الرئيسية / المكتبة الصحفية / أنيس منصور في أبراج الفكر

أنيس منصور في أبراج الفكر

لم يحظ كاتب عربي معاصر بتصاعد قيمة التقدير الذي حصل عليه مثلما حظي أنيس منصور. تجلي هذا في التزايد والتضاعف والتراكم اللانهائي في معجبيه علي مر الأيام، كما تبلور في التقدير الأكاديمي والعربي والنقدي لأعماله، بل وتكرس هذا المعني في جوائز الدولة، وقد منح الجائزة التشجيعية والتقديرية بعدها بعشرين عاما ثم جائزة مبارك بعدها بعشرين عاما أخري وكان حصوله علي هذه الجوائز الثلاثة تتويجا للقيم الأدبية الرفيعة.

فأنيس منصور هو المبدع الذي لم تقف إبداعاته عند حدود أي نمط من أنماط الكتابة الأدبية، ومع هذا فقد تسنم الذروة السامقة في كل الموضوعات التي تناولها، والأنماط التي مارسها.

وهو الفيلسوف الذي مارس الفلسفة في كل ما كتب وقدم، وكان بمثابة رسول الفلسفة في الأدب العربي الحديث والمعاصر.

 وهو المفكر الذي فتح بجسارة شديدة كثيرا من الأبواب المغلقة وسيطر باقتدار بالغ علي كل زوايا الفكر المتميزة التي قدر له أن يوجدها وينشئها وينميها في التفكير المعاصر.

وهو نمط نادر من الكتاب والأدباء والنوادر في تاريخ الآداب العالمية الذين تتاح لهم  فرصة الشهرة المبكرة ولكنهم  يؤخرون ـ عن عمد ـ انتشارهم من أجل التجويد ثم إذا هم بعد الوصول إلي أقصي درجات الشهرة و التجويد لا يبخلون علي قرائهم ولا علي معاصريهم بإنتاج غزير كثيف لا يكف عن الارتقاء والتفوق علي كل ما سبقه فإذا هم من قمة إلي قمة، وإذا هم يجمعون ويحرزون ويحصدون ويسجلون تفوقا في الكم والكيف يصعب أن يفكر أحد في اللحاق به.

 وفي حالة أنيس منصور فإنه يجمع بالإضافة إلي هذا إعجاب الأذكياء والعامة والمتذاكين  والمتبسطين، ويجمع بين تقدير الأكاديميين وطلاب المدارس، ويجتمع علي تقدير موهبته كل الناس شبابا وشيبة ورجالا ونساء وأطفالا ولكنه يضحي بإعجاب أنصاف المثقفين  وأنصاف المفكرين.

وإذا هو في كل ما يمارس وينشئ من زاد فكري عميق المحتوي ينسج خطوطا من حرير الوطنية الحقة التي لا تختلط بأي قدر من أقدار الشوفونية، ولا تصطنع بأي نسبة من الأيديولوجية، إنما هي وطنية راقية متزنة عاقلة مبصرة حفية بكل تقدير وإعجاب ولهذا فإن صاحبها يتنازل طوعا عن افتتان أنصاف الوطنيين وأنصاف السياسيين.

وأنيس منصور هو النموذج المتفرد والبارز للكاتب الذكي الفيلسوف الذي سعي إلي اصطفائه حاكم  عظيم و زعيم متفرد، لا لكي يكتب له أو يملي عليه ولا لكي ينقل إليه أو عنه، وإنما سعي إليه ليقدح زناد فكره بفكره ، وليجدد من خلال اللقاء به شرارات الإبداع في السياسة وممارستها وفي التاريخ وصنعه.

وقد كان من حسن حظ الرئيس السادات أن وجد في عصره هذا الفيلسوف العبقري ، حتي وإن كان تاريخ عصر السادات لا يزال يتشوق ويتطلع إلي أن يتناوله قلم أنيس منصور علي نحو آو آخر.

وأنيس منصور هو النموذج التاريخي للعبقري الذي يولد بلمحات العبقرية ويتاح له من التعليم ما يؤجج العبقرية، ثم يتيح هو لنفسه من استكمال التعليم ما يكفل للعبقرية المتأججة أن تتوهج، ثم لا يفتأ العبقري يعني بعبقريته إلي الحد الذي يجعله آناء الليل وأطراف النهار يضيف إليها ويصقلها ويشذبها ويراجعها ويركزها ويكثفها، والعبقرية في كل هذا تستجيب له استجابات مضاعفة، تحفظ عليها جوهرها ومظهرها، وتجدد لذات العبقرية الطاقة الكفيلة بالحفاظ علي الذات ، وتبذل العبقرية من ذاتها كل الطاقة الكفيلة بتوليد الطاقة، وإذا حياة أنيس منصور كحياة الكون تسطع شمسها فتبخر من مياه البحار سحابا يعود إلي البحار أمطارا بعد أن يكون قد أحيا النفوس وطهرها وانعشها ،بل  وأضاف إلي نفسه ومجده أيضا.

