كان الدكتور ناصر الأنصاري نموذجا بارزا للاجتهاد والدأب، وحب العلم وأهله، كما كان محبا للفن، متيما بالأعمال الفنية، وبتاريخها، ومكانتها في نهر الفنون، وكان يحب التوثيق، كما كان يحب التنظير، وقد آثر لنفسه أن يستكمل دراساته العليا في تاريخ القانون في فرنسا، واختار أن يدرس موضوعا يتصل بعمله اليومي في المراسم والبروتوكول، ووفق إلي إتمام رسالة قيمة عن نظم مصر البروتوكولية عبر العصور، وقد تطلب هذا البحث منه أن يلم إلماما جيدا بتاريخ مصر، لكنه لم يقف عند حدود الإلمام، وإنما تعمق في دراسة تعاقب الدول والحكام، وخرج منها بكتابيه.. الذي لخص تاريخ مصر في أحدهما، وسرد الحكام وأعلامهم وشعاراتهم وشاراتهم في الثاني.
وقد وقع اختيار الوزير فاروق حسني عليه لتولي إدارة دار الأوبرا (المركز الثقافي التعليمي) في فترة صباها المتوثبة، فأضفي علي هذه الدار من روحه المنضبطة، وشبابه الواثق، وأتاح لدار الأوبرا طيفا واسعا من الأنشطة التي تتجاوز حدود فنون السماع إلي فنون البصر، والعقل، والوجدان، والحوارين الثقافي والسياسي.
ثم انتقل بنشاطه إلي دار الكتب والوثائق القومية فاستعاد لها كثيرا من هيبتها، ورونقها، ونظمها، وساعد في استعادة مكانتها العظيمة في تاريخنا الثقافي والتعليمي، وبذل جهدا قاتلا وخارقا للعادة في التغلب علي الإفساد الذي كان نتيجة طبيعية للإهمال الذي تعرضت له الدار دون قصد في عقد من العقود.
ورشحته إنجازاته وعلاقاته ليكون مديرا لمعهد العالم العربي في باريس، فاستكمل في هذا المعهد ما بدأه أسلافه من خطوات جادة في سبيل التقريب القائم علي التعريف والحوار، ونجح في أن يضفي قدرا أكبر من الجدية علي مساهمات العرب الموسمية في نشاط هذا المعهد، وكان وجوده في باريس محسوسا وملموسا، كما كان عطاؤه فيها مخلصا ومنجزا.
وشاء له قدره أن يختتم حياته في الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولم تمض شهور قليلة عليه وهو في موقعه الأخير إلا وابتلي بالمرض، وإجراء الجراحات واحدة بعد أخري، وتلقي العلاجين الكيماوي والإشعاعي،
ومع أن العلاج نفسه كان كفيلا بأن تنوء به الجبال، فقد كان المرض الخبيث يعاود الظهور في موضع آخر بعد أن يقاومه العلاج، وبعد أن يقاوم العلاج، وكان كل هذا الصراع يجري وقد اتخذ من جسمه الضعيف ميدانا لجولات الكر والفر، ولصولات المرض والشفاء،
وكان ناصر الأنصاري صابرا محتسبا، مبتسما للدنيا وللناس، وراضيا عن نفسه وعما قدم، سعيدا بما أنجز، شاكرا الله علي ما رزقه من نعم الدنيا، ومن حب الناس، ومن الاجتماع علي حبه، وهو الرجل الذي كان أسيرا للأخلاق الرفيعة، كما كان قادرا علي أسر الآخرين بتواضعه ورقته وتهذبه.
كنت أري فيه واحدا من جيل انقرضت أفراده، وكادت أخلاقه تنقرض من بعده. كان نبيلا في سلوكه تجاه الرؤساء والمرءوسين علي حد سواء، وكان قادرا علي اكتشاف الحقيقة من دون ادعاء، وعلي الوصول إلي الجوهر من دون إبطاء.
كان يعرف للناس أقدارهم، وكان معظم الناس يعرفون له قدره. كان وجدانه سليما نقيا، انطبعت فيه صور الأمانة والنزاهة، والإخلاص وحب الحقيقة، وتخلي بإرادة بارعة عن الوقوع في شرك المظهرية، والادعاء، والغرور، والتفلسف الكاذب.
وقد نجح في أداء وظيفته في هيئة الكتاب نجاحا ساحقا، وقد ساعده في كل خطواته مثقف نبيل هو الدكتور وحيد عبد المجيد، الذي أتيح له أن يتولي رئاسة الهيئة قبله، وأن يتولاها معه، فكان الرجلان وجهين لعملة واحدة نادرة وثمينة، ومصقولة بالفهم والذكاء، وحب التفوق، وعشق الوطن،
وقد تمكنا بنجاح منقطع النظر من أن يضعا الهيئة في المكانة اللائقة بها بين دور النشر الكبري في العالم، واهتما بالشكل والموضوع في نشر الكتاب، وبنشر القيم الثقافية والببلوجرافية، وبإتاحة الكتاب في منافذ الهيئة ومعارضها، وبتنمية السلاسل، ورقي المجلات،
وكان الدكتور ناصر الأنصاري يراجع بنفسه هجاء الغلاف، وسلامة نحوه، ودقة صورته، وجمالها، كما كان يراجع بيانات التوثيق الببليوجرافي، وكان حريصا علي أن تكون إصدارات الهيئة صالحة للتعامل الإلكتروني علي جميع المستويات في المعارض، والمخازن، والواجهات.
وقد واجه بصبر بالغ، وحنو شفيف كل التراث الذي تراكم عبر سنوات طويلة من إيثار السرعة والسهولة، والابتعاد عن المنهج الصارم في الإنتاج الجيد الملتزم، وكان مؤمنا بأن الإصلاح يتطلب الصبر بقدر ما يتطلب الحماس، وهكذا جمع في سبيكة نادرة بين روح الإصلاح المتأني، والحسم المتفاني، لكن هذا كله لم يتحقق إلا علي حساب صحته أولا، ثم علي حساب مقاومته للمرض ثانيا، ثم علي حساب إقباله علي العلاج والتزامه به ثالثا.
والحق أنه كلف نفسه ما لا يطيقه بشر، لكنه كان يعرف أنه مقدم علي لقاء ربه، فكان يحاول أن يستكثر من الحسنات، ومما يثقل به ميزانه، ولا نزكي علي الله أحدا.
نفتقد اليوم في ناصر الأنصاري اللفظ العفيف ، والإحساس الشفيف، ونفتقد فيه الإخلاص للفكرة، والإخلاص للمؤسسة، ونفتقد فيه الولاء للدولة ، والولاء للشعب، ونفتقد بغيابه الصديق الصدوق، والناصح المخلص، والمحب الوفي، والإنسان النقي الذي أحب أسرته ومرءويسه، وضحي من أجل هؤلاء وأولئك بكل ما بذل في حياته.
وهاأنذا أودع اليوم في ناصر الأنصاري ما ودعته بالأمس في محمد السيد سعيد من حب لقطعة من النفس، والحياة، والوطن، والقيم، والشيم، والقمم، وإنا لله وإنه إليه راجعون.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]