كانت مكانة الدكتور عبد الحليم محمود (1910 ــ 1978) متتوأمة مع مكانة الرئيس أنور السادات ، وقد اكتملت هذه التوأمة في مصر والمجتمعات الدولية بناء عن اقتناع عميق من كليهما بضرورة هذه التوأمة ، فكان هذا الشيخ هو رمز الأزهر وعلمه الخقاق في عصر أنور الذي هو عصر الصحوة الإسلامية والنصر ، وليست المبادلة التي آثرها العنوان أو افتعلها أو أجادها بين اسمي الأنور والأزهر إلا تعبيرا عما كان قائما بالفعل بين الرئيس والشيخ الذي عاش عصره ، ومن المدهش أن اختيار الرئيس أنور السادات لهذا الشيخ العظيم ليكون وزيرا للأوقاف ثم شيخا للجامع الأزهر قد تم بناء على مواصفات محددة تجمع بين ثلاثة نجاحات ساحقة : المكانة العلمية والصلاح وحب الطلاب لأستاذهم، وهكذا كان من المنطقي أن يكون وزير الداخلية واحدا من المكلفين بالبحث عن الشخصية التي تجمع هذه المواصفات الثلاث، ومن المدهش أن الدكتور عبد الحليم محمود فاز بلا منافس تقريبا.
عبد الحليم محمود سرعان ما أصبح بعد سنة وشهرين شيخا للأزهر في مارس 1973 عندما شكل الرئيس أنور السادات الوزارة بنفسه
إذا أراد القارئ أن يعرف من هو سلف الدكتور عبد الحليم محمود في منصب وزير الأوقاف فإن بوسعه أن يعرف ان هذا السلف كان عضوا في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين (إذ لم يكن الرئيس عبد الناصر يطمئن في مثل هذه الحالة الا للإخوان المسلمين ) وهو الدكتور عبد العزيز كامل الذي دخل الوزارة أولا كنائب لوزير الأوقاف في مارس 1968 وكان وزير الأوقاف هو نائب الرئيس حسين الشافعي وفي أكتوبر 1968 أصبح عبد العزيز كامل وزيراً للأوقاف مع تفرغ حسين الشافعي لعضوية اللجنة التنفيذية العليا وبقي كذلك حتى خلفه الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود في يناير 1972.
هذه هي الحقيقة التاريخية أثبتها على نحو ما حدثت واتركها للقارئ والباحثين والمفكرين أيضا ليفسروها حسب أهوائهم المعروفة، فمن الممكن لأعداء الإخوان المسلمين والمأجورين على عداوتهم أن يقولوا إن الرئيس أنور السادات كان مصيبا بترك أستاذ الجغرافيا وعضو مكتب الإرشاد والعودة خطوتين للوراء لتكون وزارة الأوقاف طيلة عهده من حظ المشايخ أو العلماء الأزهريين، ومن الممكن أيضا لأعداء الرئيس أنور السادات و المأجورين على عداوتهم له أن يقولوا إن الرئيس أنور السادات ترك الشخصية المدنية المستنيرة التي يمثلها أستاذ الجفرافيا، وعاد أدراجه إلى الرجعية المتمثلة في العمامة التي لا تزال تسبب لهم حساسية متجددة .
لهذه القصة بقية لا تسعد هؤلاء ولا أولئك وتجعل كل استنتاجاتهم أقرب إلى التجديف ذلك أن الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود سرعان ما أصبح بعد سنة وشهرين شيخا للأزهر في مارس 1973 عندما شكل الرئيس أنور السادات الوزارة بنفسه، وعاد الدكتور عبد العزيز كامل ليخلفه في وزارة الأوقاف [فقط] ، مع حدوث تطوير أروع وهو أن الشيخ عبد العزيز عيسى زميل دفعة الدكتور عبد الحليم محمود وأول هذه الدفعة في التخرج ووكيل الأزهر الشريف في ذلك اليوم دخل الوزارة وزيراً لشؤون الأزهر، وليس للأوقاف وشؤون الأزهر كما كان العهد في الجمع بين المنصبين. وهكذا لا تنقضي طرائف التاريخ التي لم يسجلها أحد من قبل على نحو ما أرويها اليوم فها هو الرئيس أنور السادات في إطار استعداده لحرب أكتوبر 1973 يدخل الحرب بشيخين كبيرين أو بعمامتين كبيرتين هما الدكتور عبد الحليم محمود في منصب شيخ الأزهر والشيخ عبد العزيز عيسى عضوا في مجلس الوزراء ، في منصب وزير شؤون الأزهر بينما عاد الوزير (الاخواني) المخضرم عبد العزيز كامل وقد أصبح (الآن) من الوزراء القدامى ليتولى الأوقاف فحسب، لكنه يمثل قناة اتصال يريدها الرئيس أنور السادات مع دول وهيئات لم يحن الأمر لأتحدث عنها في سياق الاستطراد.
وهكذا أصبحت واجهة الدولة بعمامتين دخلتا الوزارة لا عمامة واحدة، وهكذا أصبح الرئيس أنور السادات بهذين الشيخين الجليلين قادراً على مخاطبة المجتمع المصري، بل والمجتمع العالمي كله، بالطابع الذي كان يعتقده هو نفسه كطابع محدد للحرب المجيدة التي قادها وانتصر فيها في ١٩٧٣، والذي لم يكتب له حتى اغتياله أن يصرح به بوضوح كاف، لكن الذين يحللون النصوص ويدرسون الأفعال يستطيعون أن يفهموا الرسالة والرسائل.
مع هذين الشيخين كان هناك شيخ ثالث حتى ذلك الوقت لا يزال أكثر لمعانا منهما وأكثر حضوراً وأعمق تاريخاً وكان لا يزال موجوداً في قمة الحياة العامة من خلال مناصب الصدارة في الدولة الشمولية في ذلك الوقت من قبيل عضوية اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ، ومن خلال مواقع متعددة في مؤسسات المجتمع المدني والتعليمي والشبان المسلمين وهو الشيخ أحمد حسن الباقوري (1907 ــ 1985) ربما تعتري القارئ الدهشة إذا علم أن الشيخ الباقوري تخرج أيضا مع الدكتور عبد الحليم محمود في الدفعة التي كان أولها الشيخ عبد العزيز عيسى (1908 ــ 1995).
لا شك في أن هؤلاء الشيوخ الثلاثة عباقرة، ولا شك في أن نظام التعليم المصري ونظام التعليم الأزهري كان نظاماً عبقريا إذ يسمح بتخرج هؤلاء الثلاثة في دفعة واحدة ومنهم من هو مقيد على أنه مولود في 1907 (ذلك أن الشيخ الباقوري روى أنه لم يولد الا في 1909 لكن أهله أعطوه شهادة ميلاد أخ له ولد قبله بعامين وتوفي) ومن هو مولود في 1908 ومن هو مولود في 1910، كيف حدث هذا؟ نعرف أن أهل الصعيد في ذلك العهد والعهد التالي له كانوا يتخرجون متأخرين بعض الشيء عن أقرانهم في الوجه البحري لأن فرص التعليم الأزهري في الوجه البحري كانت أكثر منها في الوجه القبلي وأقرب منالاً بحيث لا يضطر الطالب إلى التأخر في البداية إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة بدلاً من الثانية عشرة التي هي الحد الأدنى للبدء في دراسة القسم العام الذي أصبح يستغرق بعد نشأة نظام الكليات تسع سنوات تضاف إليها أربع سنوات للدراسة العالية فتكون جملة الدراسات حتى الحصول على الشهادة العالية الجديدة 13 عاماً.
وفي حالة الدكتور عبد الحليم محمود فقد كان ما هو مطلوب منه شبيها بهذا في ذلك الوقت الذي شهد ما يسمى بالقسم العام، لكنه تخرج مبكرا جدا عن أقرانه في السن، ولنذكر على سبيل المثال أن خلفه في وكالة الازهر والمشيخة وهو الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار المولود مثله في1910 لم يتخرج الا في 1939.اعلان
كيف وجد الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود الجرأة في نفسه ليتقدم لهذا الامتحان قبل موعده؟
كان الدكتور عبد الحليم محمود محظوظا بوجود شيخ عظيم لمعهد الزقازيق الديني كان مناظراً للشيخ المراغي والمشايخ الستة الأزهريين الذين تولوا المشيخة الكبرى ما بين 1928 و 1954، ولم يكن يقل عن هؤلاء السبعة نفوذاً بل إنه بمنطق السياسة و الحزبية كان يتميز عليهم بوفديته الصريحة وبمسئوليته الوطنية عن التعليم الديني في مصر بتكليف من الزعيمين سعد زغلول ومصطفى النحاس، هذا الشيخ الزعيم العظيم هو الشيخ إبراهيم الجبالي الذي شجع الدكتور عبد الحليم محمود على الاستفادة من نظام أزهري كان يسمح للنوابغ أو من يُحسون في نفوسهم النبوغ بالتقدم لامتحان الثانوية الأزهرية من الخارج.
