محمود سليمان باشا (1837ـ1929 وفي بعض الأقوال إنه ولد 1841) الملقب بعميد الأسرة السليمانية، واحد من أهم وجوه الحياة الوطنية، رزق طول العمر وحسن السمعة، واستطاع أن يتجنب تماما صورة المتعاون مع الإنجليز حين كان هذا التعاون مفروضا بالقوة بعد فشل الثورة العرابية.
يعرف محمود سليمان باشا بأنه الرجل الذي وصفه ابنه محمد محمود باشا رئيس الوزراء الشهير بقوله:
أنا ابن من عُرض عليه الملك فأبى،
وهي رواية وحيدة لا تسندها رواية أخرى أما ابنه الثاني حفني محمود، فكان وزيرا عام 1945 في ائتلاف الدستوريين والسعديين.
نسبه ونشأته
هو محمود باشا سليمان بن عبد العال بن عثمان، وينتهي نسبه إلى قبيلة بني سليم المشهورة في الحجاز، ولد في مركز ساحل سليم، ولمَّا بلغ السابعة من عمره أحضر والده العلماء إلى المنزل، ثم التحق بالأزهر الشريف فدرس فيه بعض الوقت.
صعوده في عهد الخديوي إسماعيل
كان محمود سليمان باشا في عهد الخديوي إسماعيل “وطنيا مسموع الرأي والكلمة”، وفي سنة 1867 عين ناظرا لقسم (أبو تيج) ثم رقي وكيلا لمديرية جرجا ولمديرية أسيوط، ثم استقال وتفرغ لإدارة أرضه.
أعماله الخيرية
أسس محمود باشا سليمان في بلدته مسجدا، ومدرسة صناعية في أبو تيج سميت باسمه، وأوقف عليها مساحة من الأرض.
علاقته بالحكام
زاره في بيته 3 من حكام الأسرة العلوية الخديوي توفيق والخديوي عباس والسلطان حسين كامل أثناء جولاتهم في الصعيد.
دوره في عهد الخديوي توفيق
انتخب محمود سليمان باشا عضوا بمجلس النواب في أول عهد الخديوي توفيق، وكان هو العضو الذي ألقى خطاب العرش؛ لكنه سرعان ما استقال عندما رأى علامات الثورة العرابية، وقد وصف الدكتور هيكل باشا موقفه بقوله “فلما شبت نار الثورة العرابية كان من بعيدي النظر، الذين قدروا ما يمكن أن يصيب البلاد من جرائها، فتنحى عن الاشتراك فيها”.
وصف د. هيكل لتنحيه عن السياسة بعد فشل الثورة العرابية
“تنحى بعد ذلك عن الاشتراك في النظام الذي أعقبها، فمع هذه المكانة الكبيرة التي كانت له، ومع ما أظهر من مقدرة في مجلس النواب الذي سبق الثورة، ومع أنه لم يكن من أنصار الثورة وأعوانها، فإنه لم يرَ بعد فشل الثورة واحتلال الإنجليز لمصر أن يتقدم للعمل العام تحت النظام الجديد، الذي سنه الإنجليز لمصر حين استصدروا من الخديوي قانون مجلس الشورى والجمعية العمومية؛ بل تنحى عن العمل العام وترك القاهرة إلى الصعيد، وعكف على عمله الخاص وعلى البر بالفقراء”.
عودته للسياسة
اعتزل محمود سليمان باشا السياسة من سنة 1883 إلى سنة 1895 حين عين عضوا في مجلس شورى القوانين “وظل كذلك حين أخرجه ظرف محلي خاص من هذه العزلة، وجعله يتقدم لعضوية مجلس الشورى”.
رئاسة حزب الأمة ودوره في عهد الخديوي عباس
اختير محمود سليمان باشا وكيلا لمجلس شورى القوانين، فكانت له فيه مواقف مشرفة. وانتخب رئيسا لحزب الأمة ورئيسا لمجلس إدارة تحرير صحيفة “الجريدة” التي صدرت عام 1907، قبل تأسيس حزب الأمة، وأصبحت لسان حال ذلك الحزب، وهي الصحيفة التي أسس تحريرها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد.
د. هيكل يرى أنه أول من ترأس حزبا ذا برنامج
“وإذا كان للتاريخ أن يذكر السابقين إلى الأحزاب المنظمة، فإن محمود سليمان باشا هو أول من ترأس حزبا ذا برنامج ونظام في مصر، فلقد كانت الأحزاب المصرية إلى يوم تشكيل حزب الأمة تقوم على فكرة الدعوة لعمل واحد معين، فالحزب الوطني أيام عرابي باشا كانت مطالبه محصورة في الدستور وفي التسوية بين المصريين والأتراك من رجال الجيش، والأحزاب والهيئات التي جاءت بعد ذلك كانت تطلب مطلبا واحدا كجلاء إنجلترا عن مصر أو ما هو من ذلك بسبيل، أما حزب الأمة فكان أول الأحزاب التي وضعت لها برنامجا مفصلا يتناول مرافق البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعا، وعلى نهجه سلكت الأحزاب الأخرى بعد ذلك. ولقد تألف حزب الأمة على هذه الصورة في أخريات سنة 1907”.
