعنا نبدأ الحديث في هذا الباب علي الطريقة الاقتصادية التي تنظر إلي الأمور علي سبيل الإجمال قبل أن تتحدث عنها بالتفصيل.
طلعت حرب يلخص حياة فرنسا العلمية
منذ عشرات السنين لخص طلعت حرب باشا مكانة السوربون من حياة فرنسا العلمية علي نحو جميل يجمع بين المنهجية والتبسيط فقال:
” … وباريس العلم هي باريس السوربون (Sorbonne) ، والسوربون من أقدم الجامعات في الغرب منزلته منه منزلة الأزهر من الشرق من حيث القدم في كليهما والسوربون كما تعلمون تطلق علي كلية الآداب وكلية العلوم. وقد تطلق أيضا علي معهدين ملاصقين لهما روحا وجسدا وهما: كوليج دي فرانس College) (de France ومدرسة الوثائق القديمة (Ecole des Chartes) وهذه المعاهد العلمية تعتبر بمثابة القلب من جامعة باريس. فمن آدابها وتاريخها وفلسفتها يمتد النور إلي كلية الحقوق. ومن علومها الوضعية الطبيعية والكيمائية وتاريخها الطبيعي يمتد ضياء آخر إلي كلية الطب. ومنها جميعا يشرق نور الجامعة الكبري إلي بقية الجامعات في الأقليم، وينعكس إلي قباب الأكاديميات الشهيرة فوق نهر السين.
الطهطاوي يتحدث عن خزائن الكتب في عصره
فيما قبل طلعت حرب تحدث رفاعة الطهطاوي عن عدد من المكتبات العامة والتاريخية في فرنسا في العهد الذي زارها فيه حديثا يجدر بنا أن نتأمل فيما يدل عليه من عراقة مؤسسات البحث العلمي في أوروبا، ومدي ما أتاحته هذه العراقة من تنشئة أجيال محبة للعلم والفكر والثقافة، أو علي الأقل مقدرة لها:
يُعدد الطهطاوي خزائن الكتب الباريسية في عصره :
- الخزانة المسماة “خزانة مسيو”، وتسمي خزانة “الأرسنال”، والأرسنال هي الترسانة، وهي أعظم الخزائن بعد الخزانة السلطانية، وبها نحو مائتي ألف مجلد مطبوعة، وعشرة آلاف منسوخة، وأغلب هذه الكتب كتب تاريخ وأشعار، خصوصا الإيطاليانية [هكذا كان نص رفاعة يكتب الكلمة] ».
- خزانة “مزارينة”، وفيها خمسة وتسعون ألف مجلد مطبوعة، وأربعة آلاف منسوخة».
- خزانة “الانسطيطوت”[هكذا كان نص رفاعة يكتب كلمة المعهد] وفيها خمسون ألف مجلد .
- خزانة المدينة وهي نحو ستة عشر ألف مجلد، وهي دائما في الزيادة، وكتبها آداب .
- خزانة “بستان النباتات”، وفيها عشرة آلاف مجلد في العلوم والطبيعيات.
- خزانة “الرصد السلطاني”، وبها كتب “علم الهيئة”.
- خزانة مكتب الحكمة».
- خزانة “أكدمة” [هكذا كان نص رفاعة يكتب كلمة الأكاديمية] الفرنسيين، وهي خمسة وثلاثون ألف مجلد،
“وكل هذه خزائن موقوفة”.
ثم ينتقل الطهطاوي للحديث عن المكتبات الخاصة والفردية وعن حب الفرنسيين للقراءة التي هي السبيل الأول للعلم في ذلك الوقت.
” وهناك خزائن مملوكة وهي كثيرة جدا، فمنها ما يشتمل علي خمسين ألف مجلد، ومنها للدولة نحو أربعين خزانة، فأقل ما يوجد منها ثلاثة آلاف مجلد، وأكثرها في الغالب خمسون ألف مجلد، وقد تنوف علي ذلك، ولا حاجة لتسميتها هنا، ولكل إنسان من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خزانة كتب علي قدر حاله.
