الرئيسية / المكتبة الصحفية / كلمة الدكتور محمد الجوادي في استقبال الدكتور علي فهمي خشيم العلامة المبدع

كلمة الدكتور محمد الجوادي في استقبال الدكتور علي فهمي خشيم العلامة المبدع

رئيس مجمع اللغة العربية الليبي عضوا في مجمع الخالدين بالقاهرة

ايها الزميل الكريم

يستقبلك مجمع الخالدين اليوم وقد جئته بخطوات واثقة تكاد تعبر عن نفسها فتقول إن صاحبها أولي الناس بموقع بين الخالدين وقد جاءت خطواتك في حياتك المباركة مواكبة لتطورك العقلي المتفوق في طلعته وتطلعه واستطلاعه، وفي توافقه مع حدود الطبيعة البشرية والقيم الإنسانية.

 ففي العقد الرابع من عمرك حيث تتنامي ملكات العقل إلي أقصي حدودها نراك معنيا بدراسة النزعة العقلية في تفكير المعتزلة ولا تزال تتعمق دراسة أثر العقل في هذا الفكر الإسلامي، وكأنك كنت تريد له أن يسود وأن يقود، ولاتفتأ تتتبع تفكير طائفة المعتزلة حتي تصل معهم إلي نقطة القمة في منحناهم التاريخي حين وصلت قوة تفكيرهم إلي منتهاها وبدأ الانحدار الذي لابد منه في كل قدرة عقلية، وأنت تضع يدك في ذكاء شديد علي ما يجسد هذه النقطة في تفكير أبي علي الجبّائي وابنه أبي هاشم وكأنك تريد أن تنتصر لما انتصر له تيار الوعي في الفكر الإسلامي نفسه علي يد ابن الزوجة الذي هو الأشعري، وأنت لا تخصص له من دراساتك ما خصصته لسابقيه لا لشيء إلا لأنك كنت في فتوتك العقلية معنيا قبل كل شيء بالبحث في الحرية ومداها في التفكير في الدين، ومازلت علي عنايتك حتي أدركت غايتك، وصورت حدود ما يمكن لهذه الحرية العقلية أن تدركه.. وما يمكن للزمن أن يدركه منها.

 

وإذا أنت بعد هذا التبصر الدارس تدعو نفسك في مرحلة تالية من حياتك العقلية إلي دراسة التصوف، فإذا أنت لا تشغل قلمك بفكرة التصوف ولا بآثارها ولا بالطريق إليها ولكنك شأنك شأن الرائد تؤثر أن تُعني بالمذهب والطريقة، وأنت تتأمل في مذهب علم من شيوخ التصوف في المنطقة التي شهدت مولدك ونشأتك، وأنت حين تشرع في هذا التأمل تجد أنه لم يسبقك إلي دراسته كثيرون، وإذا أنت تعكف علي أحمد زروق تستجلي نزعته وتدرس طريقته، وتبين عن مذهبه، وتقدمه لقومك في الصورة التي تراها أقربَ ما تكون إلي ما كان، وإلي ما كان عليه، وإلي ما كان منه، وإلي ما كان به، وإلي ما كان من بعده.

ثم تمضي بك السنوات وتخرج من نطاق عملك في وطنك إلي نطاق عملك لوطنك، حيث تعمل في اليونسكو وتنال فيها أرفع ما يناله ممثلٌ لبلاده حين يصبح نائبا لرئيس مجلسها التنفيذي وأنت تصل إلي هذا مع بداية عقدك الخامس حين تبلغ الأربعين من عمرك المبارك وحين تدرك نعمة الله عليك وتدعوه أن يوزعك أن تشكر نعمته، وهناك في باريس تتفتح مداركك وأنت الوزير السابق علي عالم غربي ثالث غير العالم الذي أقحم ثقافته علي وطنك وغير العالم الذي أتممت فيه دراساتك العليا..

وهكذا تجتمع لك معرفة واسعة بثلاث نهضات أوروبية متباينة الفكر والطباع، فقد نشأت في بلاد عانت من الاستعمار الإيطالي كثيرًا وأفادت منه قليلاً، وأفدت أنت من أكثر هذا القليل… ثم درست في بلاد البريطانيين فأفدت بأقصي ما يمكن للذكي من ارتشاف للرحيق من قوم يعلمون النجباء من غيرهم كيف يحللون، ويضمنون للأسوياء من غيرهم أن يتفوقوا بدم بارد وعقل هادئ فكيف بتفوقك وأنت تشع حرارة العقل وحماسة الوجدان.

وهاأنت في التَجْربة الثالثة تتعرض لمدينة النور وبحور الحور، وإذا حظُك وقدرُك ألا تستنير بباريس وحدها وإنما يقتضيك شبابك الثاني وموقعك السامي أن تستنير بالعالم كله، وقد جاء أقطاب منه إلي باريس ينيرون ويستنيرون .

وهكذا كان قدرك أن تبدأ حياتك بعد الأربعين بسنوات أربع تطل فيها من شرفة غير عالية ولكنها جد فارهة علي ميدان واسع من الفكر الإنساني الطارف والتالد علي حد سواء، ومن حسن حظك أن هذا الميدان لم يقف في اتساعه عند حدود أن يكون مترامي الأطراف كما تعود الواصفون أن يصفوا، ولكنه كان عديم النهايات.. وقليل ما هم مَنْ نالوا حظوتك في اكتمال مثل هذا التكوين العقلي المتميز.

وإذا أنت بعد أن اكتملت لك مفاتيح الفلسفة العقلية والروحية تعود واثقًا إلي ذاتك وذات قومك تستكشف لها آفاقها بين آفاق الآخرين.

وإذا أنت لا تخطئ السبيل.. فنراك تُعني بكتابات المؤرخين والجغرافيين الأغريق وغير الأغريق عن بلادك.

وإذا أنت تنفض عنها غبارًا بعد غبار.

وإذا أنت توثقها وتوثقها وتحقها وتحققها وتدققها وتشرحها وتشرحها، وتعلق عليها وتعلقها بعد ذلك كله في أعناق قومك قلائد..

وما كان أحوج أعناق قومك إلي مثل هذه القلائد القديمة يعيد نحتها فنان في مثل قدرك وقدرتك واقتدارك.

ايها الزميل الكريم

هكذا دلفت من الفلسفة إلي التاريخ ثم ها هو التاريخ يقودك إلي قلب التاريخ فإذا أنت تبحث في التاريخ عن الحضارة.

 وإذا أنت تخرج علينا ذات ربيع بفكرتك أو بنظريتك عن فرعون العربي ثم باكتشافك لعروبة أسماء الأباطرة الرومانيين، ثم باكتشافك للصلات بين العربية وبين اللغات الأخري واحدة بعد الأخري:لاتينية وغير لاتينية .

وإذا أنت من هذا وبهذا وبعد هذا تؤصل لدراسات قيمة وغير مسبوقة تتناول علاقة لغة قومك وتراثها الحضاري بحضارات سابقة عليها .

وإذا أنت تكلف نفسك كل ما تطيق وبعض ما لا تطيق من أجل الانتصار لنظرياتك الرائدة.

ثم إذا أنت تخطو خطوة ثالثة في هذا الطابق الفاره من طوابق إنجازاتك..

فإذا أنت بعد أن وصلت إلي جوهر الحضارة من قلب التاريخ تري عمقا لا يدركه إلا مَنْ وصل إلي القمة التي وصلت إليها وبدأ ينظر من حالق إلي أرض المعرفة وقد انداحت أمامه مبسوطة الحقائق..

وفي هذه المرحلة من حياتك بدأت تعطي للغة العربية بعض ما أفاض الله عليك به وإذا أنت رائد في بث الثقة في نفوسنا حين أتمتت دراستك الرائدة عن تفصح الدارجة الليبية المعاصرة بعدما درست الأمر دراسة متعمقة وانتهيت إلي ما بشرتنا به في مجلة هذا المجمع من هذا التفصح،

وقد قادتك ريادتك إلي إدراك عوامل التطور الإيجابي التي ساعدت علي هذا التفصح، وبلغ بك الإنصاف أن تذكر ما لم يذكره غيرك وما لا يمكن لغيرك أن يذكره من أن لغة أولادك أفصح من لغة مَنْ كانوا في مثل سنهم في جيلك.

ايها الزميل الكريم

لقد كنت مع هذا رائداً ماهراً في دراستك للدخيل في الدارجة الليبية، كما كنت بارعاً في تقسيمه إلي قديم وحديث ، كما كنت للمرة الثالثة بارعاً في استقصاء أمثلةٍ الدخيل القديم من اليونانية ومن اللاتينية ومن العبرية والبربرية والسريانية وأمثلةٍ دخيل الحديث من التركية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية.

كنت رائداً في التفاتك إلي تفاوت نسب نجاح سياسات التعريب تبعا للمجال المهني، فأنت الذي اكتشفت بعد دراسة ومسح أن المصطلحات الرياضية في بلادك قد تعربت تماما وانتقي منها الدخيل علي حين أخفق التعريب إخفاقاً تاما فيما يتعلق بالسيارات وتسميات أجزائها المختلفة.

 

.. وإذا أنت في خطوة تالية تدرك أن للغات شمال إفريقيا حقوقا عليك، وإذا أنت تنتهي بعد دراسات وبحوث إلي قول لم يسبقك إليه كثير ولا قليل ممن هم في مكانتك وعلمك،

وإذا أنت تعلن أن البربرية الأمازيغية ليست إلا صورة متحورة من لغة القرآن الخالدة، وأنت في سبيل إثباتك لنظريتك لا تقف عند حدود الشواهد أو الدلائل أو القرائن أو الاستنتاجات وإنما تخطو خطوة أوسع وأوثق بكثير من هذا كله فتضع معجمًا عربيا بربرىًا مقارنًا ينتصر لفكرتك، وينتصر لعبقريتك، ويخلد في عالم اللغة ذكرك.

وإذا أنت تفعل هذا أيضاً مع قبطيتنا المصرية باقتدار لم يعد غريباً عليك ولا غريبا عنك، وبتوفيق أصبحت تعرف طريقك إليه، ويعرف طريقه إليك.

وإذا أنت تمتد بهذا إلي مصريتنا القديمة بجسارة، وإذا بك، ولك السبق، تجعل من علم اللغة التاريخي ميدان توحيد، وتطور من آليات هذا العلم في سبيلٍ طويل بدأ به مَنْ هم قبلك ولم ينتهوا إلي ما تريد أن تنتهي به إليه، وكأنك تسير مع اللغة في طريق كالذي سار فيه من قبلك صمويل ألكسندر مع الفلسفة، وكأنك تريد أن تنتهي إلي نظرية لوحدة اللغة كما انتهي سلفك إلي نظريته في وحدة المعرفة.

وقد وصلت إلي منتهي الحكمة حين أدركت أن العامل الأهم في توثيق عري الوحدة الوطنية والقومية هو اللسان، وقد جاهرت بهذا في ظل صراع فكري بين دعويين كلاهما تفتقر إلي الصواب الذي لا تفتقر إليه دعواك، ومع هذا فقد كان لكل منهما بريق يفوق رؤاك، الأولي دعوي الأيدلوجية والثانية دعوي البراجماتية، وغفل هؤلاء وأولئك عما وصلت إليه وعما وهبت نفسك له منذ أدركت حقيقته.

وخلاصة قولي فيك يا سيدي أنك رائد في قومك، والرائد لا يكذب أهله، إنما هو يلتمس لهم الطريق ويضيئه ، أنت رائد مستكشف، وأنت رائد مكتشف علي حد سواء، أنت رائد مستكشف جاد ىُجد في بحثه، وأنت أيضًا رائد مكتشف موفق من الطراز الذي يبحث في تراث قومه وآفاق زمنه علي حد سواء عما يراه كفيلا بهداية قومه ورفع شأنهم، وفيك وفي خصالك وفي نشاطك الممتد مثل حي لتفوق الرائد وتواضعه وفضله .. فأنت ترسم لقومك طرقًا شتي لا طريقًا واحدًا وتأخذ بأيديهم إلي مناحي متعددة، وتترك لهم حرية الاختيار.

 وأنت كثيرًا ما تدرك الحق بعد تمحيص، والصواب بعد فحص، والخير بعد تأمل، والجمال بعد دراسة فإذا ما أدركت هذا وذاك فإنك تهدي ما تراه وما تجده إلي قومك سهلا نهلا سخاء رخاء وكأنك اكتشفته لتوك وكأنك لم تبذل فيه فؤادك وعقلك، وأنت تفعل هذا علي مدي عمرك المبارك كله.

ايها الزميل الكريم

تريد مني أدلة علي ريادتك: دعني أقتبس من العالم البريطاني المسلم مارتن لنجز «عبدالكريم نور الدين» صاحب كتاب ما هو التصوف قوله لك إنه كان يحس أن أعلام التصوف الإسلامي ينتهون عند عبد الكريم الجيلي حتي جئت أنت فكشفت عن شخصية صوفية تضارع أبا حامد الغزالي.

وأنت في ريادتك تبذل من أجل فكرتك كل جهدك العقلي والوجداني علي حد سواء، ولا تزال حتي يومنا هذا تثابر من أجل هذه الفكرات التي يكفي بعضها لتحويل النكرات إلي شيوخ ذوي مريدين لكنك لاتتعجل المشيخة ولا الرياسة ولاتسيئس من أن يُضفي عليك المجد اللائق بدورك، ولا تنعي علي الناس تأخر إيمانك بك، أو نفاحهم عن فكرك، وكأنك في كل هذا تستحضر حال شيخك زروق الذي قُدر لك أن تبدأ تصنيفك وتأليفك وترفعك ببحثه ودراسته وكتابة سيرته.. كأنك تتمثله وهو يقول لأحد تلاميذه نحن لاتفوح رائحة مسكنا حتي نتسوس تحت التراب.

أنت الذي ردت قومك إلي القول ببطلان خرافة المجموعات اللغوية المنفصلة أو المفصولة، وإلي التنبيه إلي أن هذا التقسيم لايخرج عن كونه وهما توارتيا محضا لا أساس له من العلم وأنه إذا كان ولابد من أساس للتقسيم فليكن الأساس جغرافيا تاريخيا لا عرقيا سلاليا.

وأنت في ريادتك لاتقف عند حدودي الأرض تذرعها ذهاباً وإياباً، ولا عند حدود السماء تذلل بالطيران فيها عقبة المكان والزمان، ولا عند حدود البحار تحاول كما ذكرت في كتابك “رحلة الكلمات الثانية” أن تنافس بها رحلات السندبات البحري… لكنك في ريادتك غواص متمرن متمرس يجيد البحث عن اللؤلؤ في أعماق الكتابات العربية وغير العربية، المشهورة وغير المشهورة، ولاتكتفي بأن تخرج لنا اللألئ ولكنك ترفق كل لؤلؤة بما تستحقه من تأصيل وتأثيل.

وأنت لا تتوقف عن الريادة، بل إنك بارع أشد ما تكون البراعة في تحويل التكرار إلي ترديد، والتداخل إلي تشابك، والتغيير إلي تجدد، والمقولات إلي مقالات، والمقالات إلي مقولات، والآراء إلي رؤي، والرؤي إلي آراء، والنظرات إلي نظريات، والنظريات إلي نظرات.

وأنت بعد هذا تتصور سلوكك في مجال الفكر شبيهاً بحركة القطارات بإطارها وقضبانها ومحطاتها وما كان أحراك أن تشبه سلوكك بسلوك الساتل الذي يجوب آفاقاً أوسع، ويكشف عن أسرار أدق، ولا يعود من حيث أتي، وإنما يعود إلي حيث بدأ.

هاأنت وقد اكتملت لك مواردك ومشاربك وملكاتك ومهاراتك ومعارفك ومصارفك، وها أنت وقد توحدت النظريات والحقائق في كتاباتك وآثارك الفكرية، وها أنت وإذا غاية بحوثك تنتهي إلي فهم جديد لعلم اللغة التاريخي تجعله أقرب ما يكون إلي علم الدلالة، وكأن الدلالة عندك تاريخ وكأنك التاريخ عندك دالة ودلالة.

ايها الزميل الكريم

هاأنت اليوم تخطو أروع خطواتك وأبدعها من قلب الحضارة إلي صدر اللغة بعد أن خطوت من باطن الفلسفة إلي عقل التاريخ وبعد أن خطوت من ذاكرة التاريخ إلي فؤاد الحضارة، وإذا أنت اليوم وبعد اليوم علمٌ خفاق في أرض اللغة وفي سمائها وفي سماكها كما كنت من قبل علماً في كل ما مارست.

وإذا بمجمعنا هذا بعدما بلغ السبعين من عمره يضمك إليه عضواً عاملاً، وهو يحرص علي أن يضمك إليه قبيل أن تبلغ السبعين من عمرك، ويدعو لك الله أعضاؤه أن تبلغ فيه السبعين والثمانين وما بعد المائة أيضاً.

وإذا بمجمعنا ينتدبني اليوم لاستقبالك، ولم ألقك من قبل وجها لوجه، لكني كنت علي الدوام أجد في سطورك عبارات كأني أنا الذي كتبتها مع بعد الشقة بين ما عالج كلانا.. وإذا كان الأمر كذلك فلتسمح لي أن استعير في ختام تقديمي لك بعضاً من كلمي وبعضا من أسلوبك في التأثيل والتأصيل.

إذا كان لي أن أستعير من كلامي في تقديمك عبارة واحدة فإني أفضل أن أستعير من وصفي لك بالساتل قولي لك إنك تعود لا من حيث أتيت ولكن إلي حيث بدأت، وقد بدأت في مصراتة مسقط رأسك، ومثوي شيخك، ولها بذلت نشاطك، وأعدت بناء ضريح شيخك زروق.. فأنت إذاً مصراتىّ المولد والهوي..

دعني أنطق نسبك علي نحو ما ننطقه في مصر بنوع من التسامح المقلد للتسهيل المباح في الشعر لأقول لك إنك مصراتي ..

ودعني أكمل لك الجملة علي عادة المناطقة لأقول لك :

وكل مصراتي من مصر آتي…

وكل مصراتي إلي مصر آتي…

وهاأنت قد أتيت.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : رؤساء المجامع اللغوية العربية  ،  مكتبة الشروق الدولية  ، القاهرة ، ٢٠١٤]

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com