ببساطة شديدة شهدت ميزانية الدولة العثمانية أكبر اضطراباتها على مدى تاريخها، وذلك بسبب حرب القرم 1853- 1856، ولم يكن للعثمانيين ولا لنظرائهم من الأوربيين عهد بمثل هذه الاضطرابات حتى ذلك الحين، فقد كانت الحروب -في ذلك الوقت- تسفر عن أوضاع يمكن وصفها بأنها حدية، أي أنها تسفر عن نصر مصحوب بمكاسب أو خسارة مصحوبة بإفلاس، لكن أولى الحروب التي كان النصر فيها مصحوبا بشبه إفلاس هي حرب القرم، وهو ما تكرر بعد ذلك بصورة أعنف في عدة حروب، كانت أبرزها الحرب العالمية الثانية التي خرجت الدول المنتصرة فيها وهي تعاني أشد المعاناة من نزيف الخسائر المادية التي لم تنقطع في أثناء الحرب، ثم تزايدت بعدها.
الاندفاع السهل إلى الاقتراض
ومن العجيب أن الدولة العثمانية حين وجدت ميزانيتها تعاني بسبب نفقات الحرب لم تلجأ إلى السبل الكفيلة بجزّ صُوف الأثرياء، وإنما استسهلت أن تلجأ إلى الاقتراض، وكانت البيوت المالية الفرنسية والبريطانية جاهزة تماما بعروض الإقراض على النحو الأكثر شهرة الذي مارسته أيضا بعد سنوات قليلة مع الخديوي إسماعيل (1830- 1895) الذي كان مسرفا أشد الإسراف في الاعتماد على القروض، لتمويل مشروعاته الممتازة وسفهه المفرط على حد سواء.
ومع أن الدولة العثمانية لم تصل في اقتراضها إلى سفه وخطورة ما وصل إليه الخديوي إسماعيل، فإن قروض هذه الدولة -التي كانت قد تعودت إجمالا على الانضباط المحاسبي- سرعان ما ظهرت للعيان بوضوح، وكانت سببا من أسباب ضعف صورتها العامة، ثم سببا من أسباب ضعف قدراتها التفاوضية، ثم سببا من أسباب التقلص في قيمتها الإستراتيجية بين الدول المتناحرة معها.
جوهر الأحقاد والإستراتيجيات في حرب القرم
استمرت حرب القرم ما بين أكتوبر/تشرين الأول 1853 وفبراير/شباط 1856، في حين بدأ بمصر عهد الوالي محمد سعيد باشا في 1854 واستمر حتى 1863، أي أن حرب القرم صادفت السنوات الأولى من عهد الوالي محمد سعيد باشا، ووقفت الدولتان الأوربيتان الكبيرتان بريطانيا وفرنسا وكذلك وقفت مملكة سردينا (التي هي إيطاليا فيما بعد) مع الدولة العثمانية، بينما كانت الإمبراطورية الروسية تقف في مواجهة هؤلاء جميعا، واشتركت دولتان عثمانيتان بجيوشهما المستقلة في هذه الحرب، وهما مصر وتونس، وكان هذا نوعا من التفكير الإستراتيجي للعثمانيين والمصريين والتونسيين على حد سواء، كما كان منبئا عن صعود مشروعات عدة دول إسلامية في وقت متزامن، وإن كان البريطانيون والفرنسيون قد سارعوا قبل مضي 20 عاما باحتلال تونس (عام 1881) ومصر (عام 1882) لإجهاض مشروعي الدولتين الإسلاميتين القويتين البازغتين، وهو ما يؤسف له، حيث نجحتا في هذا الإجهاض.
