الرئيسية / المكتبة الصحفية / مصانع الحديد والصلب.. والإدارة السياسية الفاشلة!

مصانع الحديد والصلب.. والإدارة السياسية الفاشلة!

أبدأ بقصة فرعية جانبية أشرنا إليها في كتابنا عن السياسة الخارجية في عصر الضباط حين التقى مسؤول سوفياتي كبير بدبلوماسي مصري كبير، وقال له إن حكومة زكريا محيي الدين (1965-1966) بعثت تطلب عوننا (كحكومة وخبرة سوفياتية) في إدارة مصنع الحديد والصلب، وإننا ذهبنا ودرسنا الموقف، لكننا وجدنا ما وجده الخبراء الألمان من قبلنا حين استدعيتموهم لدراسة المشكلة نفسها، فالمشكلة تكمن في قوانينكم المصرية ولا تحتاج خبرة أجنبية.

كانت المشكلة بلغة عصرنا الحاضر هي “عدم الجدية”، والمثل الواضح الذي ضربه المسؤول السوفياتي للمسؤول المصري أن نسبة الغياب إذا وصلت في مصنع سوفياتي إلى 1% استدعى الأمر تحقيقات مع الإدارة ومع النقابة ومع الحزب، بينما كنا في مصر في ذروة الانضباط الناصري نصل بنسبة الغياب إلى 21% بدون أي تحقيق، والسبب معروف وهو أننا لا نريد من العمال إنتاجا وإنما نريد منهم أو من كتلتهم وقوفا في اللحظة المناسبة للتعبير الحماسي عن إيمان تحالف قوى الشعب العاملة بالناصرية وعظمة الناصرية والقومية العربية، فيكفينا هذا من هؤلاء العمال الذين كانوا يتقاضون أجورا منخفضة ويعيشون على الكفاف في مجتمعات لا توفر لهم ما ينبغي من حياة كريمة.

وبناء عليه كما يقول القانونيون فقد جاء السوفيات ليكتبوا تقاريرهم الفنية التي يعرفون أنه لن يؤخذ بها، لكنهم أدوا ما عليهم من واجب استشاري حتى لا يكونوا ممتنعين عن العون.

الأمر لا يخلو من نقط مضيئة

ربما يفاجأ القراء بأن يقرؤوا في هذا المقال أن أفضل ظروف عاشتها شركة الحديد والصلب كانت في عصر الرئيس أنور السادات، وبالطبع فإن قذائف الهجوم الجاهز على عصر الرئيس أنور السادات طائرة وجاهزة ومسيرة في الجو ولا تنتظر الإطلاق.

ولهذا فنحن نسارع بأن نذكر أن السبب لم يكن هو اهتمام الرئيس أنور السادات بالمصنع ولا بالصناعة (مع أن الأمر لا يخلو أيضا من اهتمام جاد وإيمان حقيقي)، لكن السبب الحقيقي للقطة المضيئة في تاريخ الصناعة المصرية في عهد الرئيس أنور السادات يعود إلى دولة المؤسسات وإلى اهتمام مجموعة من المسؤولين الجادين الفاهمين بالبناء على مجهودات أسلافهم ومحاولاتهم الجادة في الإصلاح، خاصة أنهم كانوا من أفضل جيل عرفته مصر.

كان المسؤولون الكبار في عهد الرئيس أنور السادات من الذين لا يقل سنهم عن الـ50، مثلا من مواليد 1920 وما قبلها ومن خريجي الجامعة 1940 وما قبلها، حيث أتيحت لهم في شبابهم الباكر أفضل فرص التعليم والتدريب والابتعاث للخارج وتبادل الخبرات الأجنبية في ظل حكومات وطنية رائعة قبل 1952، وهكذا كان الواحد من هؤلاء يأخذ قرارات شجاعة في ظل ما بدأه عهد السادات من تحرير القطاع العام من تراتبية الاتحاد الاشتراكي القاتلة التي كانت تقول بوجود مؤسسات عامة تتبعها شركات عامة، وتتبع المؤسسات العامة إلى إدارات متعددة في وزارات متعددة، وبلغ انتشار هذا النظام العقيم المعطل إطلاق النكتة الموحية التي تقول إن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه كان يريد من البابا كيرلس أن يسمي الكاتدرائية باسم المؤسسة المصرية العامة للديانة المسيحية وتتبعها شركات لكل ملة من الطوائف المسيحية.

اقتنع الرئيس أنور السادات مرة بعد أخرى بأفكار وقرارات عزيز صدقي ومصطفى خليل وعيسى شاهين وإبراهيم سالم محمدين ومحمود علي حسن وغيرهم من المهندسين الأقوياء، ووافق على تفكيك هذه القبضة البيروقراطية ولأول مرة في عهد 23 يوليو/تموز بدأ رؤساء الشركات -ومنها الحديد والصلب- يحسون بالقدرة على اتخاذ القرار بدلا من انتظار موافقة رئيس المؤسسة المصرية العامة للصناعات المعدنية التي لا بد أن تكون موافقة تحريرية صريحة محددة ترفق بخطاب صادر له رقم وارد.. إلخ.

ولا شك في أنه بالمنطق البيروقراطي كان ما يتجه إليه الرئيس أنور السادات نوعا من الفوضى أو نصف فوضى، وبالمنطق الإنتاجي كان نوعا من النجاح والنجاح الساحق.

فلما جاء عصر الرئيس حسني مبارك حاول بحكم تكوينه العسكري المنضبط أن يتوسط بين الأسلوبين، أسلوب الدولة القابضة والسلطة القوية وأسلوب الحرية ودولة المؤسسات، لكن الزمن لم يكن هو الزمن، وهكذا ضاع كثير جدا مما كان ممكنا أن ينقذ.

في 1991 بدأ أسلوب قطاع الأعمال العام، وسار خطوات ناجحة بفضل ما أنجزه عاطف صدقي قبل تطبيقه من بنية إصلاح اقتصادي، لكن الدكتور الجنزوري بجموده الفكري ومحدودية استشرافه جاء ليعيد أسلوب الحماس الناصري بطريقة أقرب إلى التهريج على نحو ما حدث في توشكى وفيما سميت المشروعات القومية الكبرى، وهكذا كان من حظ “الحديد والصلب” أن تعود إلى الخسارة والتهريج حتى وصل بها الحال إلى ما وصلت إليه في ظل التهريج الجديد المستمر الذي بدأ منذ 1996.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com