المهندس محمد فهيم ريان واحد من اثنين من كبار المهندسين اللذين قتلهمتا سنوات الرئيس مبارك الأخيرة، الآخر هو المهندس إبراهيم سالم محمدين ، وقد كان هذان المهندسان من أكفأ المهندسين المصريين على الإطلاق، وكانا يبدوان في حياتهما الوظيفية من أكثر الناس حظوظاً مواتية مع النظام لكنهما للأسف الشديد واجها أسوأ حظ في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس مبارك، وكان السبب غريبا ، وعجيبا، وشاذاً، ومثيرا للأسى من السياسة على الطريقة المصرية، فعلى حين كان أكبر تكريم للمهندس ريان هو ثقة الرئيس حسني مبارك المطلقة فيه، وحرصه على استمراره في موقعه رغم مضي السنوات فقد تبخرت ثمرات هذا التقدير في لحظة واحدة حين كانت ترتيبات الأوضاع على يد المجموعة التي تولت الأمر في نهاية عهد مبارك حريصة على أن تبعد رجال الأب، على نحو ما يعرفه الناس.
ومن إحقاق الحق أن نقول إن الرئيس مبارك كان واعياً لقيمة الجهد الذي بذله محمد فهيم ريان، لكنه على عادته المعروفة طيلة عهده في ترك الوزراء يمارسون “عبثهم” فإنه ترك الفريق أحمد شفيق [الذي عين وزيرا للطيران المدني في ٢٠٠٢] حرا تماما في ان يمارس اجتهاده في مصر للطيران وهيئة الطيران المدني اللتين هما جناحا وزارة الطيران، وكان مما لفت نظري ان الفريق أحمد شفيق تخلص من المهندس ريان في يوم الاثنين ، و تخلص من الطيار عبد العزيز بدر في يوم الخميس التالي مباشرة ، ومع هذا النزق الذي لا مبرر له فإن الفساد المصري المعهود بدأ يصفق للتخريب الممنهج الذي بدأ الفريق شفيق يمارسه ، وهنا انتبه الرئيس حسني مبارك بالدرجة المحدودة ولكنها الدرجة الكاشفة عن رأيه، بