إذا أردت أن تجد بين رجال الحكم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر شخصا واحداً فقط ينطبق عليه قول الحق جلّ جلاله ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ فإنه المهندس محمد صدقي سليمان (1919 ـ 1996 ) ومن العجيب أن الزمن أوفى لهذا الرجل بحقه من دون أن يسعى اليه. وربما يظن القارئ أننا نريد أن نقول إن أهميته في أنه كان هو الذي تولى رئاسة السد العالي ووزارته و بنائه وهذا صحيح. لكنه ليس كل شيء .
بالتعريف التاريخي الموسوعي فإن المهندس محمد صدقي سليمان هو أول رئيس وزارة في عهد ٢٣ يوليو من غير العسكريين، هذا إذا قصدنا بالعسكرية أن يكون الرجل خريج الحربية فحسب، لكنه كان مهندسا في العسكرية، ولعل الصفة العسكرية هي التي أتت به، بل ربما كانت هذه هي الحقيقة.
إذا قيل إنه المهندس الوحيد الذي وصل إلى رئاسة الوزارة في عهد عبد الناصر فإن من السهل ان يقال إنه قد وصل اليها بالشق العسكري في شخصيته كمهندس عسكري
وبالتعريف التاريخي السردي فإن المهندس محمد صدقي سليمان واحد من اثنين كانا بمثابة أبرز المهندسين العسكريين الذين عملوا مع الثورة ووصلوا في عهدها الى المناصب العليا، والمسؤوليات القيادية، الآخر هو المهندس محمود يونس الذي تولي أمور قناة السويس بعد تأميمها، أما محمد صدقي سليمان فقد وصل الى رئاسة الوزارة، لكن إسهامه الأكثر أهمية هو إشرافه علي بناء السد العالي.
وعلى صعيد ثالث فإنه هو رئيس الوزارة السابق الذي قبل في هدوء أن يتولى وظيفة مدنية رفيعة القيمة في عهد الرئيس أنور السادات ويبقى فيها 8 سنوات حتى وصوله على مشارف عام التقاعد فخرج إلى المعاش قبيل سن الستين في هدوء تام وكأنه موظف كبير فحسب، وهذا مما يضيف إلى قدره الإنساني والنفسي كشخص متزن واثق ذي ثبات انفعالي عال وحكمة بالغة.
وفيما قبل ذلك فإنه كان وهذا غير مشهور أكفأ العسكريين الذين تولوا إدارة مؤسسات اقتصادية حين كان رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة الاقتصادية التي كانت بمثابة القطاع العام كله مجتمعا في مؤسسة واحدة توازي ما قد نعّرفه الآن على أنها الشركة القابضة للقوابض .
إذا قيل إنه المهندس الوحيد الذي وصل إلى رئاسة الوزارة في عهد عبد الناصر فإن من السهل ان يقال إنه قد وصل اليها بالشق العسكري في شخصيته كمهندس عسكري وليس بالشق المدني كمهندس وهذا حقيقي أيضاً بل إنه جاء الى هذا المنصب إرضاء للجيش ولعبد الحكيم عامر بل إن بعض الأدبيات التاريخية تذهب الى التلميح بأنه كان من رجال المشير عبد الحكيم عامر، أو أنه كان أميل الى المشير عامر منه الى عبد الناصر، لكن كل هذا لا يقلل من أنه أصبح رئيسا لمجلس الوزراء بعد أربع سنوات فقط من دخوله هذا المجلس كوزير.
والأهم من هذه الإنجازات الأربع كان أنه هو رجل الدولة الوحيد الذي قال ما لم يقله الدبلوماسيون والسياسيون والعسكريون والتنفيذيون قبيل هزيمة 5 يونيو 1967 وواجه الرئيس جمال عبد الناصر بأن إغلاق المضايق يعني إعلان الحرب، ومما يدل على مدى الجرم السلبي الذي ارتكبه كبار رجال الدولة في مصر في حق وطنهم إذ أن أحداً منهم (وهذا بشهادة الرئيس أنور السادات نفسه) لم يؤيد صدقي سليمان ولا دعمه لأنهم فيما يبدو وجدوا أن واجبهم هو أن يصفقوا للرئيس جمال عبد الناصر لا أن يدعموا صوت العقل الذي مثله صدقي سليمان. وقد أثبت الرئيس السادات نفسه موقف صدقي سليمان في كتابة «البحث عن الذات» مع ما يتضمنه هذا من إثبات أن الرئيس السادات نفسه كان من المذنبين. وعلى الرغم من تنبيه هذا الرجل فإن الأمور تطورت الى ما تطورت اليه من هزيمة 1967.