وهكذا فإن الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود تقدم لامتحان الثانوية في 1928 بعد سنة أو سنتين من دراسته في المرحلة الثانوية، وهكذا فإنه اختصر ثلاث سنوات أو أربع سنوات من مسيرة أي زميل له لم يكن يقل عنه ذكاء ولا حفظا ولا حيازة لثقة أساتذته. ولولا هذه الخطوة لتخرج الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود فيما بعد 1935 وليس في 1932، ولدخل في نظام الكليات الأزهرية وليس العالمية القديمة.
كيف وجد الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود الجرأة في نفسه ليتقدم لهذا الامتحان قبل موعده، السبب طريف وهو أنه كان بدأ دراسته الأزهرية من الأزهر نفسه في القاهرة وحضر على كبار شيوخه وعلمائه طيلة عامين فلما افتتح معهد الزقازيق انتقل إليه وبزغ نجمه فيه فحصل على الثانوية الأزهرية في 1928 وعاد ليدرس دراسة القسم العالي في القاهرة من جديد.
ولد الدكتور عبد الحليم محمود في قرية دار السلام بمحافظة الشرقية (1910)، وقد كان الرجل منصرفا بطبعه إلى العلم والفقه، وقد ساعده والده على ذلك بالزواج المبكر ونال الشهادة العالمية من الأزهر سنة 1932، وفى العام نفسه سافر الى فرنسا على نفقة والده الخاصة وأخذ في الدراسة بجامعة السوريون.
فيما يبدو لي من قراءة النصوص و الروايات فقد كان الشيخ عبد الحليم محمود مقتنعا تمام الاقتناع بنموذج الشيخ محمد عبده وبأنه لا بد له من أن يؤهل نفسه بما أهل الشيخ محمد عبده نفسه به ولهذا فقد تعلم الفرنسية ولهذا حرص على الدراسة بالسوربون، وإذا بحثت عن أستاذه المباشر من أساتذة الأزهر الذين درسوا في السوربون فإننا لا تجد علاقة تلمذة مباشرة بينه وبين الشيخ مصطفى عبد الرازق، فقد كان الشيخ مصطفى بعيداً عن معاهد الأزهر حين كان الشيخ عبد الحليم محمود طالباً لكنه مع هذا لم يعدم الاتصال به وبآثاره الفكرية لأنه كان على علاقة جيدة بالمجتمع الثقافي، وقد كان يكتب في المجلات الثقافية، بل إنه تولى ترجمة كتاب من الكتب التي نشرتها دار الكتاب المصري التي كان تملكها أسرة هراري اليهودية، كما كان على علاقة جيدة بطه حسين وفي كتابنا ثلاثية التاريخ والسياسة والأدب إشارة إلى هذا كله.
لكن الجديد في الأمر أن الدكتور منيع عبد الحليم روى للأستاذة سناء البيسى أن والده حين عاد في عام 1941 بعد نيله الدكتوراه، التقى على ظهر الباخرة بالأخوة هيرارى الذين عرضوا عليه منصب رئيس تحرير مجلة «الكاتب المصري»، لكنه رفض لعدم توافق اتجاهاته معها، وفيما بعد فقد قبل الدكتور طه حسين هذا العرض وكان الدكتور عبد الحليم محمود ممن نشروا في هذه المؤسسة كما أشرنا.
في فرنسا درس الدكتور عبد الحليم محمود الفلسفة و علم النفس وعلم الاجتماع وتاريخ الاديان ومقارنتها، وحصل في كل مادة من هذه المواد على شهادة عليا من الجامعة، وبهذا استكمل دراسة الدبلومات الأربعة اللازمة للحصول على الليسانس حسب النظام الفرنسي ، ثم درس الدكتوراة في التصوف الإسلامي برسالة بعنوان (أستاذ السائرين : المحاسبى) ونال عنها درجة الامتياز بمرتبة الشرف الأولى عام 1940،
وقد لخص أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي وصف حيرة الشيخ في دراسته للفلسفة قبل ان يستقر على ان يكون تخصصه في التصوف فشبه مساره مع العلم والفلسفة بمسار الامام الغزالي و قدم مبرراته في هذا التشبيه ثم قال : ” ومن هنا كان التصميم التامّ أقوى دعائمه الإصلاحية، وكان النجاح المثمر نتيجة هذا التصميم، لأنه تصميم الموقن الجازم، تصميم المتصوّف، الذي اعتقد أن عمره في هذه الحياة مرحلة محدودة، تُعدّ ابتداء لمرحلة مقبلة غير محدودة، حين يقرأ كتابه عند ربّه، فيجد سجلّه الواعي الدقيق، لا يغادر من كبيرة ولا صغيرة إلّا احصاها! هذا الإيمان الجازم الموقن، هو مفتاح شخصية “عبد الحليم” وبه حالف التوفيق وآزره النجاح.”
ويستشهد أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي على صحة رأيه بما ينقله عن الدكتور عبد الحليم محمود وهو يتابع حديثه عن اتجاهه الصّوفي إذ يقول:
« بعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك هداني الله ـ وله الحمد والمنة ـ إلى موضوع التصوّف الإسلامي، فأعددت رسالة عن (الحارث بن أسد المحاسبي) فوجدت في جوّ “الحارث بن أسد المحاسبي” الهدوء النفسي، والطمأنينة الروحية، هدوء اليقين وطمأنينة الثقة، لقد القى بنفسه في معترك المشاكل، التي يثيرها المبتدعون والمنحرفون، وأخذ يصارع مُناقشا مُجادلاً، وهادياً مرشداً، وانتهيت من دراسة الدكتوراه، وأنا اشعر شعوراً واضحاً بمنهج المسلم في الحياة، وهو منهج الاتباع. لقد كفانا الله ورسوله كل ما أهمّنا من أمر الدين، وبعد أن قرّ هذا المنهج في شعوري، واستيقنته نفسي، أخذت أدعو إليه كاتباً ومُحاضراً، ومُدرساً، ثم أخرجت فيه كتاب (التوحيد الخالص) وما فرحت بظهور كتاب من كتبي، مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب، لأنه خلاصة تجربتي في الحياة الفكرية».
ونعود الى أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي حيث يقول :
“لقد كان التصوف منقذ الإمامين معاً، (يقصد الإمام الغزالي و الشيخ عبد الحليم محمود ) وهو تصوّف عاقل فعّال، لم يكن هروبا من الحياة، بل كان علاجاً لمعضلاتها، لقد كان عبد الحليم محمود لا يفارق الناس إلا عند نومه، ولكنه يزور ويرحل ويجتمع ويناقش، ويدفع إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. والفرق بينه وبين سواه من النظريين، أنه يصدر عن يقين، وينفعل عن عقيدة، وينصح عن إدراك، وقد فهم رسالة المسلم في الحياة، فهم أنه خليفة في الأرض”.
كان الدكتور عبد الحليم محمود من أوائل الذين تخصصوا في تدريس علم النفس في الجامعة
عاد الدكتور عبد الحليم محمود لمصر في ١٩٤١ وعين مدرساً لعلم النفس بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.
في ميدان الدراسات الفلسفية كان الدكتور عبد الحليم محمود من أوائل الذين تخصصوا في تدريس علم النفس في الجامعة، فقد عين بعد عودته من فرنسا كما ذكرنا مدرسا لعلم النفس في كلية اللغة العربية، ويعتبر هذا التعيين بمثابة تفوق بارز للجامعة الأزهرية في تعليم الدراسات الفلسفية التي لم تكن قد عرفت حتى ذلك الحين التفريق بين مدرس الفلسفة ومدرس علم النفس.
ومن الجدير بالذكر أن دراسات علم النفس والمسؤولية عنه في التعليم المصري منذ عهد الاحتلال كانت مرتبطة ببعثات دار العلوم الى الجامعات البريطانية، وهي بعثات كانت تستهدف التربية وعلم النفس معاً أي أن علم النفس كان مرتبطا بالتربية والوظائف التربوية، لا بالفلسفة والمنطق و الاجتماع، ومع أن علم النفس بحكم التقسيم المعرفي مرتبط بالفلسفة فإن دارسي الفلسفة كانوا يفضلون بالطبع أن يكونوا أساتذة في العام لا الخاص، وهكذا كان الأزهر سابقاً بعبد الحليم محمود على بعض الجامعات المصرية.
