شهد القرن الحادي والعشرون منذ عامه الثاني 2002 أقسى الظروف التي فرضت على الشعب الفلسطيني، وهي ظروف استثنائية في القسوة الأميركية والغطرسة الدولية والغدر العربي، ولم يقدر لشعب من الشعوب -بما في ذلك فيتنام- أن يواجه هذه المؤامرات على هذا النحو الشجاع الباسل الذي اجتهد به الفلسطينيون في التصدي لآلة عسكرية وإرهابية جبارة.
وأضافوا إلى ذلك رصيدا هائلا من الصمود والاستبسال على مدى أكثر من قرن من الزمان بدأ منذ دخول البريطانيين المشبوه إلى القدس في 1917 بمعونة الجيش المصري الذي سيق المتطوعون المجبرون فيه ليفقدوا القدس استقلالها وليفقدوا فلسطين سيادتها، وهم غافلون تماما عما يفعلون.
كانت قضية العرب الأساسية في القرن العشرين هي فلسطين وكان محور التعامل معها هو التعاطف الظاهر والخيانة المستترة، فأصبحنا في العقد الأخير وبعد بدء الثورات العربية نواجه بحقيقة، وهي أن قضية فلسطين ستظل بمثابة القضية الأساسية في القرن الحادي والعشرين مع اختلاف المنظور بحيث تبدل بفضل سياسات الثورة العربية المضادة ليكون الغدر السافر وغير الخجول مع التعاطف الشعبي الواسع النطاق والمتسلح بالوعي والإيمان وهو في كل حال مكسب كبير للقضية.
ومع الإيمان بما استقر في أدبيات عصر العسكريين والقوميين من أن القضية نشأت كنتيجة لتصرفات مشبوهة من الاستعمار البريطاني، ثم لتصرفات أكثر شبهة من الولايات المتحدة الأميركية، فإن الحقيقة التي لا نمل من تكرار القول بها للتنبيه على أنها ما تزال مغيبة عن أذهاننا، هي أن جهل العرب -بالمعنى العام للجهل- كان ولا يزال بمثابة العامل الأكثر خطورة الذي أدى إلى تفاقم القضية على نحو ما أصبحت عليه، وإلى مضاعفة الخسائر الناشئة عنها، وإلى تعقد القضية نفسها بحيث أصبحت قضية متعددة الأطراف.
وقد تمثل جهل العرب في محاور متعددة، منها عدم إدراك قواعد إدارة الصراع الدولي لكن المشكل الأكبر ظل مرتبطا بما يقود إليه التفكير بالأماني وما يستتبع إحسان الظن بالمجتمع الدولي، وإذا كانت هناك ميزة سياسية وفكرية بارزة في الأحداث التي نعيشها في 2021، فهي أن التواطؤ الدولي ظهر مكشوفا بوضوح شديد بينما انحازت الشعوب تماما للفلسطينيين وقضيتهم ومقدساتهم وتطلعاتهم المشروعة.
الشعب الفلسطيني يحارب وحده
ومنذ بدأت المواجهات في 2002 قبل نحو 20 عاما فقد كنا نقول بوضوح إن العالم ومراكز البحوث والدراسات تتجاهل حقيقة فاصلة، وهي أن الشعب الفلسطيني بدأ يحارب وحده وعلى أرضه، ففي كل جولات الصراع العربي الإسرائيلي كانت هناك جبهة أو جبهات تتولاها قيادات عربية من هنا وهناك، سواء تعددت هذه الجبهات لتشمل جيوش الدول العربية المستقلة جميعا أو تفردت، أما منذ مواجهات 2002 فإن الفلسطينيين يحاربون وحدهم والعدو من أمامهم ومن خلفهم ومن تحتهم ومن فوقهم وعن يمينهم وعن شمالهم.