كيف أشعل القيصر نيقولا الأول حرب القرم
وعلى نحو ما نعرف في تاريخ الحروب فإن هناك “صانع ألعاب” كما في الكرة، وكما في ضربات القلب، وقد كان صانع الألعاب في حرب القرم هو القيصر الروسي الشرير نيقولا الأول (1796 ـ 1855) الذي لم يكن شابا وقت نشوب الحرب، بل كان قد قارب الستين من عمره، لكنه كان يتمتع بقدر كبير من التعصب الديني فضلا عن الغرور الذي تمكن منه بسبب وسامته المفرطة، وقد رُزق بالزواج من الأميرة البروسية شارلوت (1789 ـ 1860) التي تحولت إلى الأرثوذوكسية بسبب زواجها منه، وهكذا كان مطمئنا إلى نوع من التحالف الطبيعي (أو الإصهاري) بين روسيا وبروسيا، وقد عاش نيقولا الأول في ظل شقيقه الأكبر الذي حكم روسيا ما بين 1809 و1825، ثم ورث الحكم عند وفاة الشقيق الأول، حيث تنازل شقيقه الثاني عن حقه في الملك.
كان القيصر الروسي نيقولا الأول قد نجح في القضاء على انقلاب عسكري مكتمل الأركان، وتمكن من السيطرة على روسيا بعد أن تعرض مبكرا لمشروع ثورة شعبية شارك فيها 3 آلاف ضابط شاب مع المواطنين المتطلعين إلى الحرية، وهكذا فإنه بدأ طابع عهده الديكتاتوري منذ عامه الأول إن لم يكن منذ يومه الأول، وأحكم قبضته على بولندا في 1830، وإن كان أعطى بعض الحرية لفنلندا، ويذكر له في المجال الإستراتيجي الحقيقي أنه من بدأ السكك الحديدية في روسيا بين موسكو وسان بطرسبورغ (1851). وقد ألّف نيقولا الأول لنفسه نظرية تقوم دعائمها على توظيف الديانة الأرثوذكسية والقومية الروسية مع الأوتوقراطية، لتكون أركانا ثلاثة لحكم ديكتاتوري قوي لم يسلم من نتائجه أديب عظيم مثل أديب روسيا الأول بوشكين (1799- 1837)، والشاعر الأوكراني شيفتشينكو (1814-1861) الذي تعرض للنفي إلى سيبيريا.
السبب الحقيقي لحرب القرم
انتهج نيقولا الأول سياسة متعصبة شبيهة بسياسة الملكة إيزابيلا تجاه المسلمين واليهود، لكنه بدأ بالكاثوليك في أوكرانيا ولتوانيا وبيلاروسيا، وهدف إلى إجبارهم على التحول إلى الأرثوذكسية، مما خلق حالة من التوتر بينه وبين الكاثوليك الأوربيين، كذلك فقد شهد عصره أكثر درجات التعسف مع اليهود، حتى إنه أجبرهم على الالتحاق بخدمة الجيش، وكانت هذه الخدمة نوعا من أنواع الاستعباد، إذ كانت تستمر لمدة 25 عاما، وكان يستهدف بهذا الإجراء إبعادهم عن المجتمع اليهودي، وهو ما أدى في النهاية إلى اعتناق كثير من اليهود المسيحية. وكان من الطبيعي أن ينتقل صراع هذا القيصر الروسي مع الكاثوليك إلى القدس، حيث كانت الدولة العثمانية قد جاملت الفرنسيين بإعطائهم بعض صلاحيات في القدس، لكن نقولا الأول لم يكن راغبا في استمرارها، وهذا النزاع حول القدس نزاع تقليدي، كانت فرنسا -ولاتزال- توظفه بكثافة (بالرغم من كل دعاوى العلمانية) من أجل أي قدم تضعها في أية منطقة لنهب ثرواتها، وهذا هو السبب الحقيقي لبدء حرب القرم التي لم تنته إلا بعد وفاة نقولا الأول نفسه الذي توفي في مارس/آذار 1855، حيث خلفه ابنه ألكسندر الثاني (1818 ـ 1881) الذي استمر قيصرا لروسيا ما بين مارس/آذار 1855 وحتى اغتياله في 1881 بعد 26 عاما من الحكم.