وبالطبع فإن مثل هذا التاريخ لم يكن يثير انتباه أصحابه وهو يُصنع، لكن الأزهريين بحكم حبهم للعلم وممارستهم لتفريعاته كانوا من الذكاء بحيث أدركوا أهمية وجود مثل هذه “النافذة” لدراسة فلسفية بعيدة عن الجدل والجدل المضاد حول دراسة الفلسفة ومدى مشروعية دراستها في الأزهر الشريف، وهو جدل يستند بالطبع إلى قصر رؤية، لكنه بالطبع و في الواقع يبدو جذابا تماما لمن يتبناه ويصطنع به مشكلة جدلية، بل وأصولية، بل وإيمانية أيضا.
على نحو ما كان الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ثائراً في شبابه وأصدر كتابا ينتقد فيه الأزهر وعلى نحو ما كان الشيخ الباقوري وهو طاب في معهد أسيوط (1926) قد أسس جمعية أسماها جمعية إصلاح فساد الجامعة الأزهرية فإن الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود فعل فعلاً مشابها وغير مشهور حيث كتب مذكرة في 1945 جعل عنوانها “الأزهر في دور الاحتضار” واجتمع مجلس الأزهر الأعلى في 28 يناير 1945 وعرض عليه موضوع المذكرة فتقرر إحالته وإحالتها للتحقيق، ورأس لجنة التحقيق الشيخ عبد الرحمن حسن مدير الأزهر والمعاهد الدينية (وكيل الأزهر فيما بعد) والأستاذ محمد الشافعي اللبان بك مدير قسم القضايا بوزارة الأوقاف والأستاذ سعد الله هاشم مفتش العلوم بالمعاهد الدينية، وانعقدت جلسة التحقيق في 3 مارس 1945 لكنها لم تؤذ الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود بأية عقوبة وإنما حفظت التحقيق كله.
أما أهم وأول عمل قام به عندما تولى أمانة مجمع البحوث الاسلامية فكان تشكليه لجانا لتقنين الشريعة على المذاهب الأربعة
بعد عشر سنوات من عودته من فرنسا وعمله في كلية اللغة العربية نقل الدكتور عبد الحليم محمود الى كلية أصول الدين (مع انتقال التخصص) وبقى فيها حتى أصبح عميداً لها عام 1964، وبعدها بأربع سنوات عين أميناً عاما لمجمع البحوث الإسلامية 1968، ثم وكيلاً للأزهر، وفى عام 1972 عين وزيراً للأوقاف، و فىً عام 1973 عين شيخاً للأزهر. وقد مدت خدمته فى مشيخة الأزهر بعد بلوغه الخامسة والستين مرة بعد أخرى
لم يكن الفارق في تاريخ التأهيل العلمي بين الدكتور محمد البهي 1905- 1982 و الدكتور عبد الحليم محمود 1910-1978 كبيرا ، فقد أتم الأول دراسته للدكتوراه في 1936 وأتم الثاني دراسته للدكتوراه في 1940 ومع أن الدكتور البهي تولى منصب مدير الجامعة الذي لم يتوله الدكتور عبد الحليم محمود ، وسبقه إلى منصب الوزير بتسع سنوات وشهور فإن وصول الدكتور عبد الحليم محمود إلى المواقع العلمية والسياسية العليا التي وصل إليها كان أكثر قوة ونفوذا وبقاء لسبب واحد هو أنه صعد مع العصر المناصر للإسلام والأزهر وليس العصر المعادي لهما، ولهذا فقد تضاءل أثر الدكتور البهي مع الزمن حتى كاد ينمحي بينما انتعش دور عبد الحليم محمود ولا يزال ينتعش وينمو حتى وقتنا هذا، بسبب الحرية في المقام الأول و بسبب آخر بيولوجي الطابع هو أنه هو وعصره ورئيس الدولة في ذلك العصر كانوا يؤمنون بالخصوبة ولا يحاربانها بل كانا يساعدانها بكل ما يملكان من تأثير ونفوذ وذلك في مقابل اعلاء كل من الرئيس عبد الناصر و الدكتور البهي لقيمة الضبط والربط و القيود على قيمة الخصوبة .
يمكن القول بأن الشيخ عبد الحليم محمود هو المؤسس الثاني لمجمع البحوث الإسلامية الذي تأسس في 1961 مع تطوير الأزهر لكنه ظل في. صورة هيئة أكاديمية من دون وضوح دقيق أو مفصل لتكوين الجهاز المعاون لهيئة الأكاديمية، وقد استطاع عبد الحليم محمود أن يؤدي هذا الدور على نحو دقيق فبدأ في تكوين الجهاز الفني والإداري للمجمع من خيار موظفي الأزهر، و عمل على جذب الكفايات العلمية التي تتلاءم مع رسالة المجمع العالمية و بدأ تزويد المجمع بمكتبة علمية ضخمة معتمدا في تكوينها صداقاته وصلاته بكبار المؤلفين والباحثين . وفي عهده بدا عقد المؤتمر السنوي لمجمع البحوث الإسلامية، وتوالى انعقاده بانتظام، كما أقنع المسئولين بتخصيص قطعة أرض فسيحة بمدينة نصر لتضم المجمع وأجهزته العلمية والإدارية.
أما أهم وأول عمل قام به عندما تولى أمانة مجمع البحوث الاسلامية فكان تشكليه لجانا لتقنين الشريعة على المذاهب الأربعة توطئة لعمل تقنين وقد انتهت هذه اللجان من تقنياتها فى المعاملات والحدود لكل مذهب. ومن أهم الأعمال التي أقدم عليها عمله على وضع مشروع دستور إسلامي للحكم و قد كون لجنة لهذا الغرض من كبار العلماء ورجال القانون.
ويذكر التاريخ له أنه كتب رسائل مشهورة إلى كل من المهندس سيد مرعي رئيس مجلس الشعب، وممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء يطالبهما بالإسراع في تطبيق الشريعة الإسلامية
عندما تطورت الدعوة الى تطبيق الشريعة الإسلامية سارع الشيخ عبد الحليم محمود فألّف لجنة علمية لصياغة قوانين الشريعة، وفي مواد محددة لتسهّل مهمة التطبيق، وراجع ما كتب من المواد، ونشره في الصحف، ثم اتصل بأعضاء مجلس الشعب فرداً وراء فرد، ليجمع تكتّلاً إسلاميا ينادي بتطبيق الشريعة، وأخذ يتعجل التطبيق مُلِحاً، وكان يطالع آراء المسئولين في وجوب تطبيق الشريعة فيحشد خلفه، ليظفر بموافقة مجلس الشعب.
ويذكر التاريخ له أنه كتب رسائل مشهورة إلى كل من المهندس سيد مرعي رئيس مجلس الشعب، وممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء يطالبهما بالإسراع في تطبيق الشريعة الإسلامية، ويقول لهما: “لقد آن الأوان لإرواء الأشواق الظامئة في القلوب إلى وضع شريعة الله بيننا في موضعها الصحيح ليبدلنا الله بعسرنا يسرا وبخوفنا أمنا…”.
في دولة العلم والإيمان التي بشربها الرئيس أنور السادات أصبح هناك مكانان موازيان الدكتور عبد الحليم محمود فقد اصبح يضيف إلى ائتمانه على الإدارة ائتمانا من نوع آخر على الإرادة!
وهذا هو الفارق الكبير الذي هيأه الله للدكتور عبد الحليم محمود حين انتقلت إليه قيادة الأزهر في 1973 بعدما بقيت من 1954 وحتى 1973 في يد أربعة من الأعلام من الجيل السابق في مولده على الشيخ عبد الحليم محمود والذين ولدوا في ثلاثة أعوام متتالية 1893 و1894 و1896 وهم عبد الرحمن تاج (1896 ــ 1975) ومحمود شلتوت (1893 ــ 1963) وحسن مأمون (1894 ــ 1973) ومحمد الفحام (1894 ــ 1980). ومن الجدير بالذكر أن اثنين من هؤلاء الأربعة توفيا في عهد الشيخ عبد الحليم محمود.
عاش الدكتور عبد الحليم محمود في الستينات عصرا تميز بوجود دولة شمولية قابضى ينكر جديدها سابقه كما يحدث حين ينكر الاتحاد الاشتراكي كل ماضي الاتحاد القومي، وحين ينكر كل وزير جديد كل ما سبقه من عمل أسلافه.. بينما كانت الطبيعة البشرية والطبيعة الأزهرية تقول بعكس هذا تماماً.
