الرئيسية / المكتبة الصحفية / المستشار عبد الحميد يونس القاضي المبدع و الانسان الممتع

المستشار عبد الحميد يونس القاضي المبدع و الانسان الممتع

(1)

كان المستشار عبد الحميد يونس نموذجًا لجيل من المثقفين المصريين الذين نشأوا في أوج عصر الليبرالية، وعاشوا صباهم وشبابهم كله في ذلك العصر واستمتعوا بكل ما كان في ذلك العصر من حرية الفكر وازدهار الإبداع ونهضة الفنون وتألق الصحافة وارتفاع قيمة المواطن، كان والده من رجال التربية والتعليم الذين وجهوا اهتمامهم إلي  النهوض بالعملية التعليمية من خلال تجويد أدائهم لوظيفتهم كمدرسين متميزين، وقد أثاب الله هؤلاء وعوضهم خيرًا في أبنائهم فكان من إخوة عبدالحميد يونس الأشقاء: القانوني والطبيب وأكثر من مهندس بارز في شتي الميادين..

ولم يكن هؤلاء الأشقاء مهنيين ناجحين  أو طلاب علم متفوقين فحسب ولكنهم شأنهم في هذا شأن أبناء المجتمع المصري  في ذلك الوقت كانوا يمارسون السياسة ممارسة وطنية متعقلة أو متحمسة فكان منهم علي ما روي هو نفسه وعلي ما روي شقيقه المهندس محمد حلمي السعيد الذي أصبح وزيرًا في عهد الثورة، من انتمي لمصر الفتاة، ومن ناصر الإخوان،ومن شارك الأغلبية الشعبية اقتناعها بالوفد المصري الذي قاد الحركة الوطنية..

ومع كل هذه الاتجاهات كان بين هؤلاء الأشقاء من آثر عدم الاشتغال بالسياسة أو الانتماء السياسي،وبالطبع فقد كان حظ اللامنتمي في العهد اللاحق وهو عهد الثورة أفضل من حظ كل منتمٍ.

(2)

لم تتوقف الحرية المتاحة لعبد الحميد يونس عند حدود السياسة وإنما تعدتها إلي الممارسة الوظيفية فقد وجد نفسه قادرًا علي أن يبدأ العمل في المحاماة واختار أن يبدأ العمل في مكتب أحد الزعماء السياسيين الذين أحب توجهه ومشي وراءه فيه، وهو الأستاذ أحمد حسين، وقد مارس المحاماة بالفعل في القاهرة والأقاليم.

 وفي الوقت ذاته اجتذبته الصحـافة وأتـاح له مصطـفي أمين أستاذ الصحـافة ورائـدها فرصـة ذهبية لم تكن لتتاح له في أي عصر تالٍ، وهكذا أصبح عبد الحمـيد يونس قادرًا علي أن يؤدي عملـين لايبتعـدان عن بعضهما لا في الجذور ولا في الثمار، وإن بدا للبعض أنهما عملان مختلفان، وما هما في رأيي وفي ممـارسة عبد الحميد يونس نفسه إلا وجهان لعملة واحدة فالصحفي هو محامي الأمة من حيث هي كائن واحد، وجسـد واحد، والمحامي هو صحفي الرأي في حالة خاصة أو فردية يجلوه ويكتبه وينشره، وينتصر له، ويترافع من أجله …

وكأنه يحول العام إلي خاص، كما يحول الصحفي الخاص إلي عام.

3

وواقع الأمر أن عبد الحميد يونس أدي وظيفتيه هاتين في المحاماة والصحافة باقتدار وتميز علي مدي ثمانية أعوام (1945 ـ 1953) وكل الذين عاشوا هذه الفترة يذكرون جهده واجتهاده في كتاباتهم بكل خير ومنهم علي سبيل المثال الأستاذ أنيس منصور ،والأستاذ صلاح منتصر، والأستاذ ناصر الدين النشاشيبي.

