الرئيسية / المكتبة الصحفية / ضياء الدين داوود الانسان الذي احتفى بالناس

ضياء الدين داوود الانسان الذي احتفى بالناس

الانسان السوي

كان ضياء الدين داود إنسانا سويا بمعني الكلمة الكامل.. بدأ حياته في الريف المصري في عصر كان يشجع العلم ويحتفي بالمتعلمين، فآثر أن يكون من بين الذين يحتفي بهم أهلهم في الريف، لا في العائلة فحسب، وسرعان ما أدرك الحقيقة الكبري التي تغيب عن أمثاله في ظل سعيهم إلي الصعود الاجتماعي، وهي أن واجبه أن يحتفي بالناس لا أن ينتظر احتفاء الناس به.

 وهكذا فإنه سرعان ما ترجم عقيدته إلي قرار بالبقاء بين الجاهير في هذا الريف، مع أن أبسط تقاليد زمنه أن ينتقل إلي عاصمة المحافظة ليعيش في ضوء الكهرباء التي لم تكن قد وصلت الريف بعد، لكنه لم يفعل، وبقي في الريف.

وبعد سنوات أصبح ضياء الدين داود نائب الدائرة، وكان من المنطقي ـ لا الطبيعي فحسب ـ أن ينتقل إلي عاصمة المركز ليقيم فيها، لأنه أصبح ممثل المركز كله، وليس ممثل قريته فحسب، لكنه لم يفعل أيضا، وبقي في الريف علي الرغم من أن عمدة المدينة التي هي عاصمة مركزه كان عمه مباشرة، وكان في المدينة عم آخر علي قيد الحياة، وأولاد عمومة كثيرون، لكن ضياء الدين داود الإنسان السوي آثر أن يبقي مع الجماهير التي دفعت به إلي صدارة المشهد السياسي إقليميا، ولم يكن بقاؤه بقاء ماديا فحسب، لكنه كان بقاءا معنويا بكل ما تعنيه الكلمة من وجود القدوة والسند والونس.. إلخ.

نيله للوزارة

ثم شاءت الأقدار أن ينتقل ضياء الدين داود من محيط دمياط إلي محيط مصر كلها حين أصبح وزيرا للشئون الاجتماعية بعد مظاهرات الطلبة في 1968 لينضم إلي مجموعة من أساتذة الجامعة المحبوبين الذين دفع بهم الشباب إلي مقاعد الوزراء في نهاية عهد الزعيم جمال عبد الناصر، وجاء ضياء الدين داود إلي القاهرة بعقلية الزائر الخفيف الذي لابد أن يعود في نهاية الأسبوع إلي مسقط رأسه حيث أراد أن يبقي وأن يموت وأن يدفن.

كانت القاهرة حافلة بأقاربه من الدرجات القريبة جدا، لكنه كان في القاهرة عابر سبيل يقيم في أحد فنادق وسط المدينة، ويؤدي دوره في البرلمان، ثم في الوزارة ويعود إلي حيث أراد أن يؤدي واجبه الأساسي في قرية عظيمة قدر لها أن تتحول علي يديه إلي مدينة جميلة، وأن يتم هذا التحول في الدور الطبيعي لها بعيدا عن سطوة الذين يريدون من التاريخ أن يعترف بسطوتهم، وبعيدا عن التكلف الذي يهتم بالشكل علي حساب الجوهر.

صعود مستحق

صعد نجم ضياء الدين داود كما لم يصعد نجم آخر في الحياة المصرية في عهد جمال عبد الناصر، والذين يعنون بدراسة آليات الصعود السياسي يجدون في صعود ضياء الدين داود أكبر دليل حاسم علي حيوية نظام جمال عبد الناصر حتي سنواته الأخيرة، وهي الحيوية التي أثبتت وجودها بعد شهور قليلة بتصعيد صنو آخر لضياء الدين داود ليحل محله في وزارة الشئون الاجتماعية عقب انتخاب داود عضوا في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وكان النجم الآخر (أو الصنو الآخر) شبيها في حياته السياسية بضياء الدين داود.