في هذا الوسط، وفي هذه المعركة بين التوجهين (و بين التوجيهين أيضا ) كان الدكتور عبد الحليم محمود نفسه يمثل نموذجا بارزا للتكنوقراطي الملتزم الناجح المحبوب القادر على أن يحقق للنظام (أيا من كان رأس النظام) قبولا وتعاونا من الجماهير التي تخضع لإدارته (أي مهمته كمدير) وليس لإرادته (أي مهمته كأستاذ أو داعية أو مصلح أو مطور) .. ومن دون أن تكون في يدي وثائق أو مراجع أو شهادات فلا شك عندي في أن اسم الدكتور عبد الحليم محمود نفسه كان من الأسماء المتقدمة في انتخابات الوحدة الأساسية بالاتحاد الاشتراكي في كلية أصول الدين أو في جامعة الأزهر وبدون أن تكون في يدي وثائق أو مراجع او شهادات فمن المؤكد أن اسم الدكتور عبد الحليم محمود كان من الأسماء المرشحة ليكون في التنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي العربي .
بدأ الشيخ عبد الحليم محمود وهو وزير للأوقاف سياسة رائعة لم يكن أحد غيره يستطيع أن يهتدي إليها ولا أن يبدأها ولا أن ينظمها، وذلك أنه بمتابعته لأحوال التعليم في مصر وجد أن العجز في المدرسين الأكفاء قد سيطر على المدارس بحيث أصبحت الحاجة ملحة إلى وسائط أو أوعية تعليمية موازية تتخلص من العيوب القاتلة للدروس الخصوصية التي هي بطبيعتها عاجزة عن أن تقدم التعليم للجموع الكبيرة من الطلاب، وهكذا قرر الشيخ عبد الحليم محمود أن يفتح الجوامع والمساجد الكبرى لتدريس المقررات الدراسية في الشهادات العامة عقب صلاة العصر ، وأن يختار لهذا التدريس أكفأ المدرسين المتاحين في التربية والتعليم مقابل مكافأة رمزية.. كنت أنا نفسي واحداً من الذين حضروا هذه الدروس العامة التي كانت تلقى في المساجد ويحضرها ما لا يقل عن 100% من طلاب المدارس، لأنهم يجدون فيها أستاذاً متميزاً غير متاح للجميع في المدرسة (إذ أنه بحكم جدول الحصص يدرس لفصل واحد أو يشغل منصب الناظر أو الوكيل او الموجه فيترك التدريس ) هذا فضلاً عن رحابة جو المسجد وروحانيته، ولم يكن الأمر يكلف وزارة الأوقاف أكثر من سبورة ومكافأة المدرسين المنتدبين، وهي جنيهات معدودة لا تكاد تذكر ، مع مكافأة أيضا لعامل المسجد بمكافأة لا تتعدى جنيهات قليلة.
كان هذا الأسلوب البديع الذكي الحاسم المحترف آية من آيات الذكاء التربوي والسياسي ، وسواء كانت الفكرة فيه للشيخ عبد الحليم محمود نفسه أم لغيره فإنها قد انتعشت على يديه وعلى يد خلفائه الاذكياء ، وان كانت الدولة العميقة قد نجحت فيما بعد في تجميدها بالتدريج و التبريد.
ومع هذا فإن أثر هذه الفكرة لا يكاد يذكر في الدراسات الاجتماعية التي ينبغي أن تدرس درجات وطبائع الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس السادات للبحث في كل الوسائل الكفيلة بعودة المسجد إلى الحياة ، وعودة الحياة إلى المسجد ، وعودة المسجد إلى العلم ، وعودة العلم إلى المسجد ، وعودة التعليم إلى المسجد، وعودة التعليم إلى المسجد..
كان الدكتور عبد الحليم محمود يتمتع بأعلى صفات الأستاذية وهي قدرته الفائقة على معرفة الترابط بين التخصصات الدقيقة من العلوم
كان الدكتور عبد الحليم محمود واعيا كل الوعي للدور الذي أناطه أجدادنا وأسلافنا بالأزهر حين وقفوا عليه كثيرا من أراضيهم ، حتى أصبحت الأوقاف المخصصة للأزهر تمثل ٢٠٪ من أراضي مصر الزراعية ، ولولا هذه الأوقاف لاجتاح مصر كلها الجهل منذ دخلها الاحتلال البريطاني في 1882 حيث كانت سياسة كرومر المعلنة هي عدم السماح بالتعليم على أي مستوى ولم يكن الوعي السياسي يسمح بإدراك خطورة سياسة كرومر المعلنة رغم أنه هو نفسه جاهر بدوافع العداء فيها.. وهنا أكرم الله مصر بالرصيد الاستراتيجي الضخم المتمثل في الأزهر الذي قدم الموارد البشرية من قبل لمحمد علي وجيشه ومدارسه العسكرية والمهنية (الطب والهندسة والصناع) وهكذا قدم الأزهر أيضا الموارد البشرية للمدارس المحدودة التي استطاعت الدولة أن تنشئها في ظل سطوة كرومر الممانعة للتعليم العام والتعليم الجموعي، ومن باب أولى الممانعة للتعليم الجامعي، وهكذا فإن مدارس مثل دار العلوم العليا والإدارة والألسن اعتمدت كل الاعتماد على روافد التعليم الأزهري الذي استطاع الحفاظ على وجوده وحياته بفضل الأوقاف التي وقفها أجدادنا وأساتذتنا على الأزهر والتعليم فيه.
كان الدكتور عبد الحليم محمود قادراً على إدراك جوهر الحقيقة في هذه الجزئية بفضل نورانيته أولا وبفضل عبقريته ثانيا وبفضل تعلمه في فرنسا وانفتاحه على نظام التعليم هناك، وهي الدولة التي تتيح العلم وتبيحه على أوسع نطاق بعيداً عن الشكليات والبيروقراطية والقيود الطبقية والأيدلوجية.
يعود الفضل للشيخ عبد الحليم فى استرداده 70 ألف فدان من أراضي أوقاف الأزهر الذى كان يمتلك يوما خُمس أراضى مصر، أى 20% منها، وكان الشيخ يرد د أن المساس بأراضي الأوقاف حرام فى حرام، لدرجة أنه كان يضرب مثلا بعصفورة تقول لصاحبتها إنها من الممكن أن تخرب بيت القرية المجاورة، وذلك بأن تحمل إليها بمنقارها بعضا من تراب الأرض المغتصبة من الأزهر فتغدو بالمثل أرضا حراما
كان الدكتور عبد الحليم محمود يتمتع بأعلى صفات الأستاذية وهي قدرته الفائقة على معرفة الترابط بين التخصصات الدقيقة من العلوم التي تتصل أستاذيته بها وقدرته على معرفة أولى بالعلم بالجزئيات المختلفة من هذه العلوم، ولا تكاد تجد واحداً من تلاميذ الدكتور عبد الحليم محمود إلا وقد ربطه هذا الأستاذ الجليل بأستاذ آخر من زملائه هو، فهو الذي يدل تلاميذه على المحدث الشيخ التجاني، وهو الذي يدلهم على الدكتور محمود قاسم وكان صديقا له، وعلى الدكتور إبراهيم مدكور وعلى عبد الواحد يحيى.. وهكذا وهكذا. وكان الدكتور عبد الحليم محمود حين يفعل هذا يفتح لتلاميذه آفاق المعرفة الأكاديمية والعلمية على نحو كان يصعب عليهم أن يهتدوا إليه الا بعد سنوات، فلم يكن منطق شبكات المعلومات والتشابك العلمي قد تطور في عصر الشيخ إلى أية درجة من الدرجات الكفيلة بتقديم ما كان يقدمه هو بعقليته الواعية الحافظة المنتبهة.
في مطلع 1978 وبينما أنا أتم بحثي أو كتابي عن الدكتور محمد كامل حسين ١٩٠١-١٩٧٧ وجدت إشارة إلى مقالات له في مجلة الزهراء التي يصدرها معهد الدراسات الإسلامية، كنت أعرف الطريق إلى المعهد في مواجهة نادي الزمالك وبحذاء نادي الترسانة الرياضي، وكانت العافية تدفعني إلى الطيران لا المشي فحسب ، فذهبت لهذا المعهد فإذا بي أفاجأ بمفاجأة لم تكن تخطر على بالي إذ وجدت محاضرتين متتالين للشيخين أحمد حسن الباقوري وهو مدير هذا المعهد ومؤسسه والدكتور عبد الحليم محمود وهو شيخ الأزهر يومذاك حضرت هذه المحاضرة وتلك، وأخبرت الشيخين كلا على حدة أني أنجز بحثا كبيرا أو كتابا عن الدكتور محمد كامل حسين فما كان من الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود بكل مهابته ونورانيته إلا أن رفع هامته برشاقة السعادة ، ثم عاد بظهره للوراء وهو واقف ليقول: يا سلام وهو يتنهد تنهيدة الإعجاب التي لا يصدرها الإنسان إلا في اللحظات القصوى من التعبير عن الانطباع الحسن عن الذكر الحسن ثم أردف إن الذي يُعد مثل هذا البحث أو يكتب مثل هذه السيرة لا بد من أن يكون في مستقبله فيلسوفا وطبييا وأديبا وصالحا، فلما أنهيت إليه أني طالب في كلية الطب، وأني الطالب المثالي لجامعة القاهرة بدا أنه يتذكرني من لقاء سابق ، وأومأ بأنه كان يريد أن يقول هذا أو أن يتذكره ، وأشار بأصبعه التي لا أحب أن اسميها باسمها الشائع ولكني اسميها بالأصبع المسبحة.. ومد يده ليربت على كتفي. أفقت في هذا اللقاء على حقيقة مهمة وهي أنني أصبحت بفضل وفعل لمحة الشيخ الأكبر أمام واجب وليس أمام مجد أبحث عنه فحسب!
