كان مصطفى رياض باشا محبًّا للفكر وللعلم ومقدّرًا لأهلهما كما كان أيضا محبًّا للفن ممارسًا له ومحترمًا أهله، وقد مكّنه الكادر الذي مارس فيه الموسيقى العسكرية في الجيش من أن يلمّ بأحوال الفنانين والذين كانوا يقومون بوظائف الفن، وأن يساعدهم على حيازة مكانة متقدمة في المجتمع المصري، ولا يحسبن أحد أن وجود فنانين من طراز عبده الحامولي (1836-1901)، على سبيل المثال، وبلوغهم المكانة التي بلغوها في البلاط الخديوي كان من الممكن أن يحدث بغير حضور مصطفى رياض باشا وما رتبه تفوقُه ومسلكه المنضبط والمستقيم من أوضاع أفاد منها تلقائيا الجو الذي شجع عبده الحامولي وغيره وكل من كان قادرا على أن يفيد منها. كذلك فإن مصطفى رياض باشا هو الذي عرف شأن جمال الدين الأفغاني مبكرًا، وهو الذي رتب له الإقامة بمصر مع راتب شهري يعينه على وظيفة الأستاذية الحرة، وهو ما لم يحدث حتى الآن لأي مفكر آخر على يد أي رئيس وزراء آخر.
نعرف أن الأدبيات الغربية إذ تدرك قيمة إخلاص مصطفى رياض باشا لمصر والمصريين فإنها تقفز على أي دور له حين يكون الدور مستحقا للإشادة، لكنها حين تجد الفرصة لتقديم مصطفى رياض باشا في صورة السياسي المكروه، أو الوزير الذي هو محلّ النقمة، أو رئيس الوزراء الذي هو الموضوع البارز في ثورة الضباط، فإنها تبالغ في تقديم صورة منحازة ضده من قبيل أنه كان مستبدًا مغرورًا مكروها مع أنه كان ابن عصره وابن ثقافة ذلك العصر الذي كان الاستبداد جزءًا من سماته ومقوماته.
بداياته الوظيفية
في 1848 بدأ مصطفى رياض باشا حياته الوظيفية في الـ14 من عمره (أو ربما وهو أصغر من هذا بعام أوعامين إذ تورد كثير من الروايات تاريخ مولده على أنه كان عام 1835 أو 1836) في وظيفة لا تتطلب سنًّا أكبر من هذه السن، وإنما الأنسب لها أن يكون شاغلها في هذه السن، فقد كان يعمل مبيّضًا، أي ناسخًا يكتب بيديه صورة جديدة منمّقة من المسودات المكتوبة بأيدي أنصاف الأميين، ويتولى تحرير هذه المواد في الصيغة الرسمية المتسقة مع النظام، وكان من الطبيعي أن تسند إليه أيضا المسؤولية عن السجلات، وبذلك كُلّف بقيد الخلاصات ثم بأن يؤدي وظيفة الكاتب في ديوان الوثائق حيث يسجل ما هو موجود في دفاتر السجلات الكبيرة.
إيجابيات مصطفى رياض باشا
لنا أن نقول إن إيجابيات رياض باشا كثيرة ، ويمكن لنا أن نعدد منها ما يأتي:
التعليم الوطني
أولاً: اهتمامه بمؤسسة وطنية تتولى التعليم المصري الحديث، ومع أن علي مبارك معروف بأنه أبو التعليم، فإن الذي بدأ الخيط هو رياض باشا إذ استعان بالخبير السويسري دروبك لتنظيم التعليم ثم كان هو الذي مكّن لعلي مبارك أن يؤدي دوره العظيم، وقد كان من الهمة والذكاء بحيث فرض القوانين الحكومية على المدارس الأجنبية والوطنية على حد سواء.
مجده في دار الكتب القومية
ثانياً: إنشاؤه دار الكتب القومية وضمان تمويلها الدائم عن طريق وقف خصصه لها، يتكون من 18 ألف فدان من أجود الأراضي الزراعية يخصص إيراده كله للإنفاق على دار الكتب.
تمكينه للأفغاني ومحمد عبده
ثالثاً: موقفه من استحضار أو استيفاد أو الترحيب بجمال الدين الأفغاني بكل ما كان الأفغاني يمثله من دعوة إلى النهضة والتحرر والتنوير والإصلاح، فقد تكفل بحمايته وبالإنفاق عليه براتب شهري، ثم بتمكين تلاميذه وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده (وعدد من تلاميذ الأفغاني الآخرين ) من مواقع التأثير، كما أنه هو الذي تمكن من الحصول على العفو عن كثير ممن كانت الاتهامات دانتهم في الثورة العرابية التي كانت تعامل على أنها خيانة. ومن الإنصاف في هذا المقام أن نذكر أن مصطفى رياض باشا كان رجلا كبيرًا إذ إن الثورة كانت تنادي بإقالته ونجحت في ذلك لكنه في ما بعد لم يجنح لعداء العرابيين والحقد عليهم مثل الساسة الآخرين.
