رئيس مجمع اللغة العربية الجزائري
عضوا في مجمع الخالدين بالقاهرة
اساتذتي الاجلاء
ايها الزميل الكريم
أنت يا سيدي رجل مؤسس منشيء يهديك ربك إلي الفكرة الذكية فتسعي إلي أن توجد لها الكيانَ الذي يحميها وينميها، وتدركُ الهدف النبيل فلا تزال تجتهد حتي تجعلَ له علي أرض الواقع كيانا ينتصر له ويقتصر عليه.
وأنت في كَدْحك تؤمن بأثر الزمن وبتعضيده لك، لكنك تؤمن أن الزمن لن يعمل عمله إلا بعد أن تغرس البذور، ولهذا فإنك لا تلقيها إلا بعد أن تنتقيها، وأنت قد أجدت انتقاء البذور وتوقيت غرسها وأجدت قبل هذا وذاك أمرًا ثالثا لا يقل أهمية عن هذا وذاك حين نلت التوفيق في اختيار أجود الأراضي لبنات فكرك فإذا بكل ما أسست من منظمات ومراكز ومشاريع يرتفع علي أرض خصبة هي أرض العلم في الجامعة،
ولابد لنا من أن نعترف لك بالذكاء حين أعرضت عن المسميات الكبيرة والمؤسسات العملاقة والدعايات الضخمة، وآثرت علي هذا كله أن تكون كل مؤسسة تنشؤها ذات اسم محدد، ووظيفة واضحة، وكيان ملائم للوظيفة وإذا بك تحلق من نجاح إلي آخر بفضل هذا الأسلوب الفذ الذي لا ىُوفق إليه إلا الذين رزقوا أحلام العلماء، ووجدان الصوفية، وأفئدة الرياضيين وحظك من هذي الثلاثة كبير.
ايها الزميل الكريم
قدر لك يا سيدي منذ أربعين عاما أن تمضي في السلم الأكاديمي علي نحو فريد لا يتاح للذين يبتليهم الزمان بأن تكون أستاذيتهم وظيفة يصّعدون فيها من منصب إلي ما يظنونه ويظنه الناس أعلي منه، وإذا القدر يهيئ لك الفرصة النادرة لأن ترتقي في السلم الأكاديمي علي نحو ما ينبغي للعالم أن يرتقي في علمه بدرجات تتري تعلن عن مزيد من التخصص والتبحر وتنبئ عن تنامي القدرة علي النظر إلي العلوم الأخري من نافذة ما تخصص فيه العالم الباحث الأستاذ ..
وهذا هو جوهر ما فعلت طيلة أعوامك الأربعيين الماضية أو هو هو تمامًا بتمام.
فقد كنت منذ أربعين عاما رئيسا لدائرة اللسانيات وقسم اللغة العربية في كلية الآداب في الجامعة الأولي في وطنك،
وبعد عامين توليت عِمادة هذه الكلية،
وبعد ثلاثة أعوام أخري تركت هذه العمادة إلي عمادة معهد العلوم اللسانية والصوتية ،
وقد قضي هذا المعهد المبتكر ثمانية عشر عامًا كاملة في كنفك لا باعتبارك الأستاذ أو العالم أو العميد، وقد كنت كذلك بالفعل، ولكن باعتبارك الوالد الذي يتولي ولده الأثير برعايته المباشرة طيلة هذه الفترة التي تهيئ وتمهد لسن الرشد فإذا هو معني بنموه وارتقائه علي حد سواء.
ايها الزميل الكريم
لقد كان من حسن حظ وطنك أن تهيأ للعلم اللغوي فيه هذا الابن الذي حظي برعاية والده وحدْبه عليه وتفرغه له طيلة هذه السنوات الثمانية عشر، ولا غرو أن يصبح معهدك بعد هذا ، حين يقدر له الله أن يعود إلي سالف مجده وسابق عهده ، من أكثر الكيانات العلمية العربية صحة، وأقواها بنيانا، وأسلسها نفسًا، وأخصبها عطاء، ولم لا وقد تمتع بأبوتك في عقدي الفتوة من حياتك العلمية المباركة..