” ويندر وجود إنسان بباريس من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب، لما أن سائر الناس تعرف القراءة والكتابة، وسائر بيوت الأعيان فيها خلوة مشتملة علي خزانة الكتب، وعلي آلات العلوم وأدواتها، وعلي التحف الغربية التي تتعلق بالفنون، كالأحجار التي يبحث عنها علم المعادن ونحو ذلك».
ميتران أنجز مكتبته ضمن أربعة أشياء ثقيلة
ربما جاءت الفرصة لأذكر لك أن المثقفين الفرنسيين يرون الآن (بعد أن راحت السكرة وجادت الفكرة) أن ميتران أنجز أربعة أشياء ثقيلة هي: قوس النصر الكبير الذي صاغه علي نمط الحضارة الحديثة بقسوتها في المعمار، والأهرام الثلاثة التي بناها في اللوفر، والأوبرا التي بناها بالقرب من الباستيل، والمكتبة الوطنية الشهيرة التي أصبحت تحمل اسمه والتي بناها علي السين.
فرنسا لم تتوقف عن الإضافة إلى مقتنياتها
لم تتوقف فرنسا عن الإضافة إلي مقتنياتها من متاحف الثقافة وكنوزها، صحيح أن معظمنا ارتبط في وجدانه بما رواه أجداده عن باريس من قبل، لكن بعضنا يعرف أيضا عن الجديد ما هو أكثر لأنه عرف عن باريس من المحدثين ما لم يره القدامي بحكم الزمن.
صموئيل شمعون يصف غرامه بمركز بو مبيدو
وعلي سبيل المثال فإن مركز بو مبيدو نال الكثير من هجوم المثقفين التقليديين (بمن فيهم أهل مصر الذين يزورون باريس)، والذين رأوا فيه طابعا حديثا أو حداثيا لا يليق أن يوجد إلي جوار كنوز باريس، لكن المحدثين من العرب يقدرون هذا المركز حق قدره، انظر إلي الروائي العراقي صموئيل شمعون وهو يصف غرامه بهذا المركز منذ أن عرفه:
«مشينا بضع دقائق فأشار مصطفي (الحداد) إلي مبني ضخم “هذا هو مركز بومبيدو، وأنا واثق أنك ستحبه”، قال لي وغادر».
«لم يكن مصطفي يعلم وهو يدلني علي “مركز بومبيدو” أنه كان يقدم لي أجمل هدية تلقيتها طيلة حياتي، كان مركز بومبيدو المنجم الذي سأنهل منه كل ما كنت قد حرمت منه طيلة سنوات عمري الثماني والعشرين. في تلك الظهيرة، كنت مأخوذا وأنا أسير بين رفوف المكتبة المليئة بكتب الآداب والسينما والموسيقي والعمارة والفن التشكيلي والقواميس، حتي كتب المطابخ أثارت اهتمامي، “كم أتمني لو أسجن هنا”، قلت في نفسي، وأنا أجلس علي الأرض أتصفح عشرات الكتب التي تتحدث عن صناعة الأفلام، وكيفية كتابة السيناريو، وسيّر وتجارب السينمائيين».
أنور عبد الملك يصف تفرغ عبد الرحمن بدوي للعلم
أما التفرغ للعلم في باريس فتصوره ، كما نعرف جميعا ، حالة الدكتور عبد الرحمن بدوي وهي الحالة التي وصفها تلميذه الدكتور أنور عبد الملك فقال:
«… مازال أستاذنا الجليل يعمل يوما بعد يوم في باريس بعد الكويت، ينتج نحو أربع مجلدات كل عام، مازلت أستمع إليه في جلسات دافئة تجمع بيننا صباح الأحد أمام نهر «السين» حول الوجود والزمان، ومصر: دوما، بداية ونهاية».
الفنان مختار يصف التكوين العلمي للبوزار
تحدث الفنان محمود مختار عن زيارته الأولي لمدرسة الفنون الجميلة في باريس فقال:
«أما مدرسة الفنون الجميلة العالية التي كنت أقصدها هناك فنظامها كنظام الأزهر هنا عبارة عن (ateliers) ورش فنية يتولي كل ورشة منها أستاذ فكأنها أروقة، وهؤلاء الأساتذة شيوخها. فيتصل التلميذ بأحد هذه الأقسام ويرتبط اسمه طول حياته باسم أستاذه رئيس قسمه، وكان أستاذي هو المسيو كوتان (Cotan) عضو المجمع العلمي، ومن كبار المثالين ومن أعماله أحد أعمدة جسر اسكندر الثالث».
