نبدأ مقالنا بالفقرة البليغة التي رثا بها الأستاذ الامام محمد عبده ١٨٤٩- ١٩٠٥ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني ( 1838 ـ 1897) حيث قال : «والدي أعطاني حياة يشاركني فيها علي ومحروس، و السيد جمال الدين أعطاني حياة أشارك بها محمدا، وإبراهيم، وموسي، وعيسي صلي الله عليهم وسلم، والأولياء والقديسين. ما رثيته بالشعر، لأنني لست بشاعر، ما رثيته بالنثر لأنني لست الآن بناثر، رثيته بالوجدان والشعور لأنني إنسان أشعر وأفكر».
لا يمكننا البدء بالحديث عن السيد جمال الدين الأفغاني من دون مقدمة مهمة تتعلق بتفكيرنا في تاريخنا، وتأريخنا لتفكيرنا على حد سواء، فمن المعلوم أن الإسلام هو دين العقل، لكن بعض المسلمين المتدينين يرون أن للعقل حدوداً، وهذا صحيح، لكن حدود العقل ليست هي الحدود التي يتصورونها ، وليست هي الحدود التي رسمها المنطق الأرسطي، أو المنطق اليوناني، ولا الفلسفة ولا علم الكلام، وإنما هي حدود متغيرة وقابلة للاتساع مع الزمان ، ومن بديهيات التفكير الديني أن التكليف الإلهي قد تدرج، وأن التشريع الديني نفسه قد تدرج حتى اكتمل بما نزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، لكن هذا لا يعني أن إكمال الدين الذي تحدث به القرآن الكريم ممتنا على العباد بإكمال الدين وإتمام النعمة يقتضي الوقوف بالعقل عند السنة التي نزلت فيها هذه الآية، لكن بعض الذين يسمون أنفسهم سلفيين يجادلون بأن كل ما لم يرد فيه نص فهو بدعة، في الوقت الذي يشرعون فيه معاملاتهم المالية المزدهرة على مبدأ أن كل ما لم يرد فيه نص فهو حلال.
كان من الطبيعي أن يبقى الأفغاني محلا لنقد السلفيين، ولتحفظات السلفيين لأنه كان قادراً على أن يصل بالرأي العام الإسلامي إلى صيغة أخرى لتعامل العقل المسلم مع السلطة، يجعل السلطة العلمية للعالم في حاجة إلى التجديد بدلا من البناء على المكانة التي يكتسبها صاحب الأداء العلمي المتميز (الأستاذ) مع مرور الزمن.
أقوى تهمة يوجهونها إليه أنهم يقولون إنه كان ماسونيا
نتوقف بعد هذه المقدمة القصيرة لنناقش بعض ما أصبح السيد جمال الدين الأفغاني يُرمي به منذ قويت شوكة من يُسمون أنفسهم بالسلفيين، وحتى الآن.
وعلى سبيل المثال فإن أقوى تهمة يوجهونها إليه أنهم يقولون إنه كان ماسونيا، ويقطعون خط الرجعة المعروف فيردفون بأنهم يعرفون أن الماسونية في وقته لم تكن سبة، ثم يردفون مقولة ثانية تقول: إنه بعقله كان من المفترض أن يكتشف سوء ما في الماسونية !!.. هكذا نقرأ دراسات مطولة تتحدث على هذا النحو، وهي دراسات مصنوعة على النمط الشكلي المعروف على أنه بحث علمي! فتنقل الدراسة من تلك الدراسات صفحات عن سيئات الماسونية ثم تدمج السيد جمال الدين الأفغاني في الحديث على هذه الطريقة التي لخصتها في سطرين.
