لم يصل أحد من معاصري عبد الصبور شاهين إلي التأثير الضخم الذي ارتبط بهذا الاسم الكبير علي مدي نصف قرن تقريبا، وعلي الرغم من أن عبد الصبور شاهين لم يصل إلي أن يكون شيخ طريقة، أو زعيم حزب، أو مدير جامعة، أو عميد كلية، فإن أثره في جيله، وفي مجتمعه قد فاق تأثير هؤلاء جميعا، وقد كان له زملاء وصلوا إلي هذه المواقع الأربعة، لكنهم لم يتركوا الأثر الذي تركه عبد الصبور شاهين في الأحداث التي قدر له أن يشترك في صياغتها، أو في تعديل مسارها علي نحو أو آخر.
ترشيحه للوزارة
بالإضافة إلي هذا فإن عبد الصبور شاهين كان مرشحا للوزارة في آخر مرة رشح فيها وزراء جدد من بين نجوم الحياة العامة، وأزعم أن اعتذاره الخاطف عن مشاورات الوزارة حتي لو لم يكن هو نفسه الذي أبداه أو أبلغه، كان من الأسباب العميقة التي دفعت القيادة السياسية إلي تقليل معدلات التغيير، وإلي الإبقاء علي الوزراء في مقاعدهم لفترات طويلة، ذلك أن ما وصل إلي القيادة السياسية عن اعتذار عبد الصبور شاهين جاء مصحوبا بما وصل من اعتذار أكثر من شخصية عامة أخري، ثم تكرس الموقف الدرامي بعامود صحفي كتبه عميد الصحافة العربية في ذلك الوقت الأستاذ مصطفي أمين ناصحا بالبعد عن المنصب الوزاري، مستخدما لفظا قاسيا في وصف هذا المنصب، وهو ما حدا برئيس الجمهورية نفسه أن يعلق عليه مستهجنا صدور مثل هذا اللفظ عن رجل في سن والده.. علي حد تعبير الرئيس في ذلك الوقت.
ومن الطريف أن عبد الصبور شاهين، الذي كان وقتها عضوا في مجلس الشوري باختيار الرئيس نفسه، سرعان ما اندفع إلي معركة عابرة مع بعض أجهزة الحكومة دون أن يدري هو نفسه، ودون أن تدري الحكومة أن هذه المعركة ستتحول إلي أخطر معركة اقتصادية داخلية خاضتها حكومات عهد الثورة، وكانت هذه المعركة هي معركة شركات توظيف الأموال التي فاقت في تأثيراتها معارك التأميم، والتمصير، والإصلاح الزراعي، وتحولت لتؤثر في الطبقة الوسطي الدنيا بدلا من أن تؤثر في طبقات عليا.
قوة التأثير
ومن المدهش أن عبد الصبور شاهين حين قاد المواجهة مع الاقتصاديين في التجمع الكبير الذي خطب فيه ببلاغته، وقوة تأثيره قد دفع الحكومة إلي أن تسارع بخطواتها إلي حد التعسف مع أبناء الشعب، ثم إلي حد التعنت أيضا متخذة سياسات أدت إلي خراب بيوت كثيرة، وقد كان في وسع الحكومة لو عالجت الأمور أن تنقذها، لكن الحكومة وجدت نفسها في مواجهة عبد الصبور شاهين هو الرجل الأقوي من الإقطاع، ومن الرجعية، ومن الشيوعية(!!)
وهكذا حسمت المعركة مبكرا حتي لا يأكلها منطق عبد الصبور شاهين، ولا قدرته علي الإقناع، والزعامة.
ومن الطريف أيضا في هذه الدراما أن الأحداث تسارعت إلي الحد الذي لم يعد أحد يذكر معه بداية المعركة، ولا الدوافع وراء حسمها علي نحو ما حدث، ومن الطريف أخيرا أن دور عبد الصبور شاهين أصبح ينسب إلي الشيخ الشعراوي من باب التغليب، كما يقول علماء اللغة العربية، الذين كان عبد الصبور شاهين نفسه واحدا منهم، وكذلك كان الشيخ الشعراوي، لكن كلا الرجلين عرفا في الأوساط الجماهيرية بصورة أخري هي صورة علماء الشريعة.
اللمعان المبكر والمجد المستحق
بدأ عبد الصبور شاهين حياته العامة منذ كان طالبا، وقد عاني من انتمائه السياسي للإخوان المسلمين، ودفع ثمن هذا الانتماء من سنوات عمره حين ضاع منه عام دراسي وهو بعيد عن موقعه في الدراسة، لكنه تخرج بتفوق، ثم قدر له أن ينشق بصورة أو بأخري عن الإخوان المسلمين، وهكذا كان من أصحاب الحظ الحرج الذين يحسبون علي الإخوان!! ولا يحسبهم الإخوان منهم!!
وحين أراد عبد الصبور شاهين، وهو الخريج المتفوق، أن يختار قسم الشريعة الإسلامية ليكون معيدا فيه، قيل له إنه ليس مسموحا له بهذا بسبب ماضيه السياسي، وأن المسموح له به هو أن يكون معيدا في قسم علم اللغة، حينئذ قال عبد الصبور: إنه سيقبل هذا الاختيار الإجباري، لكنه سيحول علم اللغة إلي علم من علوم الشريعة ومن الطريف أن رسالة عبد الصبور شاهين كانت عن القراءات الشاذة في القرآن الكريم.
الخطيب الذي لا يشق له غبار
وفي فترة تأهله العلمي في الدراسات العليا لمع اسم عبد الصبور شاهين القادر علي الخطابة في المسجد، وعلي الكتابة في الصحافة (بما فيها اليسارية)، وعلي الإسهام النشيط في الحياة السياسية المحدودة في ذلك العصر، لكن تفوقه الساحق ظهر حين تقدم في تعلم اللغة الفرنسية، وحين اتصل بعلماء السربون، والأساتذة الفرنسيين، وحين وضع رسالة عظيمة في مجال تخصصه بإشراف هؤلاء عن بعد.. وعن قرب.
لكن الزمان كان يعطي عبد الصبور مجدا لم يصل إليه أحد من معاصريه في ذلك الوقت، فقد كان هذا الشاب المتفتح أول مَنْ أدرك أن فرصة الإسلام السياسي في الظهور علي سطح المجتمع الأوروبي قد حانت، حتي وإن لم يلحظها أحد، وواكب هذا أن قدم عبد الصبور شاهين للفكر الإسلامي، وللمكتبة العربية أفضل عمل فكري ظهر في تلك الفترة، وهو كتاب «الظاهرة القرآنية» الذي وضعه الفيلسوف الجزائري المسلم المهندس مالك بن نبي، صاحب نظرية شروط النهضة وما شاكلها ، وقد ترجم عبد الصبور شاهين هذا الكتاب الذي كتبه صاحبه بالفرنسية في لغة عربية كفيلة بالارتفاع بما كان فيه من فكر عال، وإلي حد أن أصبح عبد الصبور في ذهني وفي ذهن المنصفين شريكا لمالك بن نبي في هذا العمل العظيم.
دوره في تأهيل اليساريين
وفي هذه الفترة أتيح لعبد الصبور شاهين أن يلعب دوره في التأثير المباشر علي بعض اليساريين للتحول إلي النظرية الإسلامية بديلا عن الماركسية، وهو الاتجاه الذي عبرت عنه اتجاهات متعددة من المزج، أو الإحلال، أو التبديل، أو التحول، لكن أبرز نجوم التحول كان هو المفكر المصري مصطفي محمود، الذي كان صديقا حميما لعبد الصبور شاهين، كما ربطتهما علاقات نسب في مرحلة شبابهما.