«وكان معي ثلاثة خطابات توصية: أولها من ناظر المدرسة بالقاهرة إلي المسيو كوتان الذي كان عارفا بحضوري. والثاني من الأمير يوسف كمال إلي مصور تركي يعرفه اسمه «غالب بك». والثالث: من سكرتير المدرسة إلي عثمان باشا غالب».
«أما أصحاب الفندق فكانوا في الصباح غاية في اللطف وسألوني عن منامي، كالعادات الفرنسية، وسألتهم عن عنوان أستاذي وذهبت إليه فكان اللقاء حسنا جدا وكان يسكن فيلا وهو رجل طويل منيف في الرجال كان له أكبر تأثير في نفسي. وعرضت عليه صور أعمالي في المدرسة فأسدي إلي نصائح فهمت بعضها ولم أفهم البعض الآخر. ولما كنت قد وصلت في إجازة الصيف فقد نصحني بالذهاب إلي أكاديمي من أكاديميات الفنون الحرة أعمل فيها حتي تفتح المدرسة أبوابها وكتب إلي المدرسة بقبولي وهو شرط لدخولها لابد منه. وذهبت إلي غالب بك المصور التركي فلم تكن لمقابلته نتيجة تستحق الذكر».
بهجة السير في الطرقات الجميلة
«وبعد الظهر ابتدأ شعوري يتحسن عن باريس لأنني خرجت إذ شجعني أصحاب الفندق علي المسير في الطرقات الجميلة، وكان أول شارع بدهني هو «بولفار رسباي» فبهرت من جماله. وقصدت أكاديمي «كولاروسي» وهي من أقدم الأكاديميات ولم أكن متعودا بعد علي الحياة البوهيمية لأنني استأت من قدم البيت وعدم وجاهته وكنت لم أدرك بعد معني الفن للفن».
……………………………………………………………………….
سهير القلماوي و بعثة الدراسة الحرة
أجادت الدكتورة سهير القلماوي الحديث عن فكرة بعثة الدراسة الحرة وهي بعثة أتيحت لها في باريس فأعلت من شأن ثقافتها دون أن تكلفها توتر الامتحانات والشهادات.
«…. جاء المنعطف الثاني الهام في حياتي، وهو إغراء بعثة إلي باريس فريدة في نوعها. فقد كانت تنص علي أن ليس المطلوب مني أداء أي امتحان طوال أربع سنوات، وأن لي حرية السفر علي نفقة البعثة إلي إنجلترا وألمانيا للاطلاع. كل ذلك للتحضير لدرجة الدكتوراه علي أن أعود للامتحان في القاهرة».
«وهنا كانت الفائدة الأعظم تعلمت الكثير علي طريق البحث والتأليف «الأكاديمي» ورأيت أساتذة تركوا في نفسي أروع الآثار. أذكر علي سبيل المثال «كاريه» الذي أكرر قولته لي إلي اليوم لطلابي: «لست حريصا علي أن تعطيني إجابة صحيحة علي السؤال، وإنما حرصي كل الحرص أن تسألي السؤال الصحيح».
«كم ذا يحتاج الجديد أن يتعلم كيف يسأل، وعن ماذا يسأل قبل ان يحرص علي الرد الصحيح علي السؤال المطروح!».
صلاح أبو سيف و تعلم الفن الحقيقي
أما المخرج الكبير الفنان صلاح أبوسيف الذي تعلم في باريس قبيل بداية الحرب العالمية الثانية فيشير باعتزاز إلي أنه تعلم الفن الحقيقي في باريس. علي أن الأمر الطريف الذي واجهه صلاح أبو سيف في أول عهده بباريس كان وجوده بمفرده بين قسم كان كل العاملين فيه من الجنس الآخر:
«وفي باريس ذهبت إلي استوديو «كلير» الذي يعتبر من أهم استوديوهات العالم، وبدأت في دراسة المونتاج، وهناك شعرت بالوحدة الشديدة، فكل العاملين معي كانوا من الجنس الآخر، مما دفعني للالتحاق بقسم آخر، هو الإخراج، وقابلت مخرجا تعامل معي باعتباري أفريقيا من المستعمرات، وظل علي هذا الحال إلي أن قام بتصوير مشهد في أحد أفلامه يدور في أحد المقاهي، وأحسست بأن هناك شيئا غير صحيح في المشهد وأخبرته أن الممثلة التي تتنكر في زي رجل قد تصرفت كامرأة، وليس كرجل، مما جعله يعيد إخراج المشهد ، وكان هذا بداية لأن أكون قريبا منه».