أنيس منصور هو السهل المطلق الذي لا سبيل إلي تصعيبه او تعقيده ، ولا إلي تحويره او تدويره ، يقرأه كل الناس فيحرزون أقدارا متساوية من الفهم دون أن تحتاج نصوصه إلي كهنة أو مفسرين أو شراح، لأنه لا يكتب إلا إذا وصل إلي كبد الحقيقة وقلب الحقيقة وباطن الحقيقة حتي لو كانت الحقيقة هي الحيرة نفسها.

  وقد مكنه علمه الفلسفي الغزير وتفوقه المعلوماتي الساحق أن يدرك منذ مرحلة مبكرة أن نهاية البحث الجاد  قد تكون سؤالا كما أنها قد تكون جوابا، ولهذا نجا أنيس منصور في كل ما كتب وألف وأبدع وسجل وقرر من التعالم والتصنع والتمعل والتمعمل والافتعال والتذاكي والادعاء والتحذلق والتفذلك ، وجاءت آراؤه وأقواله علي الدوام نموذجا للحكمة الخالصة حتي لو كانت الحكمة هي  البحث عن الحكمة فحسب.

أنيس منصور قبس من نور الخالق جل في علاه، منحه للعرب وللفكر العربي في وقت كانا أحوج ما يكونان إلي مثله تجردا للحقيقة، وبحثا عن الحق، وقد مثلت كتاباته في بعض الموضوعات نورا هدي إلي الطريق الذي كانت الأغلبية تجهله، وفي موضوعات أخري مثلت كتاباته ضميرا متيقظا في مواجهة خطايا الجهالة  والعمالة والتعتيم والانحياز وتفضيل القوالب الجاهزة، وحين مارس الصحافة حقق فيها بفلسفته واطلاعه وجهده عددا لا يستهان به من الخبطات الصحفية، فلما تفرغ للمقال كانت المعجزة أنه حقق أيضا من خلال المقال خبطات صحفية وفكرية نقلها العالم كله عنه!

و أنيس منصور هو المزيج ذو الكود السري الأمثل بين رباعيات  العلم والفن والأدب والفلسفة، و هو  السبيكة النفيسة النادرة في تناسق نسبها  بين كل هذه المكونات الأربعة التي يندر أن تجتمع بأقدار مثالية في شخص واحد أو قلم واحد ، وكما أن سبيكته عبقرية في جوهرها فإنها عبقرية في قشرتها الخارجية بما انصهر عليها من مقادير محسوبة من  بلاغة وفصاحة وإشراق ودقة ونعومة..

 و أنيس منصور هو النموذج المعبر عن الفن الراقي الذي يدرك عن فهم أصيل مبادئ الصنعة وآفاق التجديد، وهو في الوقت ذاته النموذج البارز للأدب الذي يرتقي بالمعرفة ويوجهها في اتجاهات لم يكن لصاحبها عهد بها قبل أن يقرأ أنيس منصور.

وقد أتاح له دأبه وذكاؤه وجده واجتهاده طرازا متفردا في الشخصية العبقرية التي نجت وتبرأت من كل مركبات النقص، ومع هذا فقد احتفظت بالأقدار المثلي من مسوغات العظمة الإنسانية  ومقومات الكمال البشري.

وحسب أنيس منصور تقديرا أني لم أر عنصرا مشتركا في شخصيات كل الصحفيين الناجحين  إلا عنصرا واحدا فقط هو أنهم كانوا يحلمون بأن يكونوا أنيس منصور.

 وحسبه تقديرا مرة أخري أن أيا منهم لم يتصور نفسه  قادرا علي أن يحقق كل ما حققه ، وإنما كان طموح كل منهم محددا ببعض ما حقق..

 فما بالنا بهذا  التفكير الذي كانوا يحلمون به منذ ثلاثين عاما بينما ظل الرجل يضيف إلي هرمه طوال هذه السنوات .

ويندر أن تجد في الأدب العربي من نجح في توظيف ألفاظ اللغة العربية علي نحو ما وظفها أنيس منصور في التعبير عن المعاني الدقيقة والمبتكرة علي حد سواء، وعلي نفس النمط فعل بقواعد المنطق وبأصول التفكير الفلسفي وبحقائق علم النفس والصحة النفسية.

 وقد مكنته دراساته المتصلة وقراءاته المتعمقة من أن يحقق بكل هذه الأدوات مستوي رفيعا ولا يضاهي من أسلوب متميز يحمل اسمه معه في كل جملة من جمله، وهو أقصي بكثير مما يسعي إليه الأسلوبيون من نجاح، إذ إن غاية جهدهم أن يعرف الكاتب من فقرة، ولكن أنيس منصور وصل إلي ما هو أبعد من ذلك حيث يعرف في كثير من الأحيان من سطر أو من جملة أو حتي من عبارة.