د. هيكل يصف دوره في وكالة المؤتمر المصري
انتخب محمود سليمان باشا ليكون وكيل المؤتمر المصري، الذي رأسه مصطفى رياض باشا رئيس الوزراء الأسبق لإعادة الألفة بين المسيحيين والأقباط عام 1912، وذلك في مواجهة المؤتمر القبطي الذي انعقد في أسيوط.
تشجيعه السلطان حسين على قبول العرش من الإنجليز
يروي أنصاره أن السلطان حسين استشاره حين عرض عليه الإنجليز عرش مصر، فكان جوابه بقبول السلطنة، فقال له السلطان حسين “ولكني أخشى إذا قبلتها أن يقال إني اغتصبت حق ابن شقيقي في أثناء غيابه”، فقال له محمود سليمان “ولكننا نحن نخشى ما هو أعظم من ذلك نتيجة وأبعد منه أثرا، إنني أخشى أن يفقد الحكم لو ترددتم وتراجعتم، فلا تخرج مقاليده عندئذ من يد ابن شقيقكم فقط، بل يخرج من أيدي أبناء محمد علي كلهم”.
منحه نيشان النيل
بعد تولي السلطان حسين للعرش بفترة قصيرة حرص السلطان حسين كامل على تكريم محمود سليمان باشا، وأنعم عليه بنيشان النيل.
الإنجليز يعتقلونه وهو رئيس للجنة الوفد المركزية في ثورة 1919
انضم محمود سليمان باشا إلى حركة الوفد مع سعد زغلول، وبعد اندلاع أحداث الثورة تولى رئاسة لجنة الوفد المركزية، فاعتقل بقصر النيل، حيث دعي هو وإبراهيم سعيد باشا إلى مركز القيادة العامة البريطانية في فندق “سافوي” لمقابلة القائد العسكري البريطاني العام، الذي أنذرهما بوجوب مغادرة العاصمة إلى مزارعهما، وسرعان ما اعتقلا بثكنات قصر النيل، فأمضيا فيها 3 أيام انضم إليهما في آخرها علي ماهر باشا. وفي اليوم الرابع نقل محمود سليمان إلى “ذهبيته” في النيل بحراسة الجنود البريطانيين، ثم أفرج عنه وسافر لبلده ساحل سليم.
محاولة لجنة ملنر الاتصال به
لما وصلت لجنة ملنر إلى مصر كان من بين أعضائها المستر رود أحد أصدقاء محمود سليمان باشا القدامى، فأرسل إليه يبلغه أنه يرغب في زيارته، فرد عليه محمود سليمان متسائلا إن كان يريد أن يزوره بصفته صديقا قديما له أم بصفته عضوا في لجنة ملنر، فأجابه المستر رود بقوله “إني أبغي زيارة سعادتك كصديق قديم” فأرسل إليه يقول “على الرحب والسعة”.
أول من هنأ سعد زغلول بعودته من منفاه في جبل طارق
ومع اشتداد الخصومة بين الأحرار الدستوريين و”سعد زغلول باشا”، فإن محمود سليمان باشا كان أسبق من أرسل إلى سعد باشا زغلول أثر عودته من منفاه في جبل طارق يهنئه بسلامة مقدمه.
د. هيكل يصف موقفه من الخلاف بين سعد والعدليين
“ولما آن للبلاد أن ينقسم بعضها على بعض، وأن تقوم بين أهلها الفتنة، اعتزل الميدان نهائيا، وإن لم ينس قديم صلاته بأصدقائه سواء منهم من كان في فريقه السياسي أو من كان في فريق مخاصم له، وكذلك كان في هذه كما كان في غيرها عظيما ساميا فوق شهوات الساعة، كبيرا عن أن يتأثر بالأهواء الطارئة”.
من رثاء الشيخ مصطفي عبد الرازق
“كان محمود باشا سليمان، رجلا وجيها في قومه، جمع بين جلال السن وجلال المجد القديم والغنى الموروث، من بيت حُكام إداريين في إقليم الصعيد، في ذلك العهد الذي لم يكن يصل فيه إلى مناصب الحكم من المصريين إلاَّ القليل”.
وفاته
توفي محمود سليمان باشا في ساحل سليم يوم الثلاثاء 23 يناير/كانون الثاني 1929.