تبحث لصدقي سليمان عن محطة مترو أو عن شارع كبير تتكرم الدولة عليه بإطلاق اسمه عليه فلا تجد إلا شارعاً متواضعاً في المهندسين وضع اسمه عليه من باب الاضطرار، فلم يهتم أحد بالاسم الجديد وإنما ظل الاسم القديم قائما كما هو.اعلان
وتتأمل فتجد أن الرجل النظيف الشريف العفيف الذي خدم بلاده بكل ما أمكنه دون مَنٍّ أو ادعاء أو حرص على مجد أو على مغنم أو وجاهة، وقد نظر إلى تاريخه مع السياسة على أنه دخلها من باب المصادفة حين دخل القوات المسلحة ثم درس في كلية أركان الحرب فشاء حظه وحظ زميله سمير حلمي أن يكونا من الذين درسوا في الدفعة التي درس فيها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم ، وكان صلاح سالم أول هذه الدفعة رغم أنه أحدث في العسكرية من عبد الحكيم عامر ومن عبد الناصر، واصغر في السن من كل هؤلاء المهندسين العسكريين ، وكان عبد الحكيم عامر هو ثاني هذه الدفعة رغم أنه أحدث في العسكرية من عبد الناصر! وأصغر في السن من كل هؤلاء المهندسين العسكريين.
لماذا لم يحصل صدقي سليمان على اللمعان الذي حصل عليه مصطفى خليل وعزيز صدقي مع انه وصل لرئاسة الوزارة قبلهما
وينبئنا تاريخنا المعاصر أنه لم تكن هناك دفعة من دفعات الدراسات الجامعية أو غير الجامعية، في مرحلة البكالوريوس أو في مرحلة غير البكالوريوس قد شهدت مثل هذه المصادفة التي جمعت كل هؤلاء من ضباط ومهندسين تحت سقف واحد طيلة فترة من فترات النضج المبكر في 1948.
لماذا لم يحصل صدقي سليمان على اللمعان الذي حصل عليه مصطفى خليل وعزيز صدقي مع انه وصل لرئاسة الوزارة قبلهما، الإجابة ببساطة لأنهما توليا المنصب في عهد السادات وهو عهد كان يسمح بلمعان المهندسين والمدنيين والمنتجين بأكثر بكثير جدا مما كان عهد عبد الناصر يسمح بمثل هذا اللمعان.
لماذا لم يستطع صدقي سليمان أن يجعل من السد العالي مدخلاً للتنمية الحقيقية على نحو ما فعل حسب الله الكفراوي وأحمد عز الدين هلال، الإجابة أيضاً تتوقف عند المقارنة بين عهد جمال عبد الناصر بكل ما فيه من إطار صارم تزيده حالة الحرب صرامة وجهامة، وما كان مصاحبا لما يسمى بالتنمية المخططة (التي اختصرت أهدافها ومستهدفاتها بسبب الهزيمة) بينما كان عهد السادات عهد تنمية خصبة وحقيقية وتبشير وانطلاق بعد تحقق الانتصار وتجاوز المحنة.
السؤال الثالث: لماذا لم يكن صدقي سليمان قادراً على أن يحقق ما حققه صنوه المهندس محمود يونس من اللمعان والسمعة العالية (عن حق وعن ضرورة)، والإجابة ببساطة: لأنه بتكوينه كان ريفيا ملتزماً ولم يكن قاهريا قادرا على توظيف المظهرية.
السؤال الرابع لماذا لم يدخل صدقي سليمان إلى مجال الأعمال والبنوك والاقتصاد والمشروعات بعد وصوله إلى سن الستين، وقد كان لا يزال قادراً على كل شيء، الإجابة ببساطة لأنه كان ملتزماً.
بقي أن نسأل السؤال التقليدي وهو لماذا ترك رئاسة الوزارة، والإجابة ببساطة شديدة: لأنه قال الحق والحق وحده، وقد أثبت الزمن في عهد ٢٣ يوليو أن من قال الحق ليس له مكان في السياسة، ومن العجيب أن الدكتورة عائشة راتب في أعقاب مظاهرات 1977 قالت إن من واجب الوزارة التي هي عضوة فيها ان تستقيل، فلم يسمع لها أحد ولم يُسمح لها إلا بأن تقال هي نفسها بدلا من الوزارة. ومع هذا فإنك لا تزال تسمع من يقول إن مصر ينقصها الرجال الأشداء ذوو العزم بينما كان هناك صدقي سليمان وكانت هناك عائشة راتب على سبيل المثال.