و ما ان أشرقت سنُك الذهبية وناهزت الستين الا و آثرت أن تبدأ كيانا جديدًا يبدو للبيروقراطيين أقل نفوذاً ولكنه يتلألأ في نظر لعلماء أكثر نفاذاً … وهو يتلألأ لا لشيء إلا لوجودك علي رأسه تبلور فيه خبرتك وتجاريبك،
وإذا أنت تعمل طيلة خمس سنوات مديرًا لوحدة للبحث في علوم وتكنولوجيا اللسان .
ثم إذا بهذا الموقع الرابع يقودك إلي منارة خامسة لا تزال تبذل لها ذؤابة قلبك الفتي منذ اثني عشر عاما فإذا أنت مدير لأول مركز من نوعه في وطننا العربي قصر نفسه بفضلك وفضل علمك علي البحوث العلمية والتكنولوجية المتخصصة في ترقية اللغة العربية.
ايها الزميل الكريم
ها أنت معني من خلال مواقعك هذه بمهام رفيعة القدر عظيمة الفائدة تتجلي فيها مرةً أخري سمات ما وصفناك به أو قل ما أدركناه من شخصك من أنك منشيء مؤسس، ولم لا؟
ألم تتول بتكليف من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم رئاسة اللجنة الدولية لمشروع الرصد اللغوي منذ منتصف السبعينيات وحتي منتصف الثمانينيات.
ثم إذا بك تخرج بالمشروع الأول إلي آفاق أرحب فترأس منذ بداية التسعينيات وحتي الآن مشروعًا أوسع للذخيرة اللغوية العربية بعد ما أتممت بنجاح جهودك في الرصد اللغوي.
وأنت ايها الزميل الكريم في كل هذا لا تكشف لأبناء قومك عن ذخيرتهم اللغوية فحسب، ولكنك تفعل ما هو أعظم من هذا بكثير، أنت تنشيء لعلم اللغة العام في العربية فلسفة وتاريخًا وقليل ما هم مَنْ سبقوك إلي هذا المجد، وقليل ماهم مَنْ أدركوا ما أدركت أنت من حقيقة تفوق اللغويين العرب القدامي في فهم أسرار علم اللغة العام..
ألست أنت الذي سبقت بعد دراسة علمية لم تسُبق إليها إلي القول بأن مفهومي الحرف المتحرك والحرف الساكن اللذين قال بهما اللغويون العرب القدامي أدق وأوعب من المفاهيم اليونانية..
وألست أنت الذي أماط اللثام عن النظرية اللفظية الحراكية العربية من خلال قراءة حديثة لما كتبه الفارابي والرماني وسيبويه.
ثم ألست أنت ايها الزميل الكريم الذي لفت أنظارنا إلي أن أوليات علم اللغة عند العرب قد اعتمدت علي المعرفة المبنية علي المشاهدة والتجربة، وأنها بفضل هذا قد توافقت مع ما توصل إليه البحث لا في الصوتيات الحديثة فحسب، ولكن مع ما توصلت إليه بحوث التكنولوجيا اللغوية.
ألست أنت الذي انتصر لمفهوم الحركة كما قال به الرماني حين لفت النظر إلي دورين للحركة في إحداث للحرف وفي التمكين له من الانتقال من مخرج حرف إلي مخرج حرف آخر.
وألست أنت الذي ألقيت الضوء علي قيمة ما سبق إليه الخليل بن أحمد من أن لكل حرف من حروف اللغة جرسا وصرفًا وأن الجرس هو ما يدرك من الحرف بالسمع وهو ما يخص الصوت في حد ذاته، أو هو هُويته، وأن الصرف هو الحركة وهو ما يخص إحداث الحرف والخروج منه إلي حرف آخر.