وكأنما أدرك عبد الناصر حجم الصواب في قراره بتولي ضياء الدين داود الوزارة، فأراد أن يكرر التجربة مع برلماني آخر يتمتع بالكفاءة والطموح وثقة أهله في إقليمه، وهكذا جاء حافظ بدوي ليخلف ضياء الدين داود، وليواصل الصعود بعد هذا علي نحو ما واصل ضياء الدين داود من قبله.

في مطبخ السلطة العليا

وجد ضياء الدين داود نفسه في مجلس الوزراء، ثم في اللجنة التنفيذية العليا في مجتمع صغير من كبار المسئولين يحرص بعضهم علي الحديث المثبت لقدراته، ويحرص آخرون علي الحديث المثبت لولائه، ويحرص آخرون علي أن يتصدي لما يبثه حديث الآخرين من تشكيك في كفايته أو قدرته أو إنجازه.

 ولم يكن ضياء الدين داود خبيرا بالحديث في هذه المستويات، لكنه كان يعرف معرفة اليقين أنه جاء إلي هذا المكان بفضل الشعب، وفضل قائد يحب الشعب ويحبه الشعب، ولهذا فإنه آثر الصمت حين لا يكون للكلام مردود علي مصلحة الشعب، وآثر الحديث حين يتجه الحوار إلي مصلحة الجماهير المباشرة، أو حقوقها التي لابد من التفكير في عودتها إليها.

 وهكذا انضم داود إلي لجان مجلس الوزراء الخاصة بالحريات، وبخدمات الجماهير.

يمثل الوزارة في البرلمان

 وهكذا كان من الطبيعي أن يتولي مسئولية تمثيل الوزارة في البرلمان الذي هو عضو فيه، وأن يصبح وزير شئون مجلس الأمة بالإضافة إلي منصبه، وكان أول وزير يتولي هذه المسئولية في عهد الثورة حين أدرك العهد نفسه أنه لابد من الديمقراطية بعد أن تحقق نجاح كبير في التحول الاجتماعي، وبعد أن منيت الثورة بهزيمة فادحة قبل شهور.

 وكان من الطبيعي لهذه الهزيمة أن تؤثر علي خطط التنمية، وعلي تماسك الجبهة الداخلية، لكن حيوية نظام عبد الناصر وقوة إيمانه بأهدافه ساعدت علي تجاوز الأزمة في كثير من جوانبها بفضل إخلاص قادة محليين متنورين فدائيين من وزن وطبقة ضياء الدين داود، ومن الإنصاف أن نشير إلي أن نظام عبد الناصر وضياء الدين داود ومعاونيهما علي المستويين السياسي والتنفيذي قد تمكن بنجاح من استيعاب تهجير مدن إقليم القناة كله، وتوطينهم وإلحاقهم بالمدارس والخدمات، وتوفير الطعام والكساء والتموين والصحة والترفيه لهم جميعا، وذلك علي الرغم من قسوة الأوضاع الاقتصادية والعسكرية بالطبع.

محنته مع السادات

مرّ ضياء الدين داود بعد هذا بمحنة 15 مايو 1971، فأبان موقفه في هذه المحنة عن رهافة حسه، وعن البعد الإنساني في شخصيته، ومع أن ضياء الدين داود كان بحكم ماضيه السياسي أقرب إلي أنور السادات منه إلي المضادين للسادات، فإنه بحس السياسي المنظم وجد أن مكانه الطبيعي أن يكون في المعسكر المناوئ للسادات.

 ولسنا في معرض الحديث عن الصواب والخطأ في رؤية أي سياسي في مثل هذا الصراع السياسي حين نتناول سير الأشخاص، وإنما يتناول التاريخ هذه الجزئيات بالدرس والفحص والتأمل والتقرير، أما الحديث عن الأشخاص في مثل هذا الصراع فإنه يعني في المقام الأول باتساق مواقفهم مع تكوينهم الخلقي والسياسي والاجتماعي، ويعني في المقام الثاني باستقامة سلوكهم مع ما يفرضه معتقدهم السياسي علي مواقفهم.

 ومن هذه الزاوية نستطيع أن نفهم موقف ضياء الدين داود وأن نقدر أبعاده الحقيقية بعيدا عن القول بأن الحق كان هنا أو هناك.