ومع أننا لسنا معنيين في هذا المقام بالحديث عن طبيعة الماسونية ولاعن جودتها أو عن سوء مبتغاها أو هدفها ومع أننا أيضا لسنا معنيين بالحديث الجدلي عن علاقة السيد جمال الدين الأفغاني بها ، فإننا نحب أن ننتقل مباشرة إلى أن نسأل عن الدور الذي لعبه السيد جمال الدين الأفغاني من أجل الماسونية ، وعن أثر هذا الدور وعن بقية هذا الدور، ومما ينبغي أن يؤسف له في تأمل حظ أصحاب الاتهام أننا في الوقت ذاته محظوظون في أننا لا نجد أي أثر حقيقي ولا صناعي لشيء أنجزه أو فعله السيد جمال الدين الأفغاني للماسونية على أي مستوى ، و ينسحب هذا أيضا على تلميذه العظيم الشيخ محمد عبده ، فقد مرت الماسونية التي يتحدثون عنها على مجتمعنا الذي نعرفه جيدا مرور صرعات الأزياء أو السيارات الحديثة التي تنتهي صرعتها بعد سنوات قليلة من دون أن تُصنع في وطننا أو تُعدل في مصانعنا، وبقيت الماسونية في بلادها بعيدة عنا، وبقينا بعيدا عنها إلا من هذه السمات المظهرية التي كانت مفخرة في وقت من الأوقات، ثم أصبحت تهمة، ثم أصبحت شيئا لا هو مفخرة ولا هو تهمة، وإنما أصبحت ذكرى سيئة نستعيذ بالشيطان منها لنظهر وكأننا قد استكملنا الإيمان .
ما هو أثر الماسونية في الإسلام؟ لا شيء، ما هو أثر الماسونية في الإسلام السياسي؟ لا شيء على الإطلاق إلا شيئا واحدا فقط ووحيدا فقط، وهو أن الإمام الشهيد حسن البنا أعجب بمصطلح أستاذية العالم فاستعاره في إحدى الأدبيات فقال المتربصون: اضبط ماسوني! وفيما عدا هذا فالأمر كما قلنا مجهريات مظهرية.
هل لنا أن نتحدث عن طرفة لا ينبغي تأخير إذاعتها ، وهي أن الجناح السلفي من الإخوان (على نحو ما تقسمهم الدراسات الأمريكية الشبيهة بالتقسيمات التي تروج لها مؤسسة راند وشقيقاتها ) ينفون بكل ما يملكون من حنجرة وليس من قلم ما هو معروف ومفهوم ومستقر و مألوف من انتماء الإمام الشهيد حسن البنا لمدرسة الأفغاني ومحمد عبده ، وهم يستخدمون حناجرهم الهادئة في هذا السلوك اقتداء بما يفعله السلفيون العرب من الهجوم الدائم والدائب على هذه المدرسة التي لا يستطيعون ابتلاعها ، و لهذا فإنهم من دون مناسبة يتبنون الاتجاه الذي لا يكتفي بنقد محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني ولا الهجوم عليهما وإنما يحرص على تحقير الرجلين بأقصى ما يمكن من التحقير الذي يجعل من يمارسه أقرب إلى أن يكون تكفيريا
ننتقل بالقارئ نقلة سريعة إلى تأمل السبب الحقيقي في عداوات كثير من الجماعات السلفية للرجلين، وهو سبب بسيط وجهير وواضح وضوح الشمس لا يحتاج إلى جهد كبير لاكتشافه، فالرجلان ثائران والسلفيون المدخليون لا يحبون الثورة حتى لو كانت هذه الثورة ضد العثمانيين الذين لا يحبونهم، وحتى لو كانت هذه الثورة ضد الإيرانيين الذي يعادونهم! أي أن ثورة السيد جمال الدين الأفغاني ضد العثمانيين وضد الإيرانيين لم تجد أية فرصة من فرص “تقاطع المصالح” لتحظى بحب أو تقدير السلفيين السياسيين في جزيرة العرب، وذلك لسبب جوهري هو أنهم مشغولون تماماً بفكرة الطاعة المطلقة لولي الأمر على الطريقة المدخلية.
لويس عوض أعدى أعداء السيد جمال الدين الأفغاني ظل يسقط أمام القراء في كل فقرة يهاجم فيها السيد جمال الدين الأفغاني سقوطاً حراً
ونأتي إلى الأوربيين فإذا بنا أمام آثار هجوم كاسح من الأوربيين المغرضين على السيد جمال الدين الأفغاني، او أمام تجاهل تام من المعتدلين للأفغاني، ونسأل أنفسنا كيف يفعل الأوربيون هذا بمن صوره السلفيون ماسونيا غربيا أوربيا عدواً للإسلام أو جاسوسا للأوربيين ضد الإسلام؟ الإجابة كاشفة عن نفسها بوضوح، وهي أن السيد جمال الدين الأفغاني كان في ثورته رجل حرية حقيقية تتمثل في حرية الإرادة التي دعا إليها الإسلام، وليست حرية الانفصال والتمرد على العثمانيين التي كانت أوربا تبحث عنها بإبرة، وتشجع عليها بكل طريقة..