ألست أنت الذي أبنت من دراسة هذا كله عن عبقرية التصور العربي للدينامية اللفظية الطبيعية وصورت الأمر بما أسميته «الإدراج» وشبهته لأمثالنا من تلاميذ علوم اللغة بأنه كحركة الصور في الأفلام السينمائية لا انقطاع فيها بين صورة وأخري إطلاقا، ونبهتنا بعد هذا إلي تفوق هذا التصور العربي علي نظيره اليوناني الذي يجعل من الكلام مجرد تعاقب للعناصر الصوتية تقترن ببعضها دون أن يكون هناك إدراج للحركات المحدثة لها، وأنت تدلنا علي ما قال به روسلو وما قالت به معامل الصوتيات من أن التموجات الكلامية متصلة بعضها ببعض في تعاقبها بدون أي انقطاع، وأن هذا التعاقب لا يتمثل علي شكل اقتران أجزاءٍ بأخري بل علي شكل سريان اهتزازي مستمر.
ايها الزميل الكريم
أنت مع هذا كله مثل نادر للقارئ العبقري لتراث أجداده العرب لا في شوفونية الوطنيين ولكن في شفافيه العلماء الذين استنارت بصيرتهم بالعلم وبالتكنولوجيا،
وأنت شأنك في هذا شأن نوابغ علماء اللغة الأفذاذ لا تقف عند النظريات اللغوية وإنما تجيد فهم علوم الفيزيقا والهندسة والتكنولوجيا وتعرف كيف تعول علي التجريب والاختبار والاحصاء. وقد استوعبت ما قال به الخليل وسيبويه، والفارابي وابن سينا، والزجاج والزجاجي، وأبو علي الفارسي وابن جني، والأزهري والمبرد، والأخفش والفراء، وابن سيده، وابن خروف، والرازي والسيوطي، وابن هشام وابن مالك، والسراج وابن كيسان، والسيرافي والسخاوي، والرضي والغزني، وابن يعيش وابن عبدالسلام الفاسي، والزمخشري والزركشي، والسرخسي والجصاص، وأبو حيان، وأبو شامة، والقاضي عبد الجبار ومكي ابن طالب، والقرطبي وابن مجاهد، وابن الجزري وابن خالويه، وأبو جعفر النحاس، وأبو عبيدة، والباقلاني والقسطلاني.
كما استوعبت ما قال به روسلو ودي سوسير، ومارجريت دوراند، وإشتراكا وأركباور، ووارن، واستاتكفيتش، وسبتلني، وبلاردي، وديلانني، ومالبنرج، وبالي، وبلومفيلد، وتشومسكي.
وأنت ايها الزميل الكريم تدرك أوهام بعض العلماء المحدثين فتصححها بضوء ساطع قاطع كأنه الليزر، ومن قبيل هذا تصحيحك لما توهمه بعضهم من أن الحرف عند العرب هو الحرف الصامت فقط، ومن قبيل هذا أيضًا انتباهك لعبقرية أجدادنا في التفريق بين عمليتي الوقف والتسكين فكل موقوف عليه ساكن وليس كل ساكن موقوفا عليه، لأن الوقوف كما يقول يتم بزوال التوتر العضلي وانقطاع العمل التلفظي أما الساكن في الدرج فعلي خلاف ذلك.
وأنت علي سبيل المثال تنبهنا إلي أن القدامي قد عرفوا جيدا دور الحنجرة في إحداث الصوت.
ولا يقف تصويبك عند المحدثين وإنما تتصدي لبعض الفكرات الشائعة في تراثنا فتصوبها، ومن هذا أنك لا تري ما يراه بعض القدماء من أن الروماني هو أول من مزج النحو بالمنطق، وعندك أن أول مَنْ فعل هذا هو السراج وابن كيسان وغيرهما في نهاية القرن الثالث الهجري.