اتاحة التأهيل العلمي الواسع بشهادات الدكتوراه في الأزهر لم يبدأ في الحقيقة إلا على يد الدكتور عبد الحليم محمود
كان الدكتور عبد الحليم محمود منتبها بكل ما يمكنه من قوة إلى ضرورة إتاحة الفرصة للأزهريين في الحياة الأكاديمية والجامعية ولهذا فإنه و قد شهد بعيني رأسه بل بكل جوارحه مدى ما وصل اليه تعسف الدكتور محمد البهي وتعنته كان حريصا على اللجوء الى ما هو أكثر من سماحة الشيخ الباقوري وتفتحه ولذلك فإن عهد الحرص على اتاحة التأهيل العلمي الواسع بشهادات الدكتوراه في الأزهر لم يبدأ في الحقيقة إلا على يد الدكتور عبد الحليم محمود، وباختصار شديد فإن الدكتور البهي كان بجمعه بين التزمت الشخصي والتزمت الأزهري والتزمت الألماني كفيلا بوقف نمو الجامعة الأزهرية أما الشيخ أحمد حسن الباقوري بحكم تفوقه العلمي ومعرفته بالمتفوقين من جيله وتلاميذه وبالمجتمع من حوله فقد كان قادراً على أن يسد الثغرات ويستكمل الهياكل ويشغل المواقع ويعطي كل ذي حق حقه، وأن يسترضي العلماء، وأن يشجعهم لكن الدكتور عبد الحليم محمود أضاف إلى إنجاز الباقوري إنجازاً آخر أهم للجامعة وهو إنجاز الخصوبة، وهكذا فإنه انتبه بسرعة إلى السماح بمن حالت ظروفهم وبين إتمامهم لرسائلهم الجامعية في الوقت المحدد بأن يستكملوها، وبالطبع فقد كان معظم هؤلاء مطاردين ومنفيين ومضطهدين ولم يكونوا مهملين ولا عابثين،
يكفي أن أذكر من أسماء هؤلاء اسم الدكتور يوسف القرضاوي الذي لولا التعديلات القانونية التي بدأها الدكتور عبد الحليم محمود ووضعها وقننها ونفذها لكان تسجيله للدكتوراه قد انتهى إلى الإلغاء لا إلى المناقشة والحصول على الدرجة.
ولا ننس ان هؤلاء العلماء الجادين الذين كانوا يمارسون البحث العلمي كانوا كذلك يعانون اشد المعاناة في توفير نفقات البحث العلمي التي كانوا يقتطعونها بالكاد من طعامهم .
كان هذا الجانب النوراني ( ولا نقول المستنير فحسب ) من تفكير الدكتور عبد الحليم محمود يتسق تماماً مع روح عصر الرئيس أنور السادات ومع منطق الرئيس أنور السادات نفسه وفكره ، وهو الذي كان حريصا تماماً على جوهر الخصوبة لتعويض ما اعترى المجتمع من العقم ، فضلا عن حرصهما على إعطاء كل فرصة ممكنة لكل مجتهد، ومن الملاحظ أن الرجلين الدكتور عبد الحليم محمود و الرئيس أنور السادات قد حظيا في بداية حياتهما بالحصول على فرص كثيرة للنجاح واسترجاع الحق أهلتهما للصفاء النفسي القادر على خلق وتشجيع روح هذه الخصوية المجتمعية التي أصبحنا نجني ثمارها منذ عهد هذين الرجلين بصفة دائبة ، ولا نكاد نتصور المجتمع العلمي المصري يعيش من غيرها.
لم يتخلف الدكتور عبد الحليم محمود عن نصرة الرئيس أنور السادات في كلّ مواقفه السياسية وكان نعم السند والظهير
كان الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود مع هذا كله رجل مجتمعات، كان مجاملا إلى أقصى حد، حتى انه كان يحضر بعض حفلات عقد القرآن ويتولى عقد القران بنفسه وكان ينتهز هذه المناسبات لتصحيح المفاهيم و الآراء لإنجاز كثير مما يحتاجه في الأزهر ، ولا شك في أن بعض تبرعات الأهالي لبناء المعاهد الأزهرية وتأسيسها تمت من خلال هذه المجتمعات التي كان المصريون يحرصون من خلالها على أن يذكروا صداقتهم بالشيخ الأكبر ولقاءهم بالشيخ الأكبر وهكذا.
وكان الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود يلبي الدعوات إلى اللقاءات الثقافية والندوات والمحاضرات الجامعية ويفعل هذا باقتصاد شديد فلا يكاد يزيد وجوده في مجتمع من المجتمعات مهما كان شأنه عن ساعة، فقد كانت دراسته للفلسفة ومستوياتها قد علمته تحديد المستويات والنجاة من الاستغراق الذي كان كفيلا بإغراقه لكنه لم يغرق أبداً بل انه لم يغرق مرة واحدة.. بل ظل عائما دائماً.
لم يتخلف الدكتور عبد الحليم محمود عن نصرة الرئيس أنور السادات في كلّ مواقفه السياسية وكان نعم السند والظهير، وكان لقاؤه بالرئيس كارتر على سبيل السلام مضيفا إلى أمجاد العرب والمسلمين غير منتقص منها ذرة واحدة، وحتى إذا لم يعترف كارتر وأمثاله من الزعماء الغربيين بتأثير لقاءاتهم بالشيخ عليهم، فان السبب في عدم الاعتراف مفهوم، لكن التأثير واضح.
لم يكن أداء هذا الدور سهلا فعلى سبيل المثال ، كان الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود يدرك بفضل علمه الأكاديمي والأزهري أن تحالفات الرئيس أنور السادات مع السوريين والسعوديين (قبل حرب أكتوبر) لا ترحب بوجوده هو نفسه وزيراً للأوقاف ولا على رأس مؤسسة الأزهر.. لكنه بذكاء ونورانية شديدة مشى على الشوك دون أن يتألم أو يتأوه أو يعترف، وقد مكنه ذكاؤه أن يجد قاسما مشتركا يسهل لقاءه بالسعوديين، وكان هذا القاسم هو محاربة الشيوعية، وفيما عدا هذا القاسم فإنك لا تستطيع أن تجد المؤسسة الرسمية السعودية بذلت أي جهد في عون الشيخ عبد الحليم محمود، وربما يتعجب القارئ لهذه الفقرة الآن وهو يدور يرأسه ليتأمل فيجد هذه الحقيقة تنطق بما فاته أن ينتبه إليه.
أما علاقته بالبعثيين (في سوريا قبل العراق) فقد كانت وعرة أشد ما تكون الوعورة في ظل ميراث العهد الناصري ، لكنها من ناحية أدبياتها كانت تبدو أسهل منالا عليه من علاقته بالسعوديين فقد كانت دراسته للفلسفة والقومية والبعث والنهضة كفيلة بأن تسعفه بالتعبيرات والتوافقات التي لا تجعل لغيره سيادة عليه ولا على فكره ولا تخلق لهم عداء معه أو مع فكره.
كان الدكتور عبد الحليم محمود على عادة الفرنسيين التي تلبي التعطش للعشوائية قادراً على أن يعرف أن التقسيم المتميز للأزهر إلى كلياته الثلاث تقسيم عبقري لا شك في عبقريته.. لكنه كان يعرف أن حاجة المجتمع إلى الأزهر تتجاوز هذه المنطقية “الإنجليزية” إلى نظام لا يمانع في قدر مما يصفه الملتزمون على انه نوع من أنواع الفوضوية والعشوائية ، حتى إن لم يؤمن بهما، لكنه يعرف أنهما مذهبان مسيطران على الحياة العامة، وهكذا فهم الدكتور عبد الحليم محمود على مبكراً كما فهم الشيخ الباقوري من قبله أن الأزهر في حاجة ملحة وعملية إلى عودة نوع من الدراسة العامة القديمة التي درس كلاهما على غرارها قبل نشأة نظام الكليات، وهي دراسة تقدم تعليما أزهريا ليس ذا طابع محدد كطابع خريجي الشريعة أو الأصول أو اللغة العربية وائما هو أزهري عمومي.. وهكذا تطورت فكرة كلية الدراسة العربية الإسلامية التي بدأها الباقوري من خلال دراسة موازية في الأزهر نفسه ومن خلال معهد الدراسات الإسلامية خارج الأزهر وتشكلت معالم كلية أزهرية جديدة هي كلية الدراسات العربية الإسلامية على يد الدكتور عبد الحليم محمود على نفسه قبل غيره..