أبو سيف يتحدث عن التعلم الذاتي: سينما “دورسلين
ويشير الأستاذ صلاح أبو سيف إلي فرصة التعلم الذاتي الذي يمكن للمقيم بباريس أن يكتسبها بسبب وفرة العلم والفن من حوله.
«في تلك الفترة كانت سينما “دورسلين” تعرض برنامجا لمدة أسبوعين، بشكل تجريبي، كأن تعرض أفلاما من ثقافات مختلفة لمخرجين قرأت عنهم ولم أتمكن من رؤيتها بعد، مثل فيلم «المدرعة بوتمكين». فقد تمكنت من رؤية المشهد الشهير الذي يدور في سلم الأودسا، وكانت هذه هي السينما الحقيقية، فقد كنت أدون ملحوظات علي الأفلام، وخاصة المونتاج، وما إلي ذلك، وقد أدركت أن المونتاج هو أساس صناعة السينما.
«وارتبطت بالحياة الباريسية إلي أن قرأت يوما خبرا مثيرا عن اندلاع الحرب. وأنا الذي تصور أن المفاوضات السياسية سوف تنتهي إلي السلام».
شهد اندلاع الحرب العالمية
«وبدأت القنابل تسقط علي باريس، وكان ذلك بداية الفزع بالنسبة لي، وبدأت أدخل المخابئ خوفا من القنابل، وتولدت لدي حاسة الشعور بسقوط القنابل، حيث كنت أشعر بدنو سقوط القنابل فأهرب إلي الملاجئ».
«بدأت شوارع باريس تخلو من الرجال، حيث ذهبوا جميعا إلي الحرب، وكنت أتصور أن الحرب سوف تنتهي. ولكن الوقت طال وعرفت أن الباخرة «النيل» قادمة من أجل جمع المصريين، وسافرنا بالقطار إلي مارسيليا واستغرقت الرحلة أربعة أيام.
” وفي القطار كانت هناك مجموعة من الألمان تتحدث فيما بينها بحماس، وسألني أحدهم عن الساعة بالألماني فرددت عليه بالألماني، مما جعلهم يتصورون أنني فهمت كل هذا الكلام السري الذي كانوا يتبادلونه.. وكانت أعجوبة فعلا أن أتمكن من الهروب”.
«كان علينا الانتظار تسعة عشر يوما كاملة للإبحار من مارسيليا فوق ظهر الباخرة، واحتشد في المركب أغلب المصريين الذين كانوا في أوربا، ومنهم طه حسين وزوجته، وأحمد الصاوي محمد، وراح الحديث يجمعنا، ما أمتعه من حديث في أوقات الانتظار».
تعلم في باريس فن الهوى
ويعترف صلاح أبو سيف بأنه تعلم في باريس أيضا فن الهوي، وذلك علي النحو الذي أجاد هو نفسه تصويره في الفيلم الشهير «شباب إمراة» المأخوذ عن رواية أمين يوسف غراب، ومع أننا معشر القراء قد نري أن المؤلف لم يترك الفرصة للمخرج كي يضع مثل هذه التفصيلات فإن صلاح أبوسيف نفسه يعترف بأنه قدم فن الهوي في هذا الفيلم علي نحو ما تعلمه من خلال تجربة عاطفية في باريس:
«أصبح علي أن أترك ورائي أول قصة حب في حياتي، حيث تعرفت أنا الشاب الصغير علي امرأة في الخمسين. علمتني كأنها معلمة كيف يكون الحب والجنس. وقد استلهمت من قصتي معها فيلم «شباب امرأة» فيما بعد».