هزيمة الروس ومفاوضات سيفاستوبول
لجأ ألكسندر الثاني إلى التفاوض بعد هزيمة سيفاستوبول وظهور ضعف الدولة الروسية في مواجهة القوى الستة الأخرى من العثمانيين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والمصريين والتونسيين، ومع أن وقوف دولة واحدة في مواجهة 6 جيوش مما يحسب لنقولا فإن الكراهية المعتادة من المؤرخين الأوربيين ومن تبعهم من المؤرخين العرب تجعلهم جميعا لا ينظرون إلى نقولا إلا نظرة استعلائية، مع أنه من باب الإنصاف القول إنه حقق انتصارات في بداية هذه الحرب، ولم يخسر كثيرا بنهايتها، بل إن هذه الحرب كانت كما نرى سببا في اضطراب موازنة الدولة العثمانية وفي اضطراب عهد نابليون الثالث (1808 ـ 1873) في فرنسا، وهو الذي اضطر إلى ترك الحكم في سبتمبر/أيلول 1870، بعد أن نجح الجيش البروسي في حصار ميتز والانتصار في معركة سيدان، ثم سجن نابليون الثالث نفسه في ألمانيا، ونقل إلى إنجلترا، وبقي فيها حتى توفي بعد عملية جراحية في يناير/كانون الثاني 1873.
مخطط الروس الذي أجهضه البريطانيون
تروي كتب التاريخ التي نشرها المنتصرون أن حرب القرم بدأت باجتماع بين القيصر نقولا الأول والسفير البريطاني في مدينة سان بطرسبورغ، وقد قدّم القيصر فيه عرضا روسيا باقتسام ممتلكات الدولة العثمانية (على نحو ما حدث فيما بعد في سايكس بيكو)، لكن بريطانيا فضلت في ذلك الوقت (حسب ما هو مروي من التاريخ الذي شاركت بريطانيا نفسها في كتابته) أن تُوقِع نقولا الأول في المصيدة، على الرغم من أنه لم يكن يتصور أن يقف المسيحيون ضده في حرب يقودها بنفسه.
وكان نقولا الأول يصدر في تصرفه عن حقد وغدر، ذلك أن العثمانيين كانوا قد أكرموه ومنحوه وضعا متميزا، وهو العبور عبر المضايق التركية -وهو ما لم تكن تسمح به الدولة العثمانية للفرنسيين ولا البريطانيين- إلى البحر الأسود. وعلى طريقتهم البرغماتية المعروفة فإن الفرنسيين فضلوا إعلان المسارعة إلى المشاركة في الحرب مع البريطانيين والعثمانيين، ليكون لهم من الفوز حظ ومن الغنائم نصيب. ومن الجدير بالذكر أن حرب القرم كانت قد بدأت باحتلال رومانيا وأعلنت روسيا أن هذا إجراء ذاتي، لكن هذا لم يكن كافيا لمنع الحرب. وهكذا بدأت الحرب بإعلان احتجاجات الروس على الامتيازات التي منحها السلطان عبد المجيد في عام 1852 للكاثوليك الذين كانت فرنسا حريصة دوما على أن تعلن أنها تمثلهم، ومن ثم أصبحت الدعوى المناقضة التي يرفعها القيصر نقولا هي حقوق الأرثوذوكس، وأن تكون لهم حرية التصرف في مفتاح كنيسة المهد، وما إلى هذا من الحقوق التاريخية للروم الأرثوذوكس من دون إشراك الكاثوليك، لكن بريطانيا (البروتستانتية) لم تشأ أن تقبل بهذا النفوذ الروسي ولا المطالب الروسية، ومع التجاوب العثماني الذي أبداه السلطان مع مطالب الروس فإنهم بدؤوا كالعادة يطالبون بمطالب إضافية من قبيل استقلال الجبل الأسود.