ومن ناحية أخرى فإن السيد جمال الدين الأفغاني كان رجل ثورة لا على الحاكم وإنما على الأوضاع الخاطئة حتى وإن كان الحاكم جزءاً منها.
ومن ناحية ثالثة فقد كان السيد جمال الدين الأفغاني رجل تقدم والغربيون الاستعماريون لا يشجعون رجل التقدم بعشر معشار ما يشجعون رجل التمرد من أجل التمرد والذي هو أقرب إلى الهدم والتحطيم.
ننتقل إلى العملاء الذين هم عملاء صرحاء أو عملاء مستترون مستخفون بينما هم ينسحقون ويستخذون أمام الغرب وبينما هم أعداء للهوية، حتى إنهم لا يعادون الإسلام كدين بقدر ما يعادونه كهوية، وأبرز هؤلاء هو الدكتور لويس عوض الذي هو أعدى أعداء السيد جمال الدين الأفغاني ، حتى أنه ظل يسقط أمام القراء في كل فقرة يهاجم فيها السيد جمال الدين الأفغاني سقوطاً حراً غير قابل للإنقاذ ، وحتى إنك لا تستطيع أن تتصور أنه بمهارته في الكتابة لم يستطع ستر حقده الطائفي على مناضل وثائر وداعية وعقل عظيم كالسيد جمال الدين الأفغاني .
نأتي إلى أهم سند مؤثر في رأينا وهو رأي أستاذ النقد الأدبي الأشهر الذي كتب النقد بالطريقة التي سميناها من باب الارتباط فحسب بالطريقة السلفية في النقد ، وأسس مدرسة متناثرة الأثر في هذا النقد الذي يؤثر دوما أن يستريب في النوايا ، ويبني على الاسترابة أحكاماً قاطعة تجعلنا ننظر حتى إلى من كتب الجملة لينفي صحتها على أنه كان ولا يزال مخطئاً لأنه كتب ما ينفيه قبل أن ينفيه، ولهذا فإن من الصعب أن نحكم حكما عقليا أو نصوصيا على السيد جمال الدين الأفغاني باستنتاجات استاذنا الدكتور محمد محمد حسين بينما هي في حقيقتها وبحكم محدودية النسيج النقدي الذي تعامل به الدكتور محمد حسين أقرب الى الاستنتاجات القافزة، والاستشهادات المبتورة.
لم يكن من السهل على السيد جمال الدين الأفغاني أن يتوافق مع أوضاع عصره، لأنه لم يكن يفكر في المكسب ولا في الخسارة ولا في الخطوات المرحلية ولا في البناء التراكمي وإنما هو يتحرك من أجل الحركة ويتوقف من أجل الاستعداد للحركة التالية، كان السيد جمال الدين الأفغاني يتصور نفسه شبيها بالطائرات من قبل ان يعرف الانسان الطائرة، وشبيها بالمكوك الفضائي الذي يفقد حياته إذا توقف عن الحركة.
لم يكن هناك نظير تاريخي مبكر للأفغاني، لسبب وحيد هو أن ظروف دول الإسلام في عصر السيد جمال الدين الأفغاني لم تُسبق من قبل على هذا النحو ولم يكن هناك نظير تاريخي متأخر للأفغاني لأنه استطاع أن يؤدي كل الأدوار المطلوبة للنهضة التي عاصرها فهو ثائر مفكر محرر مصمم موحد مجدد منسق مجمع وهو أيضا باختصار شديد ومركز: عالم، حالم، راسم، حاسم، قاسم.
كان من الطبيعي أن يختلف السيد جمال الدين الأفغاني مع الحاكم الجديد الذي ثار على الحاكم الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني نفسه رئيسا لوزرائه، وأن يترك بلاد الأفغان إلى إيران، وكان من الطبيعي أن يختلف مع حاكم إيران، ومع حاكم مصر، ومع الخليفة العثماني، ومع من استضافوه دون عقد أو عهد من البريطانيين والفرنسيين والروس.. وذلك لأن السيد جمال الدين الأفغاني لم يكن في حاجة إلى قفص يحميه، ذلك أنه اختار الحرية.