وتمضي سنوات أخري ليقدم عبد الصبور شاهين إلي القارئ العربي قنبلة جديدة كانت بمثابة الراية الخفاقة في بدايات الحركة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي، وهي ترجمة كتاب «الإسلام يتحدي» لوحيد الدين خان، ومع أن هذا الكتاب لم يكن مثل «معالم علي الطريق» مثلا بمثابة مانفستو الحركة الجديدة، فإنه بعنوانه العبقري، وبأرقامه الدالة، وبمقارناته الذكية كان مصباحا قويا غير قابل للإطفاء، ومرة ثانية كان دور عبد الصبور شاهين ذكيا، ودالا، ومؤثرا.
أستاذية علم اللغة في مصر
مارس عبد الصبور شاهين أستاذية علم اللغة في مصر، وفي الكويت، وانشغل بما ينشغل به الأساتذة الأكاديميون من دراسات للطلبة، ودراسات عليا، ولجان علمية، وتقديم الخبرات، وتقييم الأساتذة التالين له، والتأليف، والتحقيق، والشرح.. إلخ، وأخذ هذا كله من وقت رجل كان في نظر كثيرين أولي بأن يتفرغ للفكر المحض، لكن الأستاذية كانت، ولاتزال، ساحرة، وقادرة علي الاستحواذ، والاستئناس، وعلي إقناع أصحابها جميعا بأنها أولي بهم من كل ما غيرها، ومن غيرها كذلك.
وهكذا ظل عبد الصبور شاهين يمارس الأستاذية طيلة حياته وطيلة سيره دون مبالغة، وإني لأذكر أنني كنت ألقاه صدفة فيدعوني إلي ما هو فيه من نشاط علمي إذا كان وقتي يسمح، أو بقدر ما يسمح وقتي، أذكر أني قابلته في شارع قصر العيني فقال إنه متوجه لمراجعة البروفة الأخيرة في المطبعة العالمية قرب ضريح سعد، فذهبت معه أصححها، وأذكر أني قابلته (1978) وهو متوجه إلي ركوب سيارته، فدعاني إلي مناقشة رسالة دكتوره لأحد تلاميذه، فسألته عمن يشاركه المناقشة، فأجابني: صديقك رمضان عبد التواب، وأستاذ آخر ستصادقه هو حسن عون، ومن الطريف أن صاحب الرسالة التي حضرت النصف الأول من مناقشتها، حسبما كان متاحا لي من وقت ليلتها، كان هو الصديق الدكتور محمد حسن عبدالعزيز، الذي انتخب عضوا في مجمع اللغة العربية في اليوم الذي انتخبت فيه أنا أيضا.
المعركة الأكثر شهرة في حياته الأخيرة
ثم جاءت المعركة الأكثر شهرة في حياة عبد الصبور شاهين، وهي معركة نصر حامد أبوزيد، ولست أدري إن كان الأوان قد آن للاعتراف بأن هذه المعركة كانت معركة مصطنعة تماما، وأن نصر حامد أبوزيد نفسه استخدم فيها ليكون درعا بشرية يصعد عليه غيره إلي المناصب العليا، وإلي صدارة الحياة الثقافية، وربما لا يصدق أحد حقيقة ما حدث في بداية هذه المعركة الصناعية، أو في هذه المسرحية التي كانت مرحلة متوسطة ما بين المسرحيات الارتجالية، والمسرحيات عديمة النص.
وقد رويت حقائق هذه المعركة كلها في مقال مطول نشرته جريدة «الأهرام»، و أعدت نشره في كتابي «مستقبل الجامعة المصرية»، لكني أكتفي هنا بأن أروي أن الدكتور عبد الصبور شاهين حين بدأ في فحص أول أعمال نصر حامد أبوزيد لتقييمها ظن أن الأبحاث جاءته علي سبيل الخطأ، وأنها أبحاث أستاذ متقدم للترقية في قسم الفلسفة، فأخذ يبحث في الأبحاث الأخري التي لم يكن تصفحها فوجدها كلها أقرب إلي ميدان الفلسفة منها إلي الميدان الذي تقدم به صاحبها للترقية فيه، وهو «اللغة العربية وآدابها».