ايها الزميل الكريم
قلتُ إنك سبقت إلي فلسفة علم اللغة عند العرب، وأضيف الآن إلي هذا أنك سبقت أيضًا إلي تاريخ علم اللغة العام عند العرب، ويكفيني للتدليل علي هذا دراستك القيمة عن أصول تصحيح القراءة عند مؤلفي كتب القراءات وعلوم القرآن قبل القرن الرابع الهجري، فقد استقصيت في هذه الدراسة تاريخ أكثر من علم من علوم اللغة، وقد تنبهت إلي أن كل من اشتغل بالنحو في الصدر الأول كان من القراء ابتداء من أبي الأسود وانتهاء بالخليل بن أحمد، كما نبهت إلي أن مؤلفي كتب القراءات كانوا من النحوْيين واللغويين، ثم درست أصول تصحيح القراءة دراسة كرونولوجية عميقة وجميلة لم تسبق إليها، وقارنت بين المناهج المختلفة للعلماء، وبحثت الأسباب التي دفعت إلي تفضيل كل منهم لمنهجه الذي اختطه،
وكان يكفيك كمؤرخ للعلم أن تقف عند هذا الحد، ولكنك لأنك منشيء كما قلنا فانك لم تقف عند الرصد والتحليل والتسبيب ورسم الخريطة الكرونولوجية الجميلة وإذا بك تكشف لنا عن فضل ابن مجاهد في تحول نظرة المتقدمين وإلي معقولية موقف ابن الجزري… وإلي آثار المتكلمين والأصوليين.
وأنت ايها الزميل الكريم في بحث آخر من بحوثك القيمة تنتصر لقدامي النحوْيين العرب حين تقارن بين النحو العربي والبنوية فتنبهنا إلي أن التحليل البنوي هو من قبيل القسمة الأفلاطونية وأهم صفة تتصف بها هذه القسمة أنها اندراج شيء في شيء بينما التحليل العربي هو من قبيل القسمة التركيبية وهي إجراء شيء علي شيء طردًا وعكسًا.
وأنت تبشرنا بأن جوهر القياس النحوي العربي هو هذا الإجراء بينما تفتقد القسمة الأفلاطونية إلي الطرد والانعكاس.
وأنت تؤسس علي هذا دعواك التي من حقك أن تفخر بها من أن القياس العربي أرقي كثيرا لأنه ىُكّون دائما ما يسمي في علوم الرياضيات الحديثة بالمجموعة (في لغتنا نحن القاهريين) وبالزمرة في لغتك ولغة بعض أشقائنا العرب.
وأنت تنتصر للنحو العربي في جانب آخر حين تثبت له أنه عرف مفهوم التحويل الذي وفق تشومسكي في إحيائه وإدخاله في النظرية اللغوية الحديثة، وإن لم يجعله الأساس في كل شيء كما هو عند النحاة العرب الأولين.
وأنت الذي سبقت إلي القول بأن إجراء الشيء علي الشيء هو عين التحويل بما أن المحول والمحول إليه متكافئان فالتحويل مع عكسه من وجهة نظر المنطق الرياضي الحديث تكافؤ غير اندراجي يُحصَل عليه بالقياس.
وأنت من أجل تأسيس المنهجية العلمية العربية في علم اللغة تغوص في أدبيات النحاة حتي تجد أصل النظرية النحوية. وذلك فيما يقول به العرب من أصل وفرع، أصل يبني عليه ولا يبني هو علي غيره، أو ما يفرع عليه الفروع، وبناء علي هذا تقول بإن البناء أو التفريع هو العملية التحويلية.
وأنت تمضي في طريقك هذا حتي تقول إن الأصل هو الشيء الثابت المستمر لأنه يوجد في جميع فروعه مع زيادة ولذلك لا علامة له بالنسبة لفروعه.
وخلاصة قولي فيك أنك فيلسوف لغوي مؤمن مستنير قادر علي استخدام كل أدوات فلسفة العلوم لكنك تعرف حدودها.
ويكفيني دليلا علي هذا قولك في هامش أحد بحوثك إن التحليل التصنيفي شيء معمول به في كل علم وبخاصة في علمي الحيوان والنبات، إلا أن العلماء لا يكتفون به في اكتشاف اسرار الكائنات.
ويكفيني أيضا استنكارك أن تُحصر اللغة في وظيفتها البيانية، انتباهك إلي اعتباطية اللغة، وأنه لولاها ما استطاعت أي لغة أن تعبر عن المسمُيات والمعاني الطارئة، أو عن التصورات التي لم تحدث بعد في أذهان الناس.
لهذا كله، ولغيره مما يقعدني المرض عن الوفاء بحقك فيه، تري نفسك ونراك معك حقيقاً بأن تكون بين الخالدين.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : رؤساء المجامع اللغوية العربية ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]