تجتمع في شخصية الفريق عزيز المصري (1879-1965) قيم نبيلة متعددة، كما تمثلت فيه قدرات عسكرية وسياسية وإدارية من طراز رفيع، وكانت حياته من بدايتها إلى نهايتها تعبيرا عن الاجتهاد في الجهاد بتوظيف القدرات الفائقة من أجل القيم النبيلة، وقد نجح في كثير من مراحل حياته على حين تحول فشله في المراحل الأخرى إلى وقود لنجاحات أكبر في مرحلة لاحقة من تاريخ أمته. كان عزيز المصري عسكريا متميزا وناجحا، درس العسكرية في المؤسسة العسكرية العثمانية، وأظهر تفوقا مبكرا في دراسته العسكرية، ثم في أدائه كضابط شاب متميز بفضل الثقافة والوعي وسعة الأفق. وكان من الذين انتبهوا إلى أن العسكرية وأداءها صورة من صور الأداء الوطني في المقام الأول والأخير، وذلك مقابل الأغلبية التي كانت تعتبر العسكرية وظيفة روتينية ذات مزايا مادية فقط.
اكتشاف الحقيقة واللجوء إلى العمل السري
لما وجد عزيز المصري وزملاؤه من الضباط العرب أن الاتجاه العنصري قد أخذ يتحكم في زملائهم الأتراك الطورانيين، الذين شاركوهم في تحقيق الانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد، ووجدوا أن جماعة الاتحاد والترقي لا تريد أن تتخلى عن النزعة القومية المعادية للعرب رغم صعود دعوة العروبة ونزعات القومية العربية في مجالات الفكر والأدب، وازدهار مراكز الثقافة العربية في مطلع القرن الـ20 في القاهرة ودمشق وبغداد والقدس وغيرها من عواصم الولايات العثمانية، على حد التعبير المتداول في ذلك الحين. وهكذا وجد عزيز المصري نفسه مرة أخرى يقود مجموعة سرية عربية أخرى تنسحب من الاتحاد والترقي، لتعمل على تحقيق ما كانت تظنه بمثابة أهداف الأمة العربية، التي لم تكن في ذلك الوقت إلا مجموعة من الشعوب “المنظمة” في ولايات عثمانية.
الصلح بين الإمام يحيى وبين الدولة العثمانية
وبحس السياسي الفطري الذكي، فإن عزيز المصري قبِل التكليف العثماني بالتصدي لثورة الإمام يحيى في اليمن، وتمكن بذكاء من أن يعقد الصلح بين الإمام يحيى وبين الدولة العثمانية في 1911، منطلقا من حرصه على تقوية العناصر العربية في أطراف الدولة العثمانية، وعدم تبديد قدراتها ومواردها في مثل هذه الصراعات التي لا يفيد منها أحد.
توظيف قدراته العسكرية من أجل الفكرة العربية
وتكررت تصرفات عزيز المصري، التي يمكن النظر إليها على أنها تعبر عن نجاحه في توظيف قدراته العسكرية من أجل الفكرة العربية حين شارك في الحرب التركية الإيطالية، وأذاق الإيطاليين صورا مضنية ومضيئة من بسالة المقاومة الناجحة، وتمكن، وفق طرحه هو، من توظيف المقاومة الشعبية الليبية والسنوسية في قوات شبه نظامية نجحت مع القوات العسكرية العثمانية في التصدي للقوة العسكرية الإيطالية الجبارة، وهو ما أدى إلى الحفاظ للمقاومة الليبية على زخم الندية في معركة غير متكافئة حتى مع انتهاء الحرب بعقد الحكومة العثمانية اتفاقية صلح مع الإيطاليين في سويسرا عام 1912.
مشاركته مع الشريف حسين في الثورة العربية
وتأتي المرحلة الثالثة من جهاد عزيز المصري متمثلة في اشتراكه الفعال فيما سمي بالثورة العربية، التي قادها الشريف حسين، شريف مكة، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد كان عزيز المصري سندا قويا لهذه الثورة، وقد شارك فيها من موقع قوة سياسية وعسكرية بارزة الملامح، حيث كان زعيما لجمعية العهد، التي أسستها مجموعة من الضباط العرب المقاومين للتمييز التركي ضدهم، ويكفي لتصوير هذا التميز والإحساس العميق به وبضرورة مقاومته أن نذكر أنه في أكتوبر/تشرين الأول 1913 كان 315 ضابطا من مجموع 490 ضابطا عربيا في الجيش العثماني قد انضموا إلى عزيز المصري وجمعيته.
وهكذا ألقي القبض على عزيز المصري في أبريل/نيسان 1914، ووجه إليه الاتهام بأنه يناقض مصلحة الدولة العثمانية ببثه للفكرة العربية بين الأهالي، ونصت الاتهامات صراحة على أنه يسعى إلى إقامة دولة عربية يكون بمثابة الرجل الأول فيها.
وزير للحربية ورئيس لأركان حرب الجيش العربي
وبهذه الخبرة الضخمة، تحالف عزيز المصري مع الشريف حسين، وخاض معه حركته التي انتهت بإعلان الشريف حسين ملكا في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1916، وتشكيله حكومة عربية كان عزيز المصري فيها وزيرا للحربية ورئيسا لأركان حرب الجيش العربي.