ومع هذا فإن الفلسطينيين يحرزون النصر تلو النصر، ويلقون بالرعب في أفئدة العدو، ولو وفق الله الانتفاضات الفلسطينية للاستمرار بقوة الدفع ذاتها، فلن يبقى في إسرائيل كلها عُشر سكانها، وساعتها قد يتولى المجتمع الدولي من خلال منظمات ومؤسسات اللاجئين توطين سكان إسرائيل في كندا وأستراليا وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا، فضلا عن بعض المناطق في الولايات المتحدة الأميركية، قلنا هذا وسنظل نقوله ومن حسن الحظ أن الرأي العام بدأ يدرك مدى الصواب في رؤيتنا للحقيقة الساطعة.
وما تزال جولات الانتفاضات الفلسطينية تُظهر بكل وضوح مدى التورط الأميركي الذي أصبح مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واضحا جليا بكل ما يحمله من سوء النية وخبث الطوية، وقد كررت كثيرا القول إن استفادة أميركا من إسرائيل تفوق استفادة إسرائيل من أميركا بمراحل، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ترينا الأزمة الحالية مدى عمق صواب هذه الحقيقة التي نتغاضى عنها حين نفضل أن نعيش صورة مغلوطة من صنع البعض منا!
ذلك أن إسرائيل لا تكلف أميركا إلا بمقدار ما تكلفها حاملة طائرات أميركية ضخمة تتمركز في البحر الأبيض المتوسط، ولكنها تقوم نيابة عن أميركا ولأميركا بدور كبير جدا، وقد كان عجز الإدارة الأميركية الحالية والإدارتين السابقتين عن إتقان تمثيل دور راعي حمى الحرية كفيلا بأن يفتح أعين العرب والمسلمين والفلسطينيين على حقيقة العدو الأصلي.
تراكم الخبرة بالانتصارات المتكررة
ونخطئ حين نظن أن حركة التاريخ الإنساني تمثل نتاجا لحدث واحد أو إنجاز و احد، بل هي محصلة حسابات معقدة لخطوات متعددة تبدو في صورة انتصارات وهزائم لكنها تفرز في النهاية نتيجة تاريخية كالتي يعيشها الفلسطينيون اليوم.
وبرزت تلك النتيجة للعيان منذ بدؤوا يتولون قضيتهم بصواريخهم، في ملحمة رائعة تجسد الصمود والنجاح والاستبسال، وتعبر عن الإيمان بقضيتهم -وهو أبرز عامل من عوامل النجاح- وتظهر مدى قدرتهم على خوض الحرب من أجل قضيتهم الأصلية، ولهذه الصفات الثلاث أهمية كبيرة فيما يتعلق بالكفاح الفلسطيني الذي لا بد له أن يتوج عن قريب بالنجاح والنصر.
ومن حسن الحظ أن الأيام الماضية كشفت عن أن الإدارة الأميركية -كما توقعنا من قبل- أصبحت تائهة تماما، فأمانيها أكبر من قدراتها، وقدراتها أعنف من عقلها، وعقلها أوهن من تصورها، وتصورها أضل من رؤيتها، ورؤيتها أقصر من هدفها، وهدفها أصغر من ماضيها، وماضيها أزهى من مستقبلها.
وقد ظهر هذا بوضوح في عجز هذه الإدارة عن اللجوء لطريق واضح لمعالجة الأزمة وذلك بناء على التقديرات المسبقة المتراكمة. ومنذ قليل بدأ أحرج أسبوع تواجهه الإدارة الأميركية منذ 48 عاما أي منذ حرب 1973 فالبرود مستحيل، والتبريد صعب، والترقب مكلف، والتأهب شائك، والتدخل فاضح، والتدليس مربك، والتشكيك مغامرة، والاعتراف بائس، والاقتراف يائس، وهذا كله مما يدعو إلى إحسان الظن بالله الذي وهب الفلسطينيين هذه الفرصة الذهبية للخلاص من الاحتلال والمنافقين معا!