وهكذا فإن عبد الصبور شاهين اتصل ليتأكد من أن الأوراق لم تأت إليه من باب الخطأ الذي يحدث عند تبديل المظاريف بالصدفة، فلما تأكد أن الأمر يخلو من الخطأ الإداري بدأ يفحص، ولأنه مغرم بالفلسفة ودارس لها من قبل، ولأنه من هواة الإسلاميات بطيفها الواسع، فلم يكن صعبا عليه أن يقيم أبحاثا جاءت إليه للتقييم.. لا المباركة !! ولا للبصمة !! ولأن اللجنة العلمية الدائمة في ذلك الوقت كانت تضم مَنْ بقي من السلف الصالح من مؤسسي الجامعة الأوائل، ومنهم القطبان الأولان لمعيدي الجامعة المصرية: سهير القلماوي، وشوقي ضيف، فقد استمعت اللجنة إلي تقييم عبد الصبور شاهين وأقرته علي تقييمه، ووقع هؤلاء الأعلام جميعا باعتماد التقرير الذي كان عبد الصبور شاهين قد انتهي اليه ، بمن فيهم مَنْ كانوا يودون «تمرير» أبحاث نصر حامد أبوزيد وترقيته، خصوصا بعد كفاحه العلمي، وبعد كبر سنه، لكن سهير القلماوي، وشوقي ضيف وغيرهما من الأساتذة الكبار، انتصروا للضمير العلمي، وخافوا الله في مستقبل العلم في هذا الوطن، ووصلوا إلي تقرير حقيقة أن أبحاث نصر في ذلك اليوم لا ترقي به إلي الأستاذية في ذلك اليوم ، ومعني هذا أن الفرصة متاحة أمامه لكي يجود ويرتقي
لكن الطموح الزائد لأصدقاء نصر حامد أبوزيد جعلهم يقفون علي رقبته، ويصعدون علي جثته، ويصورون للمجتمع كل ما صوروه من أن عبد الصبور (وحده) ظلم نصرا (وحده)، وسرعان ما تنامي الإفك إلي حد الاستفزاز الذي نعرف أنه أثمر دعوة المحتسب المشهور (ي ب) إلي رفع قضية التفريق المشهورة، التي نسب إلي عبد الصبور أنه هو الذي رفعها مع أنه لم يفعل هذا ، ولم يكن لعبد الصبور شاهين أي علاقة بهذا كله من قريب، ولا من بعيد، لكن آفة قومنا، وهي النسيان، نسبت إلي عبد الصبور ما لم يفعله،
وهكذا مضت معركة من المعارك المعطلة للتقدم باسم التقدم، والمعطلة للعلم باسم الرأي، لكن أصحابها من قصار النظر فازوا في نهايتها بما كانوا يبتغون، واحتسب عبد الصبور رأيه، واحتبس نصر حامد أبوزيد نفسه في السجن الذي أراده له أصدقاؤه الذين لا يعلم إلا الله مدي إخلاصهم له، ومدي خلاصهم لأنفسهم، وأي المديين أضخم.
حاز من الدنيا طيباتها
مضي عبد الصبور شاهين إلي لقاء ربه، وقد حاز من الدنيا طيباتها عملا صالحا، وذرية صالحة، وزوجة صالحة، وثروة صالحة. كان مغرما بالبناء، وبالتجديد، وبالنجاح، وبالكسب الحلال، وكان مقدرا لكل مَنْ ينجح في هذا، وقد فاته تقدير كثير كان يستحقه، لكنه ـ في رأيي رزق ما هو خير منه، حال مرضي بيني وبين السؤال عنه في مرضه، لكنه كان أفضل مني في السؤال الدائم عني.. بل كان بالقطع أفضل مني في كل شيء اشتركنا فيه!
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]