إسماعيل النقيب هو آخر أدباء الصحافة، فمن بعده أصبح أدباء الصحافة شيئا آخر (محترفا ومحترقا) شيئا غير هذا الأدب المتدفق في كل لقطة، وفي كل جملة، وفي كل مقطع، وقد أدرك النقيب أعلام الجيل السابق علي جيله في الكتابة والفن والصحافة، ووضع رأسه برأسهم، فكان له ما أراد، كما قدر له أن يعيش رمزا للتجديد الذي كان عصره قد انتهي، وللتعبير المجيد عن المشاعر الرقيقة والنادرة،
عاش هذه الحياة علما في الصحافة والسياسة والأدب والشعر وفنون القول جميعا.كان ينقد برقة، ويعلق بدقة، ويستقرئ الأحداث، ويحلل النوازع، ويحرص علي كل ما من شأنه أن يحقق أمله في توحد الأمة العربية التي هو ابن من أبنائها، كما كان يحرص بالقدر ذاته علي أن ينفي عنها التمزق.
عاش إسماعيل النقيب يبشر ولا ينفر، يستهدي التاريخ، ويعلي القيمة، كما عاش محبا للحياة والأحياء علي حد سواء: يحتفي بالقيمة، وينتشي بالانتصار، ويسعد بالتقدير. كانت تعلقاته الشفهية رمزا للفهم والقدرة علي الصياغة، وعلي الحكم العادل، وكانت قصصه المعبرة بحرا لا ينتهي من الإخلاص للوطن وقيمه وقممه،
وأشهد أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أفضلهما لجماعته وشعبه ووطنه، وما ترك فرصة للتجمع العربي إلا غذاها بقلمه أو سعيه،
كان قريبا من كبار رجال الخارجية والدبلوماسيين الذين حفظوا له جميعا روحه الوثابة، وقلمه المحب المعبر عن الأماني القومية والوطنية علي حد سواء.
انحاز للسادات في الوقت الذي كان الانحياز للسادات فيه نوعا من أنواع الفداء المتفاني، وكان الإعراض علي الانحياز للسادات مجلبة لكل المكاسب المادية، والفخر الأيديولوجي، والدعوات المنهالة، من هنا وهناك، لكن إسماعيل النقيب لم يشأ أن يخون ضميره، ولا وطنيته، وآثر أن يكون صادقا مع شعبه وقلمه.
كان إسماعيل النقيب ظريف الطابع، لطيف العبارة، قادرا علي استخلاص الجمال من مكامنه، وعلي التعبير عنه بما يستحق الجمال من ألفاظ تليق به، وتليق بالمجتمع المحافظ أيضا، وكانت روحه المعابثة تجد نفسها في صالة التحرير وطرقاتها بأكثر مما تجدها علي صفحات الجريدة وأبوابها، لكنه كان يعيش الأستاذية الحقة التي تختص الملازمين له، بما لا تختص القراء الذين يقرأون آثاره دون أن يكونوا علي قرب مادي من شخصه، ولسانه، وتعليقه الآني الطريف.
كان في وسع إسماعيل النقيب أن يتولي عددا من المناصب الإدارية في الصحافة، لكنه كان بإحساسه المتفرد بقدرته هو نفسه علي الإبداع يحب الحرية لهذا الإبداع، ويحرص علي ألا تشوب إبداعاته أكدار التأنيب والعدم والضبط والربط، وهكذا دفعه حبه للإبداع إلي أن يقدر ذاته بعيدا عما هو شائع من تقدير الذات، ومع أن تنازله عما يستحق جلب علي القراء المعاناة مع مَنْ لا يستحق، فإن مكانة النقيب من أفئدة قرائه ظلت محفوظة.
كان إسماعيل النقيب رجلا جميلا، وإذا أردت أن أشبهه علي نحو ما يشبه البشر بعناصر الكون فإني أقول إنه كان بحرا من التاريخ الحي الذي عاصره وعصره وانعصر معه في بعض الأحيان، وكما كان شاطئا من الوفاء الجميل الذي مارسه وتمرس به في كل الأوقات.
وكما كان إسماعيل النقيب نبعا صافيا للمودة والأصالة في النطق والمنطق علي حد سواء، فقد كان شلالا هادرا في النقد والتقيم علي حد سواء أيضا.
وإذا أردت أن أصفه بتعبيرات المكان والزمان فإني أقول إنه كان ملاذا للباحثين عن الحكمة، وكان سقفا للباحثين عن التعبير الجميل، وكان منارة للشراقوة في القاهرة.. يحبونه، ويفخرون بحبه،
وكان أبرز نموذج للفخر الوطني بالقدرة علي الاحتفاظ بالموروث، والتعبير عنه تعبيرا راقيا ومعتزا في كل الأحوال، ومع كل هذا فقد كان متواضعا الي الحد الذي يوصف معه بانه لا يدرك القيمة العالية لسلوكه الظريف اللطيف.
رحمه الله رحمة واسعة، وعوضنا عنه وعوض السيدة الفاضلة زوجته وابنتيه وأصهاره وتلاميذه وأصدقائه وكل من عرفه وكل قرائه.
[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : وشائج الفكر و السلطة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]