الرئيسية / المكتبة الصحفية / برلمان مبارك بين رئيسين

برلمان مبارك بين رئيسين

دار الحوار بيني وبين أستاذي ذات يوم حول الفارق بين شخصيتي اثنين متعاقبين من رؤساء البرلمان المصري، وكان أستاذي يعتقد أن أولهما أقدر من خلفه، علي حين كنت أعتقد أن الخلف أقدر وأفضل من سلفه بكثير.

قال أستاذي: إنك تحس من كلام الأول بهيكل عظمي لحديثه أو دفاعه.

قلت: ولكنك إذا تأملت كلام الثاني بعمق لوجدت له هيكلا عقليا واضحا، ولكنه بارع في إخفائه.

قال: حتي هذه الخاصة لو وافقتك عليها فإنها تجعل كفة الأول أكثر رجحانا.

قلت: إن الأولي في كلام السياسيين ألا يدرك مستمعوهم الهيكل من مجرد حديثهم.

قال: ولكن هذا ربما أضر بالتوجهات.

قلت: لايضر التوجهات إلا الخطوط العريضة.

قال أستاذي : وكيف يسير الناس إذا لم يدركوا خطوطا عريضة يسيرون فيها؟

قلت: وهل في المجال الجوي خطوط أم لا؟

قال: بل فيه بالطبع.

قلت: إني أفضل أن تكون الخطوط العريضة في حديث السياسة كتلك التي في المجال الجوي مرسومة لكنها غير معلنة علي نحو قاطع وصارم ومخيف يجعل الناس يخشون السير والمبادرة.

قال: ربما وافقتك في هذه الجزئية… ولكن الأول يعطي لحديثه طابعا أقرب إلي أن يكون مهابة.

قلت: بل يعطيه نفورا.

قال: ولكنه يدفع الناس إلي التصفيق لكل جملة يقولها في حماسة.

قلت: ويقف الأمر عند هذا الحد، فإذا جاء التصويت صوتوا في الاتجاه الآخر.

قال: أو يدرك الثاني هذا المعني؟

قلت: يدركه لكنه لايزال حريصا علي أن يتظاهر بأنه لايدركه.

قال: ولماذا؟

قلت: هذا شأن السياسيين في البلاد النامية لايعمرون إلا إذا تظاهروا بأنهم لا يفهمون في السياسة.

قال: أهذا منطق نجاح؟

قلت: بل هو منطق استمرار.

قال: وما الفائدة؟

قلت: ألست أنت الذي علمتني أنه لا ينجح إلا النجاح؟

قال: بلي، ولكن ما العلاقة ؟

قلت: غاية ما يقصد السياسي في مثل هذا الموقع أن يستمر أكثر من غيره.

قال أستاذي : ولكن هناك طريقا آخر للنجاح.

قلت: تقصد تحقيق الذات.

قال: بل أقصد إثبات البصمة وكفي.

قلت: وهم يعرفون هذا ولهذا فإنهم لا يطلبون الاستمرار إلا كي يطيلوا الفرصة التي يثبتون فيها بصمتهم.

قال: أفكان الأول واعيا لمثل هذا الذي تتحدث عنه؟

قلت: كان سيد الواعين ولكن تصلب أفكاره لم يمكنه مما تمكن منه الثاني بفضل مرونة أفكاره.

قال: أفتظن لتخصصهما العلمي شأن في هذا؟

قلت: لو كان الأمر كذلك لكان العكس هو الصحيح فتخصص الأول في الاقتصاد بما فيه من دينامية، وتخصص الثاني في القانون الجنائي، وثوابته أكثر من متغيراته.

قال: فما تظن السبب في هذا الفارق الواضح؟

قلت: في الهواية.

قال: وكيف كان كذلك؟

قلت: كان الأول يهوي الخطابة، وكان الثاني، ولايزال، يهوي التمثيل.

قال: أفأدركت هذا من معرفة تاريخهما قبل أن تحكم علي طبعهما أم توقعته من دراستك لسلوكهما؟

وأردف أستاذي بحب شديد يقول: أم أنك وهذا هو الغالب حدسته من تصرفاتهما ثم تأكدت منه بدراسة حياتهما.

قلت: ربما لم أدرس هذا التاريخ بعد.

قال: وربما أنك لست بحاجة إلي دراسته.

قلت: لماذا؟

قال: لأن الهوايتين اللتين أشرت إليها ظاهرتان علي الرجلين بدرجة واضحة لا تحتاج إلي تأكيد، ولكن قل لي هل وصلنا إلي عصر التمثيل؟

قلت: لا تنس أن الثاني يحب الخطابة هو الآخر حبا جما ولكنه إذا خطب تمثل شخصية سياسية مشهورة وأدي خطابه علي نحو ما كان صاحبها يؤدي فكأنه يمثل.. بل كأنه يؤدي دوراً بطريقة كلاسيكية.

قال: أفمتأكد أنت من هذا؟

قلت: تأكدي من اسمي ونفسي.

قال: كنت أحس بشيء من هذا ولكني لم أجزم به لأني لم أكن أعرف ذلك الذي يقلده ولو عرفته لأدركت الحقيقة.

قلت: ولكني عرفته.

قال: أحقا يظهر هذا القدر من التشابه في طريقة التمثيل بين الرجلين؟

قلت: إن الثاني لايزال يقنعنا بأنه قادر علي أداء ما كان سلفه القديم يؤديه.

قال: وما سعادته بهذا؟

قلت: إنما هو نموذج يؤديه ويوفر عليه رسم ملامح جديدة.

قال: ولكن رسم الملامح الجديدة يحسب له.

قلت: ويحسب عليه.

قال: كيف يحسب عليه؟

قلت: يطالبه بعض الناس بالتزام الملامح فيصبح أسيرا.

قال: وهل يكون الحل باللجوء إلي تقمص أداء شخصية قديمة؟

قلت: إن التقمص يعفينا من الالتزام، كما أن التمثيل يعفينا من الحقيقة.

قال: ولكننا نحتاج إلي كل من الالتزام والحقيقة أشد مايكون الاحتياج.

قلت: والسياسي الناجح يأخذ من الالتزام والحقيقة أضعاف مايعطي منها.

 

قال: تقصد أنه يوظفهما من أجل أهدافه ولا يوظف أداءه من أجلهما؟

قلت: هذا هو بعض مايفعل.

قال: أو بقي شيء؟

قلت: بقيت الحقيقة.

قال: فماذا يفعل في بقية وقته؟

قلت: يتظاهر بالبحث عنها.

قال: أيجد من المبررات مايضيع به الوقت في مثل هذا البحث المتواصل؟

قلت: إنه يخفيها ليظهرها، ثم يخفيها ليظهرها، ثم يظهرها ليخفيها وهكذا.

قال: وما جدوي هذا كله؟

قلت: تشتيت الانتباه.

قال: أو هذا هدف؟

قلت: هو أهم أهداف السياسيين.

قال: عن وعي؟

قلت: بل عن فطرة.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي :  وشائج الفكر و السلطة  ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com