وقل مثل هذا في الاتجاه إلى إنشاء كلية خاصة بالدعوة تستوعب مناهج كليات الإعلام دون أن تلزم نفسها بهذا المسمى النفعي او الدنيوي الذي يبدو جارحا للشعور الديني غير مستأنس معه على نحو ما يؤدي لفظ الدعوة ذلك المعنى.
كان الدكتور عبد الحليم محمود بالطبع واعيا لمواصلة النجاح الذي تحقق من قبل في كلية اللغات والترجمة وتوسيع أقسامها، وقدراتها ومن المذهل أن يعرف القارئ أن معظم الذين أسسوا الأقسام اللغوية الجديدة في كلية آداب القاهرة وكليات الآداب في الجامعات المصرية كانوا من مبعوثي وخريجي كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر، وليس هذا سراً، بل هو أمر مشهور، والأزهر بحكم أبوته معطاء لا يمنع الخير عن الجامعة المصرية نفسها التي هي أيضا ابنة من كبريات بناته.
كان الدكتور عبد الحليم محمود واعيا كل الوعي لتوجيه كثير من الاهتمام إلى المرافق الأكاديمية الكبرى من قبيل مكتبة الأزهر، وقد بدأ سياسات ناجحة وواعدة ومثمرة أتيح لها أن تستكمل على يد من اسميه بالمؤسس الثاني لجامعة الازهر وهو الدكتور محمد السعدي فرهود الذي كان يقوم بمثل هذه المهام الحضارية بذكاء وانضباط ودأب حتى أصبحت للجامعة الأزهرية مقومات واضحة وقوية لا تقل عن أي جامعة معاصرة. وفي هذا الاطار أيضا فانه على سبيل المثال عني مبكرا بمكتبة الأزهر الكبرى، ونجح في تخصيص قطعة أرض مجاورة للأزهر لتقام عليها
ومن مظاهر احترام الشيخ الشعراوي له رفضه الجلوس بجواره مفضلا الجلوس أمامه على الأرض حتى في المجالس العام
بلغ من إجلال الرئيس أنور السادات للأزهر والشيخ الدكتور عبد الحليم محمود أنه قام بنفسه بزيارة الشيخ في مكتبه في إدارة الأزهر، ولما بلغ الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود سن التقاعد في 1975 مد الرئيس له سنتين حتى 1977 ثم مد له سنة أخرى حتى 1978 ثم سنة أخرى توفي في أثنائها في الثامنة والستين من عمره.
ومن مظاهر احترام الشيخ الشعراوي له رفضه الجلوس بجواره مفضلا الجلوس أمامه على الأرض حتى في المجالس العامة، ومثال ذلك عندما صمم على تلك الجلسة في مكة أمام أكثر من ثلاثمائة شخص.
ومن المقال الذي رثي له الأستاذ مصطفي أمين الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود نقتطف للقارئ الفقرة التالية:
«عرفت أن المغفور له الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر شجاعا لا يخاف، جريئا لا يتردد. عشت معه كثيرا من أزماته. رأيته يصطدم بالحكومات ويرفض أن يتراجع، ويقول رأيه ولا يهمه إذا أرضي أو أغضب، وكانت له آراء لا أوافق عليها، لكنني كنت أحب فيه أنه لا ينحني ولا ينثني، وكان شديد الاعتزاز كرامته، وكان يقول: إنه قادر أن يتواضع بشخصه، ولكن المركز الديني الذي يشغله لا يستطيع أن يتواضع».
ربما كان دور عبدالحليم محمود فى الازهر أعمق وأبعد ادوار شيوخ الازهر اثراً، وقد اختار هو نفسه هذا الدور ليلعبه حين وضع معظم جهده وهو شيخ للأزهر فى أن يتوسع في التعليم الأزهري العالي وقبل العالي ذلك التوسع الذى لم يشهده الأزهر طيلة الألف عام التي مضت عليه..و هذا كلام لا يحتاج إلى شواهد تثبته، لأنه صار حقيقة ناصعة أمام أعين الناس جميعاً فى كل ركن من ء وطننا الذى تسلم عبدالحليم محمود الأزهر وهو زهرة كبيرة فحوله الى حديقة من الزهور الجميلة القادرة على التجدد.
وصف البرلماني المخضرم الأستاذ نصر عبد الغفور رئيس لجنة التعليم والبحث العلمي في مجلس الشعب جهود الشيخ عبدالحليم محمود في هذا النطاق فقال :
«آمن بالتوسع في المدارس والمعاهد الدينية، وعارضه كثيرون في الأزهر وخارج الأزهر، بدعوى التجديد قبل التوسع وضيق ذات اليد، يد الأزهر، ونقص الموارد المُتاحة، وقلة الأساتذة، وهبوط المستوى، وكانت آخر كلماته في (منشأة سلطان) مركز منوف في افتتاح معهدها الديني: «إن الذين يدعون إلى عدم التوسع مخطئون، فأنا مع التوسّع بلا قيود وحدود، وإذا قصرت الميزانية في تدبير الموارد فلديّ بحمد الله الكثير من إعانات أهل البر والخير، وهم بحمد الله كثيرون، فلا تثبيط للهمم، بل دفع لها، وأردّ عليهم فأقول: إن عدد الذين يتعلمون في المعاهد الأزهرية كلها في جمهورية مصر بما فيها جامعة الأزهر خمسون ألفاً، وفي وزارة التربية والتعليم سبعة ملايين، فأين التوسّع؟ ولماذا التخوّف؟»
وكنا في ذلك الوقت قد بدأنا خطواتنا لندعو الشيخ للقاء بنا في مدرسة المتفوقين ، لكننا فوجئنا في ذات الوقت بحملات منظمة تقوم بها ما كنا نعتبرها أجهزة مسؤولة في الدولة مثل جريدة الأهرام
عقب نصر أكتوبر 1973 كنا نعيش الزهو بالنصر والفرحة بأثر الإيمان واليقين بأننا انتصرنا تحت راية الله أكبر ، وكنا في ذلك الوقت قد بدأنا خطواتنا لندعو الشيخ للقاء بنا في مدرسة المتفوقين ، لكننا فوجئنا في ذات الوقت بحملات منظمة تقوم بها ما كنا نعتبرها أجهزة مسؤولة في الدولة مثل جريدة الأهرام على سبيل المثال من خلال مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في تلك الجريدة.. كانت أبرز هذه الحملات هي التي تسخر من الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود بعمق وتكرار ، ولكن مع الحرص الشديد على تغليف السخرية بأدب ، وذلك لأنه قال شيئاً من قبيل إن الملائكة كانت تحارب مع جنودنا في العاشر من رمضان ( 6 أكتوبر).. كان الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود حريصا على أن يخطب الجمعة التي كانت الإذاعة تنقلها في أثناء الحرب وتلتف الجماهير حوله لتسمع الأنباء المبشرة ، لكن جريدة الأهرام في الوقت نفسه كانت لا تستطيع أن تجاهر بهذا الرأي من خلال صفحاتها فقد كانت الصحافة تخضع للرقابة، وإنما كانت الاهرام تمارس هذه السخرية الواسعة من خلال الندوات واللقاءات والوفود ، وكان من الطبيعي أن تجد من يحدثك أنه التقى فلاناً من الأهرام فوجده في غاية الضيق من أن يصدق الناس مثل هذا الكلام..
كان من حظنا (أنا وزملائي في مدرسة المتفوقين ) أن رزقنا بموافقة واحد من باحثي مركز الاهرام كان في ذلك الوقت يسارياً تماماً منظما (بحكم المصطلح) وكان حين استقبلناه واستمعنا اليه لاذع السخرية عميق الحقد على الشيخ عبد الحليم محمود بشخصه وصفته ، بل لقد كان سخيف اللفظ أيضا ، ولست أجد لفظاً أخف من هذا لوصف ما كان يتكلم به لكنني سعيد بأن أروي أنه انتهي فيما بعد الى ان يكون قريبا جدا من الإسلاميين ، وأن يتحول هو نفسه ليصبح الدكتور عبد الوهاب المسيري .