وترك المهندس محمد صدقي سليمان الوزارة عند إعادة تشكيلها في نوفمبر 1970 و تولي منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات
ولد المهندس محمد صدقي سليمان في 7 سبتمبر 1919، وتلقي تعليما مدنيا متميزا حتي تخرج في كلية الهندسة (1939)، وبعدها تخرج في كلية أركان الحرب في الدفعة التاسعة التي ضمت القادة: صلاح سالم (أول الدفعة)، وعبد الحكيم عامر (ثاني الدفعة)، وعبد المحسن كامل مرتجي، وجمال عبد الناصر، وزكريا محيي الدين، وثروت عكاشة، وكمال هنري أبادير، ومن المهندسين العسكريين البارزين: محمد صدقي سليمان، وسمير حلمي.
بعد الثورة اختير المهندس محمد صدقي سليمان ليكون سكرتيرا عاما للمجلس الدائم للإنتاج القومي (1954 ـ 1956)، الذي كان يتولاه جمال سالم أقدم أعضاء مجلس قيادة الثورة ، وكان لهذا المجلس (الذي طمس تاريخه كله نكاية في جمال سالم ) دور بارز في صياغة الحياة القومية في ذلك الوقت علي نحو رائع لم يقدر له أن يستمر، ومن خلال هذا المنصب أحاط صدقي سليمان بالخلفيات الفنية عن المشكلات القومية المصرية، والبدائل الممكنة لحلولها.
بعد عامين عين المهندس محمد صدقي سليمان سكرتيرا عاما للجنة التخطيط القومي (1956).
وعين المهندس محمد صدقي سليمان مديرا عاما للمؤسسة الاقتصادية (1961) ، وهي الكيان الذي ضم الشركات التي ضمتها الثورة الى ملكية الدولة، وبلغة عصرنا فان هذ الشركة كانت لمثل الشركة القابضة للشركات القابضة ثم رأس عقب ذلك مؤسسة مواد البناء والحراريات في العام نفسه.
وسرعان أصبح المهندس محمد صدقي سليمان بمثابة أبرز الدعامات المهمة في إدارة بناء السد العالي، وقد اختير وزيرا للسد العالي (1962) في وزارة علي صبري الأولي، وإن لم يكن هو أول وزير للسد العالي، وقد شغل هذا المنصب في ثلاث وزارات متتالية لأربع سنوات (سبتمبر 1962 ـ سبتمبر 1966).
وشغل المهندس محمد صدقي سليمان منصب وزير السد العالي والكهرباء في وزارتي الرئيس عبد الناصر الأخيرتين ( يونيو 1967 ، ومارس 1968 ) بعد ما كان قد وصل الى رياسة الوزارة وشغل هذا المنصب أيضا في أولي وزارات عهد الرئيس السادات وهي وزارة الدكتور محمود فوزي الأولي ( اكتوبر 1970)
وترك المهندس محمد صدقي سليمان الوزارة عند إعادة تشكيلها في نوفمبر 1970 و تولي منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات.
وهكذا عاش المهندس محمد صدقي سليمان معظم عصر السادات رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات إلى أن خلفه في هذا المنصب زميله المهندس سمير حلمي الذي استشهد في حادث اغتيال السادات في أكتوبر 1981.
وفيما بعد تركه منصبه في رياسة الجهاز المركزي للمحاسبات عاش صدقي سليمان حياته في هدوء ولم يعرف عنه ميل لا الى الإعلام والأحاديث الصحفية، ولا الى المجتمعات العامة وما يعتريها من نشاط، وهكذا قدر له أن ينجو من مغرياتها ومن مغباتها علي حد سواء.
في ١٩٩٦ كتبت في رثاء صدقي سليمان مقالا سريعا وفاء بحقه على الوطن، لكن الدكتور إسماعيل صبري عبد الله الذي عمل معه في المؤسسة الاقتصادية كتب مقالا موسعا كان بالطبع أفضل بكثير جدا من مقالي المختصر.
فقد توفي المهندس محمد صدقي سليمان في 28 مارس عام 1996.