لم يكن ثائرا علي الدولة العثمانية بالمعني السياسي، وإنما كان يؤيد بقاء الدولة العثمانية لتكون علي الأقل بمثابة حاجز أمام المد الاستعماري
كان من الطبيعي أن يختلف السيد جمال الدين الأفغاني مع تلميذه محمد عبده لأنه كان يعتقد أن جيل تلامذته لا بد أن يكون إلى اليسار منه لا إلى اليمين منه، أي أن يكون الواحد منهم أكثر ثورية وأكثر راديكالية، وأكثر تقدمية، وألا يلجأ مبكراً إلى الحكمة المتمثلة في العناية بالتربية قبل العناية بالثورة.
بعد هذا نستطيع أن نقرر بلا مبالغة أن السيد جمال الدين الأفغاني هو أول شخصية فكرية في العصر الحديث كانت لها دعوة سياسية واضحة الحدود والمعالم، وقد عمل لها بكل ما في وسعه، وارتحل واغترب من أجلها من دولة إلى أخري علي نحو نادر لم يتح لغيره من الغربيين ولا الشرقيين، وجهاده في زمنه يفوق جهاد التنويريين المشاهير من أمثال فولتير في زمنهم في العناء و الغناء على حد سواء.
وقد دعا إلى دعوته بنفسه في لندن وباريس وموسكو وميونيخ، فضلا عن بومباي وكابول وطهران والقاهرة و الآستانة، وقد تفوق في اتصالاته و تواصله علي جهد المفكرين الغربيين في أشد البلاد الأوروبية اتصالا ببعضها.
وقد كان من الطبيعي أن يموت السيد جمال الدين الأفغاني قبل أن يبلغ الستين فقد كان صاحب سلطة معنوية رهيبة حتى انه لما أصدر مجلة العروة الوثقى في باريس تابعها العالم الإسلامي كله.
مثل كل الإصلاحيين المفكرين فقد ظل السيد جمال الدين الأفغاني يحاول التأثير في النخبة السياسية، أي أمراء المسلمين وملوكهم، وكانوا يرحبون به في البداية، لكنهم سرعان ما كانوا ينقلبون عليه لخطورة أفكاره على مستقبلهم السياسي. ومع أن السيد جمال الدين الأفغاني عاش حياته طريد آرائه الإصلاحية، وأفكاره التقدمية، فإن آراءه هذه نشرت اسمه وأثره على نحو لم يتح لغيره.
ارتكزت دعوة السيد جمال الدين الأفغاني على ثنائية واضحة تتمثل في ضرورة تحرر الأمم الإسلامية من الاستعمار والنفوذ الأجنبي، وقيام الجامعة الإسلامية على أسس دستورية.
وارتكز السيد جمال الدين الأفغاني في عمله من أجل دعوته علي إيقاظ المسلمين بالعقلانية المستنيرة، ولم يكن ثائرا علي الدولة العثمانية بالمعني السياسي، وإنما كان يؤيد بقاء الدولة العثمانية لتكون علي الأقل بمثابة حاجز أمام المد الاستعماري الأوربي، فلما ضعفت آماله في بقاء الدولة العثمانية أخذ يناصر فكرة دولة حديثة في مصر على سبيل المثال، ولم يكن من قبيل الصدف أن تركت دعوته آثارها في مصر، وإيران، والحجاز، والهند، و الآستانة.
يعود الفضل إلي الدكتور محمد عمارة، في جمع آثار السيد جمال الدين الأفغاني وترتيبها واستخلاص ما كان منسوبا منها إلي الشيخ محمد عبده ونسبته الصحبة إلي السيد جمال الدين الأفغاني
كان السيد جمال الدين الأفغاني يملك كل مقومات العظمة الفكرية، وقد جمع قدرات عالية من التعبير والتفكير معا، كما جمع قدرات عالية من التنوير والتثوير معا، وكان قادرا على القيادة والإدارة، ولاشك في أن دعوته أثمرت ما لم تثمره غيرها من الدعوات، وأن أستاذيته وشخصيته أثمرتا ما لم يتحقق لأي شخصية أخري تصدت للتدريس والتعليم في العصر الحديث.