بيد أن عبد الحميد يونس كان بفضل درجة من درجات ادراكات الحاسة السادسة قادرًا علي أن يدرك أن العصر القادم بعد قيام الثورة لن يكون عصر الصحافة ولا عصر المحاماة، ومن العجيب أنه رغم نجاحه في هذين المجالين قد آثر مبكرًا وقبل غيره أن ينخرط في سلك إحدي الهيئات القضائية ومنها إلي هيئة قضائية أخري، فقد بدأ في النيابة الإدارية، وسرعان ما انتقل إلي هيئة قضايا الحكومة، وقد وصل فيها إلي درجة المستشار عام 1973 ثم نال درجة نائب رئيس الهيئة.

 وقد سألته لماذا آثر البقاء في هذه الهيئة علي سلك القضاء مع أنه كان في وسعه أن ينتقل إليه، ولم يكن هذا بالصعب عليه في الظروف المواتية  التي أتيحت له في عهد الثورة، وفي بساطة شديدة أجابني بأن عمله في هذه الهيئة كان يتيح له أن يبقي في القاهرة علي حين أنه لم يكن يضمن أين تذهب به تنقلات القضاء..

وهكذا كان الرجل صادقا في تعبيره عن النزعة الإنسانية المتحضرة التي لا تطيق البعد عن عاصمة الحضارة والثقافة والنفوذ أيضًا.

وبعد أن بلغ المستشار عبد الحميد يونس ما بلغ في القضاء وأدركه سن التقاعد سعي إليه صديقه الحميم موسي صبري واصطفاه مستشارا قانونيا لمؤسسة أخبار اليوم التي شهدت أحلي أيام شبابه، ومن حسن حظه أنها شهدت أيضا أحلي أيام شيخوخته، وكان مواظبًا علي الحضور إلي تلك المؤسسة كل يوم يلتقي بهذا وذاك، ويحل مشكلات بعض أهل قريته أو القري المجاورة، ويتأمل في الأحداث الجارية، ويستعيد الذكريات، ويجيد كتابة لقطات صحفية متميزة في مجلة «آخر ساعة» ثم في مجلة أكتوبر وكان متفوقًا فيها.

وحين أتيح له أن ينشر أول كتاب من تأليفه وهو في حدود السبعين من عمره اختار أن يصور أمر سعادته بأن يكون مؤلفا علي نحو ما صور نجيب الهلالي سعادة الوزراء حين يستوزرون من أنهم يفقدون نصف عقلهم حين يصبحون وزراء.

ومن الطريف أنه لم يجد أبلغ من هذا الوصف ليصور به فرحته بصدور كتابه، ثم توالت كتبه القليلة تقدم الإمتاع وتوثق بعض الوقائع، وكان من أشد مَنْ عرفت سعة صدر بالنقد أو تصحيح ما وقع فيه من خطأ أو لبس. وذلك من دون أن يغير من انتماءاته السياسية وانحيازاته الواضحة التي لم يكن ينكرها.

وإني لأذكر بالفخر أنه تكرم علىَّ ومنحني شرف مشاركته  في كتابة مقدمة واحد من هذه الكتب.

 

وقد عرف القراء عن المستشار عبد الحميد يونس انحيازه التام إلي المجموعة التي آثرت لنفسها أن تكون بمثابة رموز للعهد الناصري ،وقد فسر القراء ذلك تفسيرًا طبيعيا أو منطقىًا لأنه كان انحيازًا صادرًا عن روابط صداقة  ونسب وقرابة مع بعض مَنْ حوكموا في 15 مايو، لكني أشهد أنه كان مع ذلك قادرًا علي الانحياز إلي الحق والوطنية الحقة مهما كانت الرياح تجري بالباطل في اتجاهات أخري.

 وعلي سبيل المثال فإنه دافع في أحد مقالاته عن وطنية السادات دفاعًا قوىًا لم يكن غيره ليستطيعه.

وخلاصة ما أقوله فيه اليوم وأنا أرثيه أنه كان ذاكرة حية، وعقلية ناقدة، ونفسًا مشفقة، وروحًا حانية، وعطاء فياضًا، وأبوة غامرة، وصداقة متصلة، ووطنية متقدة، ورؤية متقدمة.

رحمه الله رحمة واسعة وغفر له ولنا، وعوضنا عنه، وألهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي :  وشائج الفكر و السلطة  ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com