عودته لمصر واعتزاله منذ 1917
ومرة أخرى عانى عزيز المصري من الوشايات، التي كان من السهل عليها أن تستغل طبيعة وملامح شخصيته الجبارة في تصويره على نحو ساع للتمرد، ذلك أن إمكانات عزيز المصري كانت تؤهله لأن يكون رجل الدولة الأول لا مجرد وزير دفاع ورئيس أركان. وهكذا وجد عزيز المصري أن من الأفضل له أن يعود إلى مسقط رأسه (القاهرة) في مارس/آذار 1917، حيث بقي طيلة 20 عاما بعيدا عن العمل العسكري والسياسي المباشر، وإن لم يبتعد عما هو أهم من هذا، وهو تربية أجيال عظيمة تشربت منه الوطنية والثورة والعمل العام.
فضل معاهدة 1936
وفي 1937 يتاح لمصر بفضل معاهدة 1936 أن تبدأ في تنظيم قواتها المسلحة، فتلتفت إلى هذا العسكري البارز، الذي كان قد اكتفى بمنصب مدير كلية البوليس، والذي عهد إليه الملك فؤاد بالتربية العسكرية لابنه الملك فاروق.
رئيس أركان حرب الجيش المصري
ويتقلد عزيز المصري منصب رئيس أركان حرب الجيش المصري، وينال رتبة الفريق بعد ما نال رتبتي اللواء والباشوية، ويمارس عزيز المصري مرة أخرى دور الأستاذية والأبوية للدفعات التي قامت بحركة 1952.
قصة هروبه الشهيرة
سرعان ما تأكدت الشكوك البريطانية في مايو/أيار 1941 حين حاول عزيز المصري، وهو فريق متقاعد ورئيس سابق لأركان الحرب الجيش المصري أن يهرب بطائرة حربية مع حسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرؤوف، ليبدؤوا أو ليتموا تعاونا وثيقا مع القوات الألمانية؛ لكن العجلة في الهرب دفعت إلى خطأ فني قاد إلى سقوط الطائرة في قليوب حيث اختفى عزيز المصري.
النحاس باشا يفرج عنه
وظل عزيز المصري هاربا متخفيا في بيت بإمبابة حتى قبض عليه في 4 يونيو/حزيران 1941، حيث أودع المعتقل، وظل فيه حتى أَفرج عنه النحاس باشا في مارس/آذار 1942 في بداية عهد وزارته، التي أعقبت حادث 4 فبراير/شباط؛ ولكن عزيز المصري عاد إلى بث الثورة مما دفع قوات التحالف إلى أن تطلب اعتقاله مرة أخرى.
حرب فلسطين بمثابة المعركة قبل الأخيرة
ثم كانت حرب فلسطين 1948 بمثابة المعركة قبل الأخيرة، التي حظيت بنشاط عزيز المصري وتشجيعه وتخطيطه، حيث بذل جهدا بارزا في تنظيم كتائب المتطوعين في هذه الحرب، وكان معظم هؤلاء المتطوعين من تلاميذه المقربين، الذين اختارهم بنفسه، وشجعهم على الاستقالة من القوات المسلحة النظامية، والانضمام إلى قوات المتطوعين المصريين التي كان لها الفضل في الحفاظ على جزء كبير من أرض فلسطين، والحيلولة دون التهام إسرائيل لأكثر مما التهمته بالفعل.
معارك الفدائيين 1951 الحرب الأخيرة التي أسهم فيها
أما الحرب الأخيرة التي أسهم فيها عزيز المصري، فكانت معارك الفدائيين المصريين في القناة عام 1951، وقد بذل عزيز المصري جهدا جبارا في تنظيم الكتائب المصرية في هذه المقاومة، وكالعهد به في مغامراته المحسوبة الذكية، فقد استغل علاقته بمحافظ القاهرة في ذلك الوقت فؤاد شيرين باشا، واختفى في منزله، وهو المكان الذي لم يكن يدور بخلد السلطات أن تبحث عنه فيه.
سفير لمصر في موسكو
قامت حركة 1952 ورأى رجالها أنه لا بد من الجمع بين تكريمه وتحييده على نحو يحفظ لهم حقوقهم المادية، ويحفظ له حقوقه المعنوية، وهكذا اختير له منصبه سفيرا لمصر في موسكو على أن يرافقه في هذا المنصب رجل يحظى بثقة الثوار الجدد، وكان هذا الرجل هو الدكتور محمد مراد غالب، الذي أزال بما نشره في مذكراته، مؤخرا، الغموض والالتباس حول طبيعة دوره وعلاقته بعزيز المصري.
مقارنة مسيرة حياته بحياة النحاس باشا
ليس من العجيب أن هذا الرجل ولد في العام الذي ولد فيه النحاس باشا (1879)، ومات في العام نفسه الذي مات فيه (1965)، وقد مثلت حياة الرجلين الزعيمين المثل الأعلى لمسارين وطنيين بارزين في الحياة القومية والوطنية، وهما مساران تكاملا ولم يتعارضا، وإن لم يلتقيا أيضا، وقد ظلا يتكاملان حتى وصلت مصر بفضل الممارسات الذكية العاقلة إلى استقلالها الذي اكتمل لأول مرة حين رفع العلم المصري علي طابا بعد معارك مشرفة على المستويات جميعها.