د.الفيومي يعبر عن معاناة المصريين بعد 1967
أما الدكتور محمد إبراهيم الفيومي فقد عبر بوضوح عن معاناة المصريين من بعض الفرنسيين اليهود بعد هزيمة 1967، وكان الفيومي قد قضي فترة تجنيده في الجيش وأنهاها في 1970 وسافر إلي بعثته في سبتمبر 1971:
«في فرنسا لحقتني مشاعر الهزيمة، عندما اتخذت سبيلي إلي السربون لأقدم بعض أوراق طلبتها مني إدارة كلية الآداب، ثم كلمتني المسجلة بعدما تصفحت الأوراق قائلة: لماذا لا تشترك في البطاقة الصحية ؟ فقلت لها: إنني عضو بعثة الدولة المصرية، وأمورنا الصحية تشرف عليها سفارتنا ، ما قلته هو الواقع ، لكنها نظرت إلي وقالت: إذا كانت مصر فقيرة فإن في استطاعة إسرائيل أن تقوم بالمصاريف عنك في كل شيء”
” نظرت إليها بامتعاض ، وانصرفت مستغرقا في حال مصر ، وحال الشباب وفكرة أني كنت معه بالأمس مجندا، يؤرقنا مصير مصر، وكيف أصبح حالنا مثارا للسخرية”
“ذكرت الواقعة لزميل لي فقال: إنها يهودية، وليست فرنسية، انظر إلي أنفها تجده طويلا، ذكر ذلك كصفة مميزة لليهودي”
“ضحكت وذكرت الجاحظ حين كان يكتب عن خصائص الشعوب أو الناس أو الأجناس».
التجليات البوهيمية في تقاليد الطلاب
علي أن العلم والفن يقتضيان بالطبع تقاليد موازية تنظم لطلابهما حياتهما وتحررها من رواسب الماضي. وقد تكون هذه التقاليد نظماً أو تجليات بوهيمية، وقد تكون نظماً عسكرية، ومن حسن الحظ أن أصداء باريس حافلة بهذه وتلك.
وهذه تجربة مثيرة مع التقاليد البوهيمية عاشها طالب الفنون الجميلة الفنان محمود مختار رغم أنفه في باريس حين أصبح طالبا ، وهو يحكي عن تقاليد تلك المدرسة العريقة حديثا يذكرني بما كان يحدث معنا في الأسابيع الأولي في مدرسة المتفوقين النموذجية وقسمها الداخلي في مصر، ولست أقول مع الفارق فقد كنا في واقع الآمر لا نقل عبثا ولا إجراماً عن هؤلاء الفرنسيين:
«…. ومن تقاليد المدرسة التي لا تستطيع إدارتها معها حولا أن الطلبة الجدد يعاملون بطريقة الجندية أي أن طالب السنة الأولي يظل فيها خادم طالب السنة الثانية. وهكذا يحكم عليه بأن يكنس الورشة ويعد المواد التي يشتغل منها زملاؤه القدماء. وهناك «الكابورال» رئيس الجدد كالشاويش يوزع الأعمال. أما (le massier) فهو الألفة وأمين صندوق الورشة وممثلها في الحفلات. والجدد يخدمون القدماء في الداخل والخارج حتي أنهم ينقلون عفشهم إذا انتقلوا من بيت إلي بيت، فهم كالعريف في الكتاب إذا أراد دخانا أرسل التلميذ يشتريه له، ونحو ذلك…
وتحدث في هذا الصدد حوادث غريبة بوهيمية حقا، ومن ذلك أن آحد القدماء صعد إلي مسكنه بالطابق الثالث يدخن غليونه، وأمر التلميذ الجديد بأن يفسح الطريق لبصاقه، فوقف الجديد في وسط الشارع وبيده عصا طويلة يصد بها الناس عن المرور في دائرة بصاق القديم!… والناس ينظرون ويعجبون ويزدحمون ويضحكون، لأنهم يعرفون شذوذ طلبة الفنون».