وختم الشيخ فتواه ” بأن المسلمة لا تحلّ لشيوعي، وأنه إذا مات الشيوعي فلا يُصلّى عليه
في سنة تالية لنصر أكتوبر ١٩٧٣ عشنا تجربة مثيرة في مدرسة المتفوقين ، عاد أحد أساتذة المدرسة من بعثة تعليمية في الاتحاد السوفييتي وكان عليه أن يبحث لنفسه عن وظيفة في إحدى الكليات الجامعية ، وتصادف أن الكلية الوحيدة التي كانت ترحب بالعائدين من هذه البعثات الى الدول الشرقية كانت تابعة لجامعة الازهر التي كانت تشهد اهتماما حثيثا بتقوية أقسامها العلمية على يد الشيخ عبد الحليم محمود نفسه ، لكننا فوجئنا بان الشيخ الواعي دارس الفلسفة و استاذها يقبل العائدين بهذه الشهادات بعد التأكد من قيمة عملهم بشرط جوهري هو أن يعلنوا عن توبتهم عن الشيوعية باعتبارها كفرا ، ومن العجيب أن هؤلاء العائدين كانوا يقولون ان الشيخ محق فيما يفعل لانهم عجنوا بالشيوعية في اثناء دراستهم ، ولم يكن للمعترضين على سياسة الشيخ في هذا الصدد من حجة الا اشارتهم بانه من الجائز ان يكون من بين الملحدين انسان الذي لم يبارح قريته في أقصى الصعيد ، لكن هذا القول لم يتعد نطاق السخرية ذلك أن التوجه الايماني للمجتمع في ذلك الوقت كان عاليا .
وقد كانت شجاعة بالغة من الشيخ عبد الحليم محمود بموقعه و من موقعه أن يجاهر بهذا الرأي في وقت مبكر لكنه كان يجاهر ويقول :«أن الشيوعية كفر، وأن الماركسية هي المادية، وأن المادية تنكر عالم الغيب فلا إله”
وختم الشيخ فتواه ” بأن المسلمة لا تحلّ لشيوعي، وأنه إذا مات الشيوعي فلا يُصلّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وأن باب التوبة مفتوح، فإذا تاب الشيوعي تاب الله عليه» وهي فتوى صريحة لا تعرف تخفيف الكلمات، ولا متطلبات الدبلوماسية.
بدا الأمر لنا و لاقراني حين كنا لا نزال شبابا لم يتلون ولا يتلوث بعد ، و في وضوح شديد لا ينكره إلا المغرضون أن هناك تيار إيمانيا يضم رئيساً مؤمنا وشيخا للأزهر مشتبكا مع الواقع و معهم مجموعة قليلة من رجال الدولة كان منهم بالمناسبة نائب رئيس الجمهورية حسين الشافعي الذي كان يقوم بدور مواز للشيخ الدكتور عبد الحليم محمود في ارتياد المساجد والتبشير بالنصر والامتنان للقائد المنتصر ، وكان يؤدي هذا الدور بإخلاص شديد و بكفاءة عالية وحب متفانٍ (لا أدري ما الذي جعله تينساها فيما بعد ) وقد كان على مستوى تاريخه القريب مؤهلا تماما للاجادة في هذا الدور الريادي فقد كان وزيرا سابقا للأوقاف ، يعرفه العاملون في المساجد ، وكان على المستوي الشخصي يصلي الفروض الخمسة في المساجد جماعة في الأماكن التي يدرك فيها وقت الصلاة ، بينما كانت الأجهزة الحكومية القديمة لا تزال على إيقاع العهد الناصري في التبرؤ من الإيمان ومن الدين ومن الأزهر وبالتالي من الكرامات ومن نصر اللهَ!!
هكذا فتحت عيني مبكراً على الحقيقة التي يمكن تلخيصها بلغة اليوم وهي أن الدولة العميقة كانت تقود ثورة مضادة تماماً لثورة الرئيس أنور السادات والدكتور عبد الحليم محمود وحسين الشافعي ومصطفى محمود وسيد مرعي و صوفي أبو طالب والقلائل جداً من رجال الدولة والنخبة من الذين يؤمنون بما سمي بعد ذلك بالصحوة الإسلامية بينما أجهزة الأمن جميعا لا تزال على عقيدتها في تجريم الإسلام نفسه وكل ما هو إسلامي النزعة .
رأيت هذا رأي العين وعشته، ولهذا فإنني أتعجب من أن كثيرين ومنهم مثقون إسلاميون يصدقون النظرية التي ابتدعتها المخابرات الإسرائيلية من أن الرئيس أنور السادات تقرب من الإسلاميين ليضرب بهم الشيوعيين !! ، وهي نظرية مفبركة فضلا عن أنها مسيئة لمصر وللمصريين جميعا وللشيوعيين جميعا وللإسلاميين جميعاً، وهي نظرة تستهدف القفز على هداية الله للبشر، وعلى إرادة الشباب للهداية، وعلى الفطرة السليمة، وعلى التراث الوطني السياسي الحقيقي الذي صنعه الوفد والأحزاب المنشقة عليه والذي لم يكن يُعادي الإسلام بأية صورة ولا أية درجة.
كان اليساريون الخبثاء لا يرتاحون على الاطلاق إلى علاقة الود بين الرئيس السادات والأستاذ الشرقاوي
على ان الجزئية المهمة في علاقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود بالسياسة هي أن صراعه مع كثير من الآراء في المجتمع كان يأخذ صورة الصراع الفكري الحقيقي بعيداً عن لجوئه هو نفسه إلى فكرة القداسة أو المرجعية أو الاستجابة الطبيعية لمحاولة الآخرين جره إلى هذا المربع لتوريطه فيه، وعلى سبيل المثال فإننا نستطيع أن نذكر ثلاثة أمثلة سريعة
كان جو هذه المعركة الذي كاد ينسى تماما مثيرا الي ابعد حد ، ومبهجا أيضا الي ابعد حد ، بدأت المعركة التي شنها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي رئيس مجلس إدارة روز اليوسف من محاولته الصريحة في أن يهاجم الأزهر بطريقة محتشمة و مشروعة لكن طريقة مدرسة روز اليوسف الصحفية في ذلك الوقت سرعان ما قلبتها لتتسم بما يقارب الابتزاز ، إذ رفض مجمع البحوث الإسلامية الموافقة له على عرض مسرحية عن الإمام الحسين لم تجزها الرقابة ، و من المعروف أن الأستاذ الشرقاوي كان يساريا لكنه لم يكن من اليساريين المخاصمين للدين صراحة بل انه كان حريصا على أن يكتب في الإسلاميات بإنصاف شديد ، ومن هذا أنه هو الذي كتب عن الإمام ابن تيمية، وسمى كتابه “الإمام المعذب” وقد اعتبره من أئمة الفقه السبعة مع أن مؤرخي الفقه لا يوافقونه تماماً على هذا فليس لابن تيمية مذهب مستقل بتعريف المذاهب الفقهية.
كان اليساريون الخبثاء لا يرتاحون على الاطلاق إلى علاقة الود بين الرئيس السادات والأستاذ الشرقاوي، وهكذا فإنهم انتهزوا رفض الأزهر الموافقة على عرض مسرحية الحسين ليشعلوا معركة بين الشرقاوي من جانب والشيخ عبد الحليم محمود من جانب آخر ، و لتكون هذه المعركة فرصة لترديد المقولات اليسارية عن خطورة تنامي سلطة علماء الدين وممارستهم للمنع والرقابة على الابداع من ناحية أولى ، ولتكون فرصة من ناحية ثانية لتحطيم علاقة الشرقاوي والسادات، ، ولتكون من ناحية ثالثة فرصة لتحطيم علاقة الشرقاوي بالإسلاميين وبخاصة أنه كان صديقا لشخصيات إسلامية كثيرة من طبقة الدكتور عبد المنعم النمر على سبيل المثال ثم لتكون وهذا هو الهدف الأهم رغم تأخيرنا له ليكون (في المقام الرابع) فرصته للنيل من الشيخ عبد الحليم محمود وصورته الإصلاحية التنويرية المنتعشة .
تداعى اليساريون كالعادة للهجوم المكثف على الشيخ عبد الحليم محمود ذلك الرجل الذي صوروه على أنه يجر المجتمع الى الغيبيات على حد تعبيرهم ، لكن من المذهل أن اقوى موقف صحفي وقفته الصحافة الرسمية أو التابعة للدولة فيما يسمى بالمؤسسات القومية كان هو موقف مجلة آخر ساعة التي كانت في ذلك الوقت أعلى المجلات توزيعا وأكثرها تأثيراً والتي كانت تتخاطفها الأيدي بمجرد صدورها، والمذهل في الامر أن رئيس تحرير آخر ساعة كان اديبا ومفكرا شيوعيا سابقا تعرض للسجن والاعتقال والتعذيب وهو المفكر المصري الكبير الأستاذ أحمد رشدي صالح.