ظل السيد جمال الدين الأفغاني قادرا على التعلم طيلة حياته، ويروي أنه تعلم التركية حين سافر إلي اسطنبول، كما يروي أنه وهو في قزوين كان مهتما بدراسة العلوم الطبية، وأنه حاول معرفة أسرار مرض الطاعون الذي أصاب قزوين في تلك الفترة بدراسة جثث ضحايا المرض، لكن والده خاف عليه فانتقل به إلي طهران (1849).
وعلي سبيل المثال أيضا فإن السيد جمال الدين الأفغاني جاء الأزهر وافدا فحوّله إلي معقل ثورة، وفتحول حال القاهرة من حال إلي حال بوجوده ونشاطه، فلما عاش في باريس جعلها، لفترة من الزمن، عاصمة صحفية للعالم الإسلامي من خلال مجلة «العروة الوثقي»، وهكذا كان حاله في كل مكان يحل فيه لبعض الوقت، ولم يتح لأحد أن يسبقه إلي كل هذا، ولم يتح لأحد من تابعيه أن يلحقه في هذا كله.
استمر الجمهور والخاصة معا في الإعجاب بشجاعة السيد جمال الدين الأفغاني وقدراته وإخلاصه وكفاحه الطويل من أجل الحرية والرقي والعدل والكرامة، ولايزال السيد جمال الدين الأفغاني بتاريخه منارة قادرة على ضرب المثل للجهاد السياسي الدائب، والإخلاص للفكرة.
يعود الفضل إلي الدكتور محمد عمارة، بأكثر من غيره، في جمع آثار السيد جمال الدين الأفغاني وترتيبها واستخلاص ما كان منسوبا منها إلي الشيخ محمد عبده ونسبته الصحبة إلي السيد جمال الدين الأفغاني.
وفيما بعد وفاة السيد جمال الدين الأفغاني بما يقرب من قرن من الزمان حاول الدكتور لويس عوض الهجوم عليه وعلى سيرة حياته وتوجهاته مستخدما كل مهاراته في التشويش والتشكيك لكن هذه المحاولة سرعان ما باءت بالفشل،
وقد تصدي الدكتور حسن حنفي لكل دعاوي لويس عوض ففندها على أروع ما يكون حافظا للأفغاني مكانته المرموقة، ومضفيا عليه ما يستحقه من مجد، فات الأولين أن يسبغوه عليه. ومن الحق أن مرور الزمن كان كفيلا بأن يرشدنا إلى نواح أخري من العظمة في شخصية جمال الدين السيد جمال الدين الأفغاني، وهو ما أنجزه الدكتور حسن حنفي بجدارة.
انتهج السيد جمال الدين الأفغاني في سبيل تثوير المصريين كل السبل عن فطرة صائبة
اسمه بالكامل محمد جمال الدين صفتر علي مير رضي الدين محمد الحسيني.
ولد في قرية أسد أداب، إحدى قري خُطة كنر من أعمال كابل في شهر شعبان من عام 1254 هـ، وكانت أسرته صاحبة الإمارة في الإقليم، لكن هذه الإمارة انتزعت منها، وهكذا انتقلت أسرته إلي كابل، وفيها تلقي السيد جمال الدين الأفغاني تعليمه الأول، تحت إشراف والده، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ اللغة العربية.
وفي عام 1848 أي وهو في حوالي العاشرة من عمره، التحق بمدرسة قزوين ومكث بها سنتين، ثم انتقل مع والده إلى طهران، وهناك درس علي أكبر علمائها أقاسيد صادق، ثم سافر في العام نفسه إلى مدينة النجف العراقية ودرس فيها التفسير والحديث وأصول الفقه والكلام والفلسفة والمنطق، كما درس أيضا علوم الرياضة والطب والتشريح وعلم الهيئة والنجوم.
في عام 1853 سافر إلى مدينة كلكتا الهندية حيث واصل دراسة بعض العلوم الأوروبية الحديثة، وبعد دراسته في الهند قام بعدة جولات في كثير من المدن في شبه الجزيرة الهندية.
ثم استقر في كابل التي كان يشتاق إليها بعد أن طردت أسرته منها، وقد استقر بها زمنا واشترك في صراعاتها السياسية معتمدا علي ماضي أسرته من ناحية، وعلى قلمه ولسانه وحجته ونشاطه واقتناع الجماهير به وبأفكاره من ناحية أخري، ووصل فيها إلي منصب الوزير الأول.
