فقدت مصر بوفاة الأستاذ محمد عودة.. مفكراً وطنياً من طراز رفيع، جمع بين الاستبصار والاستظهار، وظل يؤدي دوره التنويري والتثقيفي عقوداً متصلة في حنو بالغ علي تابعيه ومريديه، وفي لفظ عفيف، وظل هادئ.
وقد مارس الحياة السياسية عن حب للوطن، وشغف بالحقيقة، وظل حب الوطن والشغف بالحقيقة رائدين له في كل ما كتب وصنف، وفي كل ما تحدث به، وعلق علي الأحداث التي عاشها وسلم بالقدر فيها علي نحو ما سلم بحتمية الصراع، وبحتمية نتائجه.
كان رحمه الله رجلاً نبيلاً أوتي العزة والكرامة، كما أوتي العطف والتواضع، وكان مثقفاً أصيلاً تمثلت في إنتاجه أرقي وأصفي وأنقي تجارب بني وطنه.
وقد عاش من أجل وطنه، كما عاش من أجل ثقافته، وأثر في عديدين من الذين سعدوا بمعرفته، وإن أدركوا أنه من الصعب أن يكونوا علي مثاله في تجرده وحدبه وتعففه.
ولست أبالغ إذا قلت إن العقدين الأخيرين من الزمان لم يستبقيا من المفكرين الوطنيين المعلمين غيره، وإن كان هو نفسه حريصاً علي أن يصور علاقته بمريديه علي أنها صداقة الأنداد.
عاش محمد عودة أحداث وطنه من برجه التخيلي الجميل الذي نجح في حمايته من ديموجاجية المعارك، ومن براجماتية الأهداف، كما تمكن من حماية برجه أيضاً من حجاب المعاصرة، ومن قوالب الأيديولوجية.
وهكذا نجح هذا الرجل العظيم في أن تكون أحكامه أقرب إلي الموضوعية في عصر يعادي الموضوعية.
و نجح هذا الرجل العظيم في في أن تكون نبوءاته أقرب إلي المعقولية في عصر كان يؤثر العبث.
و نجح هذا الرجل العظيم في في أن تكون تفسيراته أقرب إلي العقلانية في عصر ثالث كان يؤثر تغييب العقل.
وليس من شك أن محمد عودة قد عاني في أجواء هذه العصور الثلاثة، وفي أنه أجاد التعبير عن هذه المعاناة، لكنه في الوقت نفسه حافظ لنفسه علي الاحترام العميق عند نفسه، وعند مَنْ عرفوه، وعند قرائه، وعند متابعيه.
ولسوف تظل أفكار محمد عودة بمثابة منار هادئ لكل الذين يتأملون تاريخنا الوطني الحديث والمعاصر، ولكل الذين يبحثون عن دور الفكر فيها، ولكل الذين يؤمنون بأن الحياة السياسية مرآة صادقة لتطور ثقافي واجتماعي أعمق يتطلب عقليات نافذة لفهمه، ولتأصيل التعبير عن حقائقه.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]