بدأت معرفتي العلمية بالدكتور مراد كامل (1907ـ1975) من كتاباته عن المستشرقين، فبالإضافة إلى كتابته عن اثنين من المستشرقين أعضاء مجمع اللغة العربية أستاذه ليتمان والإيطالي الشهير نللينو (1872-1938)، فإن له كتابات مفتاحية ان صح هذا التعبير عن مستشرقين آخرين لم يحظيا باهتمام، وهما الإيطالي كارلو كونتي روسيني (1872-1949) والألماني متفوخ (1876-1942).
الدكتور مراد كامل واحد من رواد علوم اللغات الشرقية في الجامعة، واشتهر بأكثر مما كان عُرف به غيره من معرفة عدد من اللغات السامية وهي السريانية، والآرامية، والعبرية القديمة، فضلا عن العربية والعربية الجنوبية، إضافة إلى تخصصه الدقيق في اللغة الجعزية، التي تنتشر في بلاد الحبشة. وتمثل قصة حياته العلمية نموذجا بارزا للتدهور الذي أصاب الوعي المصري على المستويين العلمي والسياسي في عهد ثورة 1952.
الأمل المعقود عليه
وبصرف النظر عن الأسباب، فمن المهم أن نذكر أن الجامعة المصرية كانت في أول عهدها، وبالوعي العلمي الذي تميز به بناؤها على يد ساستنا المستنيرين وعلى يد المستشرقين والأساتذة الأجانب، فقد كان هناك وعي لضرورة وجود متخصصين مبتعثين للقدرة على توفير كوادر ومكتبات لدراسة القضايا الإقليمية من خلال دراسات اللغات المرتبطة بمصر وبوادي النيل، وهكذا تم تهيئة بعثة للدكتور مراد كامل مع المستشرق الألماني عضو مجمع اللغة العربية اينو ليتمان (1875ـ1958) ليكون تلميذا لذلك الأستاذ، وامتدادا له في البيئة المصرية، وهو ما بدأ به بالفعل ذلك الخريج النابه المبتعث، حتى حصل على درجتي الدكتوراه من ألمانيا (بمستوييها المتفاوتين)؛ لكنه حين بلغ مرحلة الأستاذية والعطاء لم يكن من الممكن له أن يقدم شيئا ذا بال للجامعة المصرية ولا للكنيسة المصرية، وإنما أصبح يعمل في خطة البحوث الألمانية والنشر على نحو ما سنرى من بحوثه الوطنية، التي لم تكتمل، رغم أنها كانت قد بدأت فمست المناطق التي تهم سياسة مصر وإستراتيجيتها.
دخوله دائرة الخطر
وفي صراحة شديدة، فإنه لولا معرفة الدكتور إبراهيم مدكور بالدكتور مراد كامل وتقديره له وضمانته وحمايته وأنه رشحه لعضوية مجمع اللغة العربية عند زيادة أعضائه في 1961، لكان الدكتور مراد كامل قد نال من تعسف الأمن وأجهزته ما كان كفيلا بأن يجعله يقضي سنوات في السجن، وكان قد شارف هذه المرحلة على ما روي لي من أساتذتنا.
ولم تكن دولة 23 يوليو/تموز 1952 وحدها هي التي أعرضت عن الإفادة من مراد كامل، وإنما يبدو بوضوح أن الكنيسة المصرية كانت هي الأخرى لا تريد منه إلا ما يتفق مع معرفتها لوظيفتها، وليس ما ينبغي لطموحها، ولهذا فإننا نجد مشاركاته الكنسية محدودة، وإن بدت متنوعة ومتعددة، بينما أفادت منه الكنيسة الغربية، ويبدو أن أستاذه الدكتور طه حسين كان قد أحس هذا التوجه الكنسي أيضا منذ مرحلة مبكرة، ولهذا كلفه بالمهمة التي قام بها في دير سانت كاترين في سيناء بما يعني -بدون اجتهاد في الاستنتاج- أنه كان من الصعب (أو غير المنظور) أن يتولى أو يكلف بمهمة مماثلة في أي دير قبطي في مصر.
نجاح الإمبراطور الحبشي قلّص دوره
وعلى كل الأحوال، فإن توجه مراد كامل وتخصصه كان قد أصبح خارج السرب بفضل سياسة الإمبراطور الحبشي، الذي استطاع أن ينفصل بالكنيسة الإثيوبية في عز سطوة الرئيس جمال عبد الناصر، وقد أخفى هذا الأمر كما أخفى غيره عن المصريين مسلمين وأقباطا، وبعد أن كان مراد كامل في عهد الملكية رئيسا للمجمع اللغوي في بلاد الحبشة وناظرا أو مديرا للمدرسة الإثيوبية ورئيسا للمدرسة الابتدائية الوحيدة ومؤسسا لما أصبح نواة للجامعة الإثيوبية.. إلخ، فإنه أصبح مضطرا للانزواء والاكتفاء بوجوده ضمن الأحياء المقدر وجودهم الموقر في مجمع الخالدين.