ولا مندوحة من الطاعة
” ولا مندوحة للجدد أبدا من الطاعة مهما كبرت سنهم وطالت لحاهم!… ولابد للجديد من أن يدفع للقدماء تكاليف دعوة يشربون فيها نبيذا ويأكلون محارا (huitres) وخبزا وسردينا بحسب المبلغ الذي يتبرع به الجديد وبحسب مقدرته. والشهر الأول عادة كله دعوات ومآدب وكل جديد يدفع بدوره تبعا لذكائه أو غفلته وخفته أو ثقله!…
تجربة محمود مختار في أول عهده بالبوزار
ويلخص الفنان محمود مختار تجربته هو نفسه في أول عهده بالمدرسة فيقول:
” ولما وصلت نبهني أستاذي إلي هذه الدعابات التي تقسو أحيانا حتي يموت منها بعض الطلبة لإسرافهم في المزاح (إذ وضعوا مرة تلميذا جديدا في المجاري حتي اختنق)، ووضعوا آخر في برميل وتركوه يصرخ فيه علي رصيف السين حتي ساقه (رجل) الشرطة إلي القسم. أما إذا غضب الجديد فالويل له، وقد يودي الأمر إلي خروجه من المدرسة نهائيا.
” ولقد كان نصيبي كجديد أن يحكم علي بالتجرد من جميع ثيابي وأبقي عاريا تماما ولم تكن تنفع مقاومة أو شفاعة. فرضخت من فوري كما رضخ زملاء لي من قبل فشدوا وثاقي إلي كرسي وأنا عار كما ولدتني أمي ووضعوا علي رأسي تاجا من الورق علي شكل فرعوني وكتبوا عليه «رمسيس الثاني». وحملوني علي نقالة رفعوها علي أكتافهم وخرج موكب الطلبة في جموع غفيرة يتقدمنا من يفسح لنا. وسرنا كذلك من المدرسة إلي عرض الطريق حتي كنيسة «سان جرمان دي بريه» في آخر شارع بونابرت. وكان المطر يتساقط رذاذا فوصلنا إلي قهوة بونابرت والناس من حولنا ينظرون ويبتسمون وهم جميعا يعرفون عادات مدرسة الفنون الجميلة وتقاليدها.
” وهناك وضعوني كما أنا علي خوان في المقهى وطلبوا طعاما وشرابا وجعلوا يرمونني بالفضلات وقشر المحار وكأنهم يقدمون إلي ، علي طريقتهم ، الزلفي والقرابين.
” وتولي اثنان منهم إطعامي لأنني كما سلف القول كنت مقيدا وكان بيننا طالبات أيضا مشتركات في هذا الاحتفال…
” هذا، وغير هذا مما يشابهه ومما اشتركت فيه، قد خلق في للحال انطلاقا من قيود المحافظة وحبا في الحرية وتكسير أغلال الكلفة… فهو يعد من الانقلابات التي طرأت علي نفسي وكان لها أثر فيها طول حياتي».
طه حسين يستعيد ذكريات سعادته في رحلته الثانية
يستعيد طه حسين ذكري السعادة التي خيمت علي مشاعره في حياته في باريس في سفرته الثانية للدراسة مقدماً وصفا دقيقا ينعكس فيه أثر حبه الذي استولي عليه وشوقه لصاحبته التي عرفها، وارتبط بها ويقول:
«كانت حياة الفتي في باريس حلوة مرة، ويسيرة عسيرة، لم يعرف فيها سعة ولا دعة، ولكنه ذاق فيها من نعمة النفس، وراحة القلب، ورضا الضمير ما لم يعرفه من قبل، وما لم ينسه قط.
” كانت حياته المادية شاقة، ولكنه احتمل مشقتها في شجاعة ورضا وسماح، لم يكن راتبه يتجاوز ثلاثمائة من الفرنكات، كان يدفع ثلثيه في اليوم الأول أو الثاني من كل شهر ثمنا لمسكنه وطعامه وشرابه، وكان يدفع نصف الثلث الذي كان يبقي له أجرا لسيدة كانت تصحبه إلي السوربون مصبحا وممسيا، ليسمع فيها دروس التاريخ علي اختلافها، وتقرأ له بين ذلك ما شاء الله من الكتب حين لا يخلو له ذلك الصوت العذب الذي كان قد رتب له ساعات بعينها في النهار، ليقرأ له فيها روائع الأدب الفرنسي”.
” وكان يستبقي فضل مرتبه بعد ذلك لينفق منه علي ما يعرض من حاجاته اليومية، فأما أمر كسوته فقد تركه إلي الله لأن مرتبه لم يكن يتسع له».