وحين هزم أميره رحل إلى الهند فلم يمكث بها سوي شهر واحد فقط، إذ حاصرته حكومتها الإنجليزية ومنعته من لقاء العلماء أو الجماهير.
وارتحل إلي مصر ليبدأ أعلي نقطة في مسار حياته الثورية، ذلك أنه لما دخل القاهرة للمرة الأولي ( 1870) التف حوله عدد كبير من الطلاب الشرقيين الذين يدرسون بالأزهر فشرح لهم كتاب «شرح الإظهار في اللغة العربية».
وبعد 40 يوما سافر إلي الآستانة فدرس اللغة التركية وأتقنها، وبدأ يمارس نشاطا سياسيا وفكريا في عاصمة الخلافة العثمانية حتي حقد عليه رجال السياسة والفكر علي حد سواء، وطُلب منه مغادرة الآستانة فعاد إلي مصر .
كان مجيئ السيد جمال الدين الأفغاني إلي مصر للمرة الثانية ( 23 مارس 1871) أمرا متوقعا، ولا يمكن اعتباره بمعزل عن قدومه الأول ، وأقام فيها ثماني سنوات وعدة أشهر كانت بمثابة أخصب فترات حياته فكرا وسياسة.
وقد اهتدى إلي صحبة السيد جمال الدين الأفغاني كثير من طلبة العلم فدرس لهم في بيته بخان الخليلي الكتب العالمية في فنون الكلام، والحكمة النظرية، طبيعية وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية، وعلم التصوف، وعلم الفقه الإسلامي، بلا جدال فإن أبرز تلاميذ السيد جمال الدين الأفغاني هو الشيخ محمد عبده. وقد لخص المؤرخ العظيم الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفي علاقة الرجلين الفكرية بأن شبههما بأرسطو وأفلاطون، وهو تشبيه عبقري، وإذا كان محمد عبده قد عرف منذ ذاك الحين بأنه أبرز تلاميذ السيد جمال الدين الأفغاني، فإن عددا لا يستهان به من الأدباء والصحفيين قد تلقوا العلم والفكر عنه وانتفعوا بأستاذيته بطريقة مباشرة.
ظل السيد جمال الدين الأفغاني أيضا على عقيدته في ضرورة الإصلاح السياسي، بينما طور تلميذه محمد عبده من توجهه وأصبح أكثر ميلا إلي الإصلاح الاجتماعي، والإصلاح التدريجي عن طريق التعليم، بل خطا في هذا التوجه خطوة أوسع حين قبل التعاون مع الإدارة الإنجليزية المحتلة لمصر في ذلك الوقت، وبسبب هذا حدث ما يمكن وصفه بالافتراق السلمي بين الرجلين، وهو افتراق قاد إلي جفاء واضح، بيد أن الأستاذ محمد عبده نشر أروع مرثية للأستاذ السيد جمال الدين الأفغاني.
من المتداول أن الأستاذ محمد عبده لم يعن بأن ينشر السيرة التي كتبها لحياة أستاذه، بل كان أقرب إلى الحرص على تجاهلها بسبب حرصه على استمرار علاقته الودية مع الإنجليز، لكن هذه السيرة عُرفت وتُدوولت بعد وفاة الأستاذ الإمام وأصبحت المصدر المفضل (والأول) لكتابة تاريخ الأستاذ السيد جمال الدين الأفغاني
كان من هؤلاء أديب إسحق الذي ساعده السيد جمال الدين الأفغاني على إصدار صحيفة «مصر»، كما أنه ساعده هو وسليم نقاش في الحصول على إصدار صحيفة «التجارة» اليومية التي كان تصدر في الإسكندرية، وهو الذي رشح إبراهيم اللقاني لتولي صحيفة «مرآة الشرق» بعد أن تركها سليم العنحوري، وكذلك كان السيد جمال الدين الأفغاني أستاذا للمويلحيين إبراهيم ومحمد، وللزعيم العظيم سعد زغلول.
لم يقف أثر السيد جمال الدين الأفغاني عند الثورة السياسية، وإنما بفضل هذه الجهود استضاءت الحياة المصرية بأنوار العلم الحديث الذي كان لايزال بعيدا عن معقل العلم في الأزهر، على الرغم من جهود رفاعة الطهطاوي في التنوير التي سبقت جهود السيد جمال الدين الأفغاني في التنوير، وهكذا وجدت في مصر على عهده وبفضله فئة مصرية جديدة تمثل نخبة فكرية تحررت عقولها من الجمود.