كان متسقا مع تاريخه

ومن الإنصاف أن أقول إني علي الرغم من انحيازي في هذه الحركة إلي الجانب الذي لم يكن ضياء الدين داود أحد أقطابه، فإنني أري في مسلك ضياء الدين داود في مايو 1971 كل ما يتسق مع تاريخه، ومع عقيدته السياسية، ومع توجهاته، دون أن يكون هذا التقدير مدعاة للهجوم علي السادات أو معسكره، ذلك أن الصراع السياسي يتسع لصوابين، بل لأكثر من صواب، ولأكثر من صوابين.

لكن هذا الذي أقوله الآن في برود وبهدوء أعصاب، لم يكن هو الجو الحاكم في الوقت الذي حدث فيه الصراع حول السلطة في 1971، وهكذا قدر لضياء الدين داود صاحب الموقف أن يكتوي بنار هذا الصراع، ومع أن كثيرا من أنداده استطاعوا بدهاء السياسيين المحترفين أن يتجنبوا الآثار الجانبية للمعركة، وأن ينجوا بأنفسهم، كذلك فإن كثيرا من أنداده السياسيين لعبوا علي الحبلين حتي حسمت المعركة فصوروا أنفسهم أبطالا في الجانب الرابح.

كان رجل موقف صريحا

أما ضياء الدين داود فقد كان رجل موقف، وكان صريحا في موقفه، وكان حريصا علي أن يكون موقفه معلنا، وأن يتحمل تبعاته، ومع أن تجربة السجن وفقدان الحرية كانت جديدة عليه، وكانت قاسية عليه، فإنه وجد فيها التطهر الذي لابد للسياسي منه، ووجد فيها الصهر الذي لابد للزعيم منه، وقد اجتاز هذه التجربة كما يجتاز الإنسان السوي محنة المرض، ومحنة الألم، وخرج من هذه التجربة وقد ارتقت إنسانيته التي كانت راقية من قبل.

العودة للأضواء

وجد ضياء الدين داود نفسه في مطلع الثمانينيات يواجه مجتمعا لا يكاد ينتبه إلي مجموعة من القيم الكفيلة له بمواجهة الزمن الجديد، كان يدرك أن مصر قد تخلصت من الحروب وقسوتها، لكنها علي المستوي الرسمي بدأت تشغل نفسها عن قضية العدالة الاجتماعية، وبدأت تشغل نفسها في قضية التنمية البشرية علي المستوي القاعدي.

 وجد ضياء الدين داود نفسه مسئولا عن أن يذكر الجماهير بالموقف الأمثل من هاتين القضيتين متمثلا التجربة الناصرية في جانبها المضيء، ولم يكن في وسع ضياء الدين داود أن يفرض الناصرية علي رئيس الدولة، أو علي رئيس الوزراء، أو حتي علي وزيرة الشئون، لكنه كان يعرف أن من واجبه أن يعيد تذكير الجماهير والمجتمع والدولة والمفكرين (علي حد سواء) بقيمة جميلة، بل بقيم جميلة تمثلها التجربة الناصرية، ومع أنه كان من الصعب علي كل هذه الطوائف أن تنتبه إلي ما انتبه إليه ضياء الدين داود، فإن جماهير المصريين كانت تدرك أن وجود ضياء الدين داود يمثل في حد ذاته تذكيرا بكل ما في الناصرية من ضياء حقيقي وقابل للاستهداء، وبخاصة بعد ثورة مصر الأخيرة التي أعادت التوكيد علي الحريات في كل مستوياتها.

القيمة في استشراف تجربته

وإذا كانت الفترات الماضية قد نظرت إلي الناصرية علي أنها جزء من الماضي فحسب، فإن الفترة القادمة ستكسب الكثير إذا ما استلهمت من الناصرية قدرتها علي التحدي والاستجابة، وعندئذ سوف يدرك السياسون ما أدركه المؤرخون من حقيقة الدور العظيم الذي لعبه ضياء الدين داود قبل غيره في استبقاء شعلة الناصرية مضيئة بنبل ووفاء.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي :  وشائج الفكر و السلطة  ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com