إعادة تنظيم المالية المصرية
رابعاً: جهده الجبار في إعادة تنظيم المالية المصرية بعد عزل الخديو إسماعيل وتولي الخديو توفيق، وكانت الأحوال المالية قد اضطربت كما تضطرب الماليّات في مثل هذه الظروف، ولولا وجود كفاءة من طرازه رئيسا للمجلس الحبسي في موقعه الحاسم والحصري، رئيسا للنظار وناظرًا للمالية والداخلية معا في وزارته الأولى (سبتمبر/أيلول 1879-سبتمبر/أيلول 1881) ما أمكن للدولة أن تستمر إلا بإعلان الإفلاس، وبذلك حمى الاستقلال الوطني إلى أن ضيعه الخديو توفيق نفسه مع هزيمة العرابيين الذين يشاركون الخديوي توفيق مسؤوليته.
معارضة البريطانيين
خامساً: نجاحه في معارضة البريطانيين وفرملتهم وتقليل سيطرتهم المتوغلة على أجهزة الدولة عقب الاحتلال عام 1882، وهو هنا يتفوق على مصطفى باشا فهمي .
الإعلام والثقافة
سادساً: اهتمامه الفذّ بالإعلام الوطني بدءا من تحويله الوقائع المصرية إلى جريدة يومية بعد أن كانت مرتين في الأسبوع، ومساندته في إنشاء صحيفة المؤيد للشيخ علي يوسف ولولاها لظلّت الصحافة استثمارا أجنبيا، إذ كانوا يصفونها بأنها سورية إنجليزية أو سورية فرنسية. ويتصل بهذا اهتمامه الفائق بتشجيع الإنتاج الفكري والجهود الرائدة كدائرة المعارف والمشروعات المبكرة للمعاجم وإحياء التراث .
سعيه إلى تشكّل طبقة متوسطة مصرية
سابعاً: قدرته في وزارته الأخيرة (يناير/كانون الثاني 1893-أبريل/نيسان 1894) على مراعاة البعد الاجتماعي، والعمل على تشجيع تشكّل طبقة متوسطة مصرية، وذلك بتخفيض الضرائب وإطلاق المزايا والأجور.
إنشاء المحاكم والسكة الحديد
ثامناً: مساندته حركة إنشاء المحاكم الأهلية والشرعية في مقابل طغيان المحاكم المختلطة. وكذلك دوره التنموي في مدّ خطوط السكك الحديدية.
مع الزمن أصبح الأول بروتوكوليا ومعنويا
أصبح رياض باشا بمنزلة الرجل الوطني الأكبر في مصر، قبل ثورة 1919، بروتوكوليا ومعنويا، ولهذا فإنه وقع عليه الاختيار ليرأس المؤتمر الإسلامي الذي عقد عام 1910 (ردًّا على المؤتمر القبطي)، ولذلك فإن الكتابات الغربية تحاول أن تشوّه صورته بكل ما يمكن، وتحرص أن تتيح للمسلمين أنفسهم ما يشوهون به صورته، فتجد العسكريين الذين كتبوا التاريخ في عهدهم يركزون على مطلب عرابي بإقالة رياض باشا مع أنه استقال (مبكرًا في سبتمبر/أيلول 1881)، ولا يذكر هؤلاء جميعا له مواقفه الوطنية الإصلاحية ولا التنويرية ولا الاجتماعية ولا السيادية في نزاع الخديو إسماعيل مع كرومر و كتشنر، وبالطبع فإن الخديو عباس حلمي لم يكن قادرًا على الوفاء له بما يستحق من التكريم والتقدير.
وفاته
توفي مصطفى رياض باشا في 18 يونيو/حزيران 1911، في عهد وزارة محمد سعيد باشا عن 77 عامًا، وذلك بعد أن توفي راغب باشا عام 1885، وشريف باشا عام 1887، ونوبار باشا عام 1899، والبارودي باشا عام 1904، وبطرس غالي باشا (فبراير/شباط 1910)، وحسين فخري باشا (23 ديسمبر/كانون الأول 1910). أما مصطفى فهمي باشا فهو رئيس الوزراء الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد مصطفى رياض باشا، وقد توفي بعده في 13 سبتمبر/أيلول 1914.