يمثل الأستاذ محب الدين الخطيب 1886-1969 بؤرة بارزة من البؤر المبكرة للوعي بالهوية على المستوى العربي (والمصري على وجه الخصوص)؛ بعناصرها المختلفة عربية وإسلامية وفقهية ومذهبية وفلسفية. والدارسون لتاريخ الإنسانية يعرفون أن أقوى دوافع الوعي بالهوية لا يأتي إلا من محاولة فوقية لإنكارها، ولهذا فليس عجيبا سماعك أن نابليون كان من الممكن أن يكون إيطاليا لا فرنسيا، وأن هتلر كاد أن يكون نمساويا لا ألمانيا، وأن تشرشل أمكن أن يكون أميركيا لا بريطانيا، وأن السادات كاد أن يكون سودانيا لا مصريا وهكذا.
خاض مبكرا معركة الهوية العربية مع العسكر الأتراك
وفي حالتنا، فإن الأستاذ محب الدين الخطيب، الذي نشأ في بيئة دمشق، التي هي عاصمة للعروبة (أو على الأقل عاصمة كبرى من عواصم العروبة)، حيث ولد ونشأ في العصر الذي كانت السلطة العسكرية الانقلابية في تركيا تريد أن تجعل القومية العربية جزءا من القومية التركية فحسب، متجاهلة أن الإسلام هو الذي يجمع العرب والأتراك. ولهذا فإن الأستاذ محب الدين الخطيب، بحكم أصوله وأصالته، واجه هذه المحاولة بقدر من الحرص على الهوية وإثباتها على نحو لم يكن متاحا في الأجيال التي سبقته، ولا الأجيال التي لحقت به.
وحتى نيسر على القارئ إدراك المعاني التطبيقية لهذه الفكرة، التي نتحدث عنها، فيكفينا أن نذكر أن الصمود الاجتماعي كان يستلزم من ابن العائلة، الذي هو من طبقة محب الدين الخطيب، أن يتأهل بشهادة (جامعية) من إسطنبول، ولكي يصل إلى الدراسة بإسطنبول كان عليه أن يتأهل في التعليم الثانوي بالمدرسة الشهيرة القائمة بهذه المهمة، وهي مدرسة مكتب عنبر.
قصة مدرسة مكتب عنبر
وفي هذه المدرسة الشهيرة كانت كل العلوم تدرس باللغة التركية؛ ليكون الطالب أو الخريج مؤهلا للدراسة مباشرة في الجامعات العثمانية، التي تؤهل للتوظيف العالي في الدولة العثمانية، وهكذا كان مكتب عنبر بمثابة مدرسة تركية تجهيزية لجامعات إسطنبول، وكان التعليم فيها باللغة التركية حتى تعليم اللغة العربية، وهو أمر مفهوم في مثل هذا النوع من التعليم؛ لكن هذا الوضع التربوي غير المتسق مع نفسه؛ رغم اشتراك التركية مع العربية باستخدام الحرف العربي والأبجدية العربية وبكثير من المرادفات، مما كان دافعا لأن يبحث الطالب عن ذاته وهويته في هذا الخضم من المحاولة المبكرة للعولمة.
لا يقف الأمر عند هذا الحد؛ لكننا لا بد أن نقدر مدى الصدمة، التي واجهها طالب عربي يريد أن يدخل إسطنبول منطلقا من روح الانتماء إلى دولة عثمانية تمثل الخلافة الإسلامية، فإذا به يفاجأ بملامح دولة تركية عسكرية، تتنكر لكل هذا الماضي من أجل الانتصار للقومية الطورانية.
محب الدين شاهد مبكر على عصره
نستطيع إذن أن نتصور أثر هذه النشأة على شخصية صاحبها المولود 1886 في الحقبة، التي ولد فيها أنداده من أقطاب الحركة الوطنية الحديثة في سوريا ومصر والعالم العربي كله، الذين ما إن وصلوا إلى سن 30 في 1916، حتى كان عليهم أن يجاهدوا لاستعادة وطنهم وهويتهم واستقلالهم وسط حرب كونية هادرة، تتغير فيها التحالفات والجبهات على نحو مذهل، فإذا العرب الذين هم جزء من الدولة العثمانية يؤدون أكبر دور في تمزيق هذه الدولة، لا لصالح أنفسهم؛ لكن ضد مصلحة أنفسهم، و ليستبدلوا بمن كانوا يشكون منه بصوت مسموع مستعمرا أوربيا مذلا لهم، وأصبح واجبا عليهم بحكم الطبيعة البشرية (وقبل أي تفكير سياسي أو عقيدي) أن يثوروا عليه بأكثر الأدوات جهورية سلاحا وعنفا، وربما لم يجابه جيل من الأجيال العربية مثل هذه الأزمة على مدى تاريخ العرب الطويل، الذي لم يبدأ حقيقة إلا بعد ظهور الإسلام.
البحث عن الجذور والتعصب للهوية
ولوهلة بدت مروعة، اكتشف المثقفون العرب أن ثقافتهم، التي يفخرون بها، لم تقدهم إلا إلى الهاوية من حيث ظنوا أنهم يسلكون سبيل النجاة، وعندئذ بدأ التشخيص يقود بعضهم إلى البحث في الأساسات على نحو ما فعل محب الدين الخطيب. وقد جاهد هذا الرجل كثيرا في طرق متعددة حتى استقام له الطريق، الذي رآه صوابا، فأصبح عروبيا وسلفيا كما أصبح متعصبا لفلسطين ومتعصبا ضد الشيعة.