بل إن أنيس منصور نحت للمفاهيم الفلسفية المستحدثة والعصرية في اللغة العربية عبارات بأكملها، ويسر للقارئ العربي الاطلاع علي روح كثير من المدارس الفلسفية التي كانت ـ بدون جهده ـ ستبقي أشبه بالمدارس النقدية المعاصرة التي يعجز النقاد أنفسهم عن تبسيط مضمونها ومصطلحاتها بل وأسمائها للجمهور.

وقد نجا أنيس منصور من كل أنواع التكلف الخلقي والاجتماعي والأدبي والسياسي والفكري، لكنه لم يحقق هذا النجاح إلا بعد سباحة متواصلة صارع فيها الأمواج من أجل الوصول إلي جوهر الحقيقة ولب الفكرة.

وتحمل أنيس منصور في شموخ كثيرا من العبث الذي حاول أن ينال من مكانته في وجدان أمته وأدبها وفكرها دون أدني نجاح يذكر. وقد شاء له حظه ـ في علي سبيل المثال ـ أن ينجو من تسلط روح السلطة علي نفسه ولو للحظة واحدة، لذلك نراه ونحس به  دوما أكبر من كل سلطة ونفوذ، ولم يعرف عنه في يوم من الأيام شوقه إلي سلطة، ولا إلي تسلط، بل لعله كان أحرص الناس علي أن تنجو نفسه من هذه القيود المكبلة، كما احتفظت نفسه الصافية بأقدار لا نهائية من التواضع الحقيقي دون ادعاء.

 وليس في عالمنا الثقافي العربي كله من يتمتع بتواضع حقيقي كتواضعه الذي يظهر في جلوسه بالساعات إلي كل النصوص الجديدة في العالم كله، يقرأ ويحلل بعقلية ابن العشرين، ومع هذا فإن نفسه الأبية ترتفع بقدرها عند نفسها إلي حيث يبغي أن ترتفع وسط أمواج الأدعياء والمدعين والمشرأبين  والمزيفين والمزورين والمنتفخين  والمضخمين وذوي الضجيج. 

وليس  سرا ان ترسخ مكانة أنيس منصور في وجدان أمته كانت بمثابة أبرز الدوافع الذي استثارت جهودا محمومة بذلت في الأعوام الأخيرة لمحاولة الارتفاع بالأقدار الفكرية لبعض الذين استلبوا الأموال ثمنا لتضحيتهم بشرف الكلمة والوطن  وتملكوا بها الشركات الاحتكارية لدور النشر والتراث الوطني الفني ، ورغم هذا فقد اثبتت التجربة أن أنيس منصور بقي وسيبقي علي القمة التي لن يصل إلي سفحها من صوروا  لأنفسهم أن بإمكانهم أن يستحوذوا بطريقة أو بأخري علي مكانة موازية لمكانته.

ومع أن لأنيس منصور كل الحق في أن يشكو في بعض الأحيان من موجات السطو علي إنتاجه الفكري في كثير من البلدان العربية، وما يمثله هذا من إهدار لحقوقه المادية، إلا أني أري في هذا أكبر وسام علي صدره، لأن كل الذين سطوا ويسطون علي هذا الإنتاج يعدون إنتاجه جزءا من تراث الإنسانية المباح للإنسانية كلها، ويصعب علي هؤلاء التجار والناشرين أن يتصوروه كغيره من الأسماء التي تؤلف كتبا موسمية تباع لأجهزة  دول معينة بعشرات الألوف دفعة واحدة من أجل  قارئ واحد، وتدق لها عند صدورها طبول جوفاء ، بينما يجتمع عشرات الألوف من القراء العرب  علي أن يقتطعوا من قوت يومهم ليقتنوا كتابا من كتب أنيس منصور يقرءونه مرة بعد أخري.

وربما يري البعض أن يمتدحوه بقولهم إنه أمة في رجل، وربما يصور آخرون قدره بقولهم إنه تاريخ في شخص، وربما تجسد طائفة ثالثة انجازه علي أنه بمثابة موسوعة القرن العشرين كله بما تبلور في القرن العشرين من معارف وفلسفات القرون السابقة، بيد أن كل هذه الأوصاف وغيرها تتضاءل أمام حضور طاغ لم يسبقه إليه أديب أو كاتب، ومكانته في الأدب القومي – اليوم – تفوق بلاشك مكانة سلفه العظيم  والتر ليبمان في الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمعات المرتبطة بثقافتها.

بيد أن حضوره الطاغي غطي حتي علي تقييم مجمل أعماله، لأنه أصبح في مخيلة المعاصرين بمثابة المحيط الذي لا يمكن وصف وحدوده ولا تصويرها إلا بالخروج من الكرة الأرضية، ويكفي الأحياء أنهم يجدونه محيطا بهم من أي ناحية اتجهوا إليها.

  [ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي :  وشائج الفكر و السلطة  ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com