نشأته وتلمذته للمستشرق ليتمان
تدرج الدكتور مراد كامل في مراحل التعليم المختلفة، وتلقى تعليما مدنيا، وكان من أوائل الذين التحقوا بالجامعة المصرية، حيث تخرج في الدفعة الثانية من دفعاتها، وحصل على ليسانس الآداب من قسم اللغة العربية واللغات الشرقية (يونيو/حزيران 1930)، وابتعث إلى ألمانيا حيث حصل على دبلوم في اللغة اللاتينية وآدابها من جامعة برلين (يونيو/حزيران 1934)، وبعد 4 شهور أي في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1934 حصل على دبلوم في اللغة اليونانية وآدابها من الجامعة ذاتها. وفي دراسته لدرجة الدكتوراه تتلمذ مراد كامل على المستشرق الألماني الأستاذ إنو ليتمان، وقد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة توبنجن (ديسمبر/كانون الأول 1935)، ثم حصل بعد 3 سنوات أخرى على درجة الدكتوراه الألمانية الأعلى، التي تسمى بدكتوراه الأستاذية من الجامعة نفسها (نوفمبر/تشرين الثاني 1938) وفيما بعد شارك في تأسيس جمعية للمستشرقين العرب في ألمانيا.
بعد عودته عمل الدكتور مراد كامل بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتدرج في وظائفها حتى أصبح أستاذا، ثم رئيسا لقسم اللغات السامية بها (1950)، وقد ساعد في إنشاء مدرسة الألسن بالقاهرة في دور إنشائها الثاني (الذي تم في خمسينيات القرن الـ20 بعد الإنشاء الأول في عهد رفاعة الطهطاوي) وعين مديرا لها (1952ـ1959)،
عمله المبكر في بلاد الحبشة
كانت للدكتور مراد كامل تجربة مبكرة في العمل ببلاد الحبشة بدأها حين كانت مصر مسؤولة عن تزويد مدرسة منليك الثاني بأديس أبابا بحاجتها من المدرسين المصريين منذ إنشائها، واختير هو في البعثة التعليمية المصرية التي تدير المدرسة الإثيوبية، وكانت البعثة مكونة من 10 أساتذة كان منهم هو وزميله الدكتور زاهر رياض (أبريل/نيسان 1943)، وكان من نصيبه رئاسة مدرسة تفري ماكونن التي كانت في مستوى المدارس الابتدائية، وقد اقترح إنشاء قسم ثانوي بها، وأنشئ القسم، ثم طلب الإمبراطور منه أن يكون مستشارا لوزارة التعليم والفنون الجميلة، وقد أنشأ مجمعا لغويا ليقوم بوضع المصطلحات العلمية الإثيوبية، وتولى رئاسته.
تأسيس كلية اللاهوت الإثيوبية
وعندما أراد الإمبراطور أن ينشئ مدرسة لاهوتية للكهنة طلب منه دراسة المشروع، فقام بالدراسة، ورشح حافظ داود (الذي سمي كاهنا فيما بعد باسم القمص مرقص داود) مديرا لها، وفي أبريل/نيسان 1944 تم افتتاح المدرسة. وقد كلفه الإمبراطور بوضع مناهج اللغة العربية بمدارس المقاطعات الإسلامية، فقام بهذا العمل وساعد المدارس الحكومية الإسلامية على تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي ضمن مناهجها، وقام مراد كامل بشراء بعض المخطوطات الجعزية المدونة على الرق أو الجلد، وعندما عاد إلى مصر في مايو/أيار 1945 قدم بعضا منها لمكتبة جامعة القاهرة، وبعضا آخر لمكتبة المتحف القبطي، واحتفظ بالباقي في مكتبته الخاصة.
فهرسته لمخطوطات سانت كاترين وعثوره على أقدم ترجمة للكتاب المقدس
وفي 1951 كلفه الدكتور طه حسين وزير المعارف بالتوجه لدير سانت كاترين بسيناء لجرد مكتبة الدير الثمينة وفهرستها وتنظيمها، فاصطحب معه يسي عبد المسيح أمين مكتبة المتحف القبطي في ذلك الوقت، وانتهى من فهرسة حوالي 5071 مخطوطة مكتوبة بـ12 لغة. وقد أعلن مراد كامل أنه عثر في مكتبة دير سانت كاترين على أقدم التراجم العربية للكتاب المقدس في العالم، وهي ترجمة تعود إلى القرن التاسع أو العاشر الميلادي، وقد كلفته جمعية البحوث الألمانية بنشر هذه الترجمة العربية، ومعظمها مكتوب بالخط الكوفي غير المنقوط، وهي مترجمة عن اليونانية وليست عن السريانية، وقد أنهى الدكتور مراد كامل ترجمة أسفار موسى الخمسة وقدمها للمطبعة.