وببساطة شديدة فقد استكتبت “آخر ساعة ” عشرة من كبار علماء الأزهر أيدوا الشيخ عبد الحليم محمود في تظاهرة لم تحدث من قبل ولا من بعد في معركة من هذا القبيل .
شهدت بنفسي فصولا كثيرة من هذه الواقعة ، فقد كان من حسن حظي أنني فوجئت المعركة مندلعة امام عيني في المطبخ الصحفي في اليوم الذي ذهبت فيه إلى “آخر ساعة” لإجراء حوار صحفي معي تفضل به الأستاذ إبراهيم قاعود بعد فوزي بجائزة مجمع اللغة العربية، ثم للتصوير ، ثم لمتابعة المعركة التي بهرتني تماما وهي ساخنة في مطبخ “آخر ساعة” نفسه.
فيما بعد عقدين من الزمان ادركت ان هذه المعركة التي شغلتني وهي مشتعلة كانت خطا مفصليا و فيصلا في تجاوز الصحافة المصرية لمرحلة الأيديولوجيا المنظمة والمنتقلة إلى منطق فكري رحب وذكي.
كان البابا شنودة يشكو لكل من هبّ ودب أن الشيخ عبد الحليم محمود لا يعامله بما يستحق ولا يحضر أي لقاء يكون هو فيه
كانت الساحة الثانية التي شهدت توجيه السهام الى الدكتور عبد الحليم محمود مكبوتة الصوت إعلاميا لكن لغطها كان كثير التردد ، فقد كان البابا شنودة يشكو لكل من هبّ ودب أن الشيخ عبد الحليم محمود لا يعامله بما يستحق ولا يحضر أي لقاء يكون هو فيه ، وأن أقصى ما يفعله في موازاة ما يسميه هو بالمؤسستين أن يبعث بمدير ليكون رأسه برأس البابا.
كان جزء من علاقة البابا شنودة بالشيخ عبد الحليم محمود يخضع لما يُسمى مبررات الإحساس باليأس من المقارنة، فقد كان الشيخ عبد الحليم محمود مثقفا حقيقيا ودارسا حقيقيا وعالما حقيقيا بينما كان البابا شنودة النصف (على أقصى تقدير ) من هذا كله ، وكان الشيخ يجيد الفرنسية كما يجيد الفلسفة أما البابا شنودة التالي له في كل شيء فلم يكن قد تلقى تعليماً جامعيا متخصصا في الفلسفة وإنما كان يتظاهر بالفلسفة، ولم يكن أيضا ذا علم عميق باللاهوت، وإنما كان يتظاهر بهذا، كان عموميا وسطحيا ما في ذلك شك ، وليس في هذا ما يعيبه ، بل إنه في الحقيقة كان ناجحا بعموميته وسطحيته ، ولهذا فإنه ظلم نفسه بمحاولته الدائبة في موازاة الشيخ في اتصاله بالمجتمع، مع أنه لم يكن يملك مع طموحه إلا ثرثرة بعض من أنصاف المثقفين، وهكذا كان أي صحفي أجنبي متميز ، وقد صادفت منهم كثيرين ، يسخر بكل ما هو ممكن من محاولات التفلسف التي يجتهد فيها وبها البابا شنودة، وهي محاولات تُحسب له من حيث هو يجتهد ويحاول لكنها لا ترقى إلى أن توصف بأنها محاولات جادة حين يقارن خطابه الفكري بخطاب عبد الحليم محمود الفكري .
كان البابا شنودة كما نعرف لحوحا ولا يكف عن السعي وراء هدفه بكل طريقة، ومن هذا فإنه طلب أن يشترك الأزهر مع الكنيسة في وضع كتاب في الأخلاق يغني عن فكرة تقسيم الطلاب إلى تربية دينية إسلامية وتربية دينية مسيحية.. من الإنصاف أن نذكر أن رأي الشيخ عبد الحليم محمود كان الرفض بحسم، و من الإنصاف أن نذكر أن أحداً لم يجبره على تغيير رأيه بل بالعكس فإن الرجل الفاضل الدكتور مصطفى كمال حلمي وعده بأن ينضم إليه في الاستقالة إذا صمم على الاستقالة احتجاجاً على مثل هذه الضغوط الباباوية الإعلامية .
من المهم هنا ان ننبه و بصوت عال اصدقاءنا الإسلاميين الذين استكانوا للنقل عما يكتب في المخابرات الإسرائيلية والبعثيىة ونذكرهم بالتامل في حقيقة مهمة وهي انه لايمكن بالطبع أن يكون هذا التهديد من الشيخ ولا من الوزير المهذب المتضامن معه قد تم بغير رضا رئيس الدولة الذي كان قادراً على إزاحة الرجلين بإشارة واحدة.
ومن الطريف أنه فيما بعد وفي محاولة ذكية من أجهزة الأمن السياسي المصري لاستيفاء شكلانية وجود طرفين في معادلة المعارك الطائفية فإنهم من باب التقريب جعلوا البابا شنودة موازيا للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني وهكذا كان المبرر في وجود الأستاذ التلمساني في كشوف سبتمبر 1981 أن قرار اعتقاله اتخذ فقط ليكون موازيا للإجراء الذي اتخذه الرئيس السادات (أو الدولة) مع البابا شنودة، وكنا نتندر في ذلك الوقت بأنه كان الأولى أن يودع الأستاذ التلمساني (أو تحدد إقامته) في خلوة من خلوات الصوفية على نحو ما أودع البابا (أو حددت إقامته) في الدير.
لكن الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار الذي خلف الشيخ عبد الحليم محمود كان من الذكاء بحيث حافظ على تراثه كله، وقد ساعده على هذا أنه خلفه من قبل في منصب أمين مجمع البحوث الإسلامية، وفي منصب وكيل الأزهر وفي منصب وزير الأوقاف (حتى وإن كانت خلافته في بعضها لم تكن على سبيل التعاقب المباشر) وهكذا خرج الأزهر بفضل عبد الحليم محمود وخلفاه (الشيخان بيصار وجاد الحق ) من هذه المعادلة المتسمة باللزوجة كما يقول المثقفون إلى أن وجد الشيخ محمد سيد طنطاوي في الأمر نوعا من البر بالجيران واهل الإقليم فقد كان هو والبابا شنودة من محافظة سوهاج.
على أن المؤرخ المعني بتاريخ العلم يروعه أن البابا شنودة لم يقلد الدكتور عبد الحليم محمود في عنايته بالعلم الحقيقي، وإنما آثر العمل العام و العلم المتصل بهذا العمل العام أي بالعمل في الشارع لا في دار العبادة او العلم ، وربما كان محقا في هذا ذلك أنه حينما بدأ الاهتمام بالكلية القبطية فإنه آثر أن يقف عند الحدود التي يقف عندها أقطاب الجماعات السلفية في معاهدهم (غير الأزهرية) ، ومن ثم فإن العلم في الكنيسة المصرية لا يزال متأخراً عن العلم في الكنائس الألمانية على سبيل المثال ، وقد اخترت الألمانية لأنها على الرغم من اختلاف الملة مع الملة الشائعة في مصر حريصة على دعوة المسيحيين المصريين لندواتها العلمية ودراساتها من آن لآخر، أما الكنائس الأمريكية فلا تزال تعيش حقبة التبشير من أجل الاستعمار الجديد، وترى في الكنيسة القبطية حاجزا أو حائطا تسعى لهدمه ، وقد كان البابا شنودة بذكائه واعيا لهذه الحقيقة.
من العجيب ان الدكتور عبد الحليم محمود كان من الذكاء السياسي بحيث انه لم يتورط في مهرجانات الحوار بين الأديان التي كانت وسيلة للتعبير عن العبث الفكري وتضييع الوقت فيه، وكان يجاهر بوضوح بضرورة ان يكون هناك التزام بما تُمليه روح التفاهم، فلا يُساء إلى المسلمين في مقدساتهم، وكان يقول :
” ونحن من جانبنا قد قدّمنا أسس التفاهم واضحة سافرة في احترام المسيح وأمه فماذا قدّم المسيحيون؟ هاجموا رسول الإسلام، وما زالوا يهاجمون مبادئهَ! أفيمكن مع ذلك التفاهم؟.
“إن الإسلام هو العامل الأكبر في تثبيت المسيحية حين اعترف بوجود المسيح، وحين برأ أمه، ومع ذلك فقد قوبل بجحود لا مثيل له، وما زال يقابل بهذا الجحود من المسيحيين.