الجدية التي فرضها طه حسين على نفسه
ومن المفيد ان نتأمل في مدي الجدية التي سيطرت علي حياة طه حسين في سنته الأولي في باريس:
“وأنفق السنة الأولي من حياته في باريس لا يخرج من بيته إلا إلي السوربون، فكان سجينا أو كالسجين، لم يذكر قط أنه خرج من باريس إلي ضاحية من ضواحيها في أيام الراحة التي كان رفاقه ينفقون فيها أيام الآحاد”
” ولم يذكر قط أنه اختلف إلي قهوة من قهوات الحي اللاتيني التي كان رفاقه الجادون يلمون بها بين حين وحين، وكان أكثر الطلاب المصريين يختلفون إليها أكثر مما كانوا يختلفون إلي الجامعة، وإنما كان يلزم بيته في أيام الراحة لا يفارقه، وربما خلا إلي نفسه اليوم كله في غرفته، إلا أن يلم به ذلك الصوت العذب فيقضي معه ساعة من نهار».
الفن الذي حرم طه حسين نفسه منه
ويتحدث طه حسين عن باريس التي حرم فيها من الفن مستغنيا عنه بالحب فيقول:
«وكان يسمع أنباء المسارح ومعاهد الموسيقي واللهو، وكانت نفسه ربما نازعته إلي بعض هذه المسارح ليسمع هذه القصة أو تلك، ولكنه كان يرد نفسه في يسر إلي القناعة والرضا، وكيف السبيل إلي غير ذلك وهو لا يستطيع أن يذهب وحده إلي حيث يريد، ولا يستطيع أن يدعو غيره إلي مرافقته، ولا يريد أن يكلف غيره من الناس عناء مرافقته من جهة، وتحمل ما تقتضيه هذه المرافقة من النفقات من جهة أخري، ولم تكن ذكري أبي العلاء تفارقه في لحظة من لحظات اليقظة إلا أن يشغل عنها بالاستماع إلي الدرس، أو إلي القراءة».
«كان يذكر دائما قول أبي العلاء في آخر كتاب من كتبه: إنه رجل مستطيع بغيره، وكان يري نفسه مستطيعا بغيره دائما، ويحتمل في سبيل ذلك من غيره هذا الذي يتيح له الاستطاعة ألوانا من المشقة، وفنونا من الأذي بدون أن ينكر منها شيئا، فهو مكره علي احتمالها إكراها، وهو مخير بين أن يقبل ما يكره من غيره من الذين كانوا يعينونه علي ما يريد ، أو يرفضه فيضطر إلي العجز المطلق اضطرارا، ويضيّع حياته في باريس، بل حياته كلها في باريس أو غير باريس».
الفارق بين المحبوبة و السيدة الأجيرة
ويتحدث طه حسين حديثا يبدو وكأنه غير مقصود لذاته عن السيدة التي كانت تصحبه للسوربون مقابل أجر، ويبدو وكأنه يريد ان يبين عن الفارق بينها وبين محبوبته:
«وكيف السبيل له إلي أن يذهب إلي السوربون ليسمع الدروس فيها إذا لم تعنه علي ذلك هذه السيدة التي لم يكن من معونتها بد، والتي كان ترفق به أحيانا وتعنف به أحيانا أخري، وربما صحبته من البيت إلي الجامعة بدون أن تلقي إليه كلمة، أو يسمع لها صوتا، وإنما كانت تعطيه ذراعها وتمضي معه صامتة كأنما تجر متاعا لا ينطق ولا يفكر، حتي إذا بلغت قاعة الدرس أجلسته إلي مائدة من موائدها، وانصرفت عنه إلي خارج القاعة فانتظرت حتي إذا فرغ الأستاذ من درسه أقبلت عليه فأقامته من مجلسه، ومضت به إلي بيته، حتي إذا انتهت به إلي غرفته أدخلته فيها فأغلقت من دونه الباب وهي تقول له في صوت خاطف: إلي اللقاء في ساعة كذا من النهار».
«وربما اعتذرت هذه السيدة في مهمتها بعد أن تجد له سيدة أخري تقوم مقامها، فكانت هذه السيدة الثانية ثرثارة تؤذيه بحديثها المتصل أكثر مما كانت تلك تؤذيه بصمتها الملح».
النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014