ساعد السيد جمال الدين الأفغاني في أثناء إقامته في مصر علي تكوين ما عرف باسم الحزب الوطني الحر (السري) الذي كان يناهض الحكم الفردي الاستبدادي، والتدخل الأجنبي، و يدعو إلي الحرية والديمقراطية والدستور، وكان لهذا الحزب دوره الأساسي والجوهري في تمهيد الأرض للثورة العرابية التي كانت بمثابة أولي الحركات التحريرية في عصرها من حيث تأثرها بالفكر الإسلامي الثوري الذي مثله السيد جمال الدين الأفغاني خير تمثيل.
وقد انتهج السيد جمال الدين الأفغاني في سبيل تثوير المصريين كل السبل عن فطرة صائبة، فكان يقدم في دروسه وكلماته نواة الثورة على الأوضاع الخاطئة والفاسدة، وكان يري في النصوص المتاحة بين يديه ضوء الحقيقة الهادي إلي التقدم، وكانت مقالاته وخطبه حماسية نارية، تحظي بالقبول وتدفع إلي تقليدها واقتفاء أثرها، وقد شجع بنفسه كثيرا من الكتاب وساعدهم علي إصدار صحافة حرة.
وكان من الذين أحبوا التدخين ورأوا فيه تنفيسا للعصبية
ظل السيد جمال الدين الأفغاني في أثناء إقامته في مصر يخالط الطبقات الشعبية، ويغشي الأندية والمقاهي التي تغشاها الجماهير، وفي مصر، وليس قبلها، حدث التطور الجوهري في نشاط السيد جمال الدين الأفغاني من أجل دعوته، إذ لم تعد دعوة السيد جمال الدين الأفغاني موجهة للمفكرين والمثقفين وحدهم، لكنه سرعان ما اتجه إلى العامة يخطب فيهم الساعات الطوال مؤثرا فيهم بقوة بلاغته، وأفكاره.
وكان من الذين أحبوا التدخين ورأوا فيه تنفيسا للعصبية، وذلك قبل أن ينظر المجتمع إلى التدخين علي حقيقته المؤذية، وهو أنه عادة مضرة للصحة، وكان السيد جمال الدين الأفغاني كريما في تقديم «السعوط» لضيوفه حتي وصف بأنه كان يقدم الثورة بيد والسعوط باليد الأخرى.
بدأت متاعب السيد جمال الدين الأفغاني مع عهد إسماعيل تتصاعد، حتى إنه اتهم صراحة بأنه اشترك في تدبير حادث لاغتيال الخديو، ومع هذا فقد نمت للأفغاني ومحمد عبده علاقة وثيقة بالخديو توفيق الذي كان لايزال وليا للعهد، فلما تولي الأمر ظن الرجلان أن بوسعهما أن ينهضا لتحقيق أفكارهما السياسية على نطاق أوسع وأعرض، لكن السلطة هي السلطة، فبسبب هذا النشاط الواسع غضب الخديو توفيق (بأمر الانجليز ولا يستغربن أحد من هذا التعبير الصريح) علي السيد جمال الدين الأفغاني وقام بنفيه إلى جزبرة «بومباي» الهندية (1879).
وبعد ثلاث سنوات ترك السيد جمال الدين الأفغاني الهند واتجه إلى باريس (1883)، وفي طريقه نزل ضيفا على المستشرق البريطاني المنصف المحامي بلنت 1840- 1922 الذي صار صديقا له وللشيخ محمد عبده والعرابيين ودافع عنهم وسجل بعض ذكرياتهم، كما سجل ذكرياته عنهم. وكان بلنت هو الذي دعاه إلى لندن لمساعدته في التباحث مع الساسة الإنجليز حول المسألة السودانية والمصرية، لاسيما حول الثورة المهدية المشتعلة، وحول تكوين حلف يضم إنجلترا وتركيا وإيران وأفغانستان، لكن إنجلترا لم ترحب به على نحو ما كان يؤمل.
وعندئذ خطا السيد جمال الدين الأفغاني خطة من التي توصف في السياسة بأنها حادة التقلب، بينما هي بالمنطق نتيجة طبيعية، ذلك أن السيد جمال الدين الأفغاني انطلق منذ ذلك الحين إلى التفكير بطريقة أن عدو العدو صديق، وهكذا فإنه سافر إلى موسكو حيث انضم إلى المنادين بإنشاء حلف تركي روسي ضد إنجلترا.
وفي باريس (التي أصدر فيها مجلته الشهيرة: العروة الوثقى 1884) تحرك الأفغاني بين الجاليات الشرقية لتنشيط روابطها ونواديها، كما أقام علاقات تحالف وتعاون مع المنظمات الاجتماعية والثورية من نقابات، وأحزاب، وجمعيات فرنسية.
أتيح للسيد جمال الدين الأفغاني أن يكتب في الصحافة الفرنسية مدافعا عن العروبة والإسلام، مقاوما للهجمة الاستعمارية، ومن أشهر مقالاته في فترة فرنسا رده علي المستشرق الفرنسي أرنست رينان ١٨٢٣- ١٨٩٢ الذي اتهم الإسلام بمعاداة العلم، وتقييد حرية العلماء، كما اتهم العقل العربي بالقصور، فرد عليه السيد جمال الدين الأفغاني بمحاضرة نشرتها صحيفة «ديبا» الفرنسية 19 مايو 1883، وطبعت في كتيب خاص، وانتزعت احترام رينان للأفغاني واعترافه بتأثيره فيه.
في عام 1886 ترك الأفغاني أوربا كلها إلى الجزيرة العربية فمكث فيها عاما، ثم رحل إلي طهران بدعوة من شاه إيران ناصر الدين، الذي وعده بتنفيذ أهدافه في التجديد والديمقراطية، لكنه سرعان ما أظهر له قدرا كبيرا من الجفاء لتخوفه من عواقب الإصلاح الديمقراطي. وعندئذ غادر الأفغاني طهران إلي موسكو (1887) لتنسيق جهود الحركة الإسلامية مع القيصرية الروسية ضد الاحتلال الإنجليزي في مصر والهند.
ثم سافر السيد جمال الدين الأفغاني إلى ميونيخ بألمانيا وهناك قابل شاه إيران الذي عرض عليه العودة إلى طهران وتعيينه رئيسا للوزراء فوافق بعد إلحاح، لكن الوفاق بينهما لم يدم طويلا لخوف الشاه من الديمقراطية والدستور، وقد أراد أن يحدد إقامة السيد جمال الدين الأفغاني، لكن السيد جمال الدين الأفغاني لجأ للاعتصام بمقام عبد العظيم، ومكث به سبعة أشهر كتب خلالها مقالات عن مثالب الشاه قاصدا تحريض الشعب على خلعه، فطرده الشاه إلي العراق.
إذا كانت الثورة السياسية هي أولي ميادين نشاط السيد جمال الدين الأفغاني، فإن الصحافة هي بلا شك ثاني ميادين نشاط السيد جمال الدين الأفغاني أهمية، وأشهر أعماله فيها إصدار مجلة «العروة الوثقي» التي كانت أفكارها له، على حين كان لتلميذه محمد عبده فضل تحريرها، وقد صدر منها 16 عددا في الفترة من مارس 1884 إلي أكتوبر 1884، وكان هدف هذه المجلة الأساسي محاربة الاحتلال الإنجليزي في مصر والهند والسودان، والعمل علي تحرير الأقطار العربية والإسلامية، و كانت محاولة جريئة رفعت من شأن الفكر السياسي المستنير. وقد نشر الأفغاني مقالات في صحف مصر كان لها دويها، مثل مقاله عن “الحكومات الشرقية”، و”روح البيان في الإنجليز والأفغان”
بفضل السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده تطور أسلوب الكتابة العربية والخطابة خطوات واسعة، ولسنا نشك في أن الترسل في أساليب الكتابة العربية قد بدأ كنتيجة طبيعية لتمثل أسلوب السيد جمال الدين الأفغاني الذي كان معنيا مباشرة بالجوهر، بعيدا عن زخارف القول التي كانت لاتزال سائدة في ذلك العهد.
وفاته
توفي السيد جمال الدين الأفغاني في الآستانة (اسطنبول) 9 مارس 1897، ودفن في هدوء أقرب إلى التجاهل، ثم نقل رفاته بعد أكثر من نصف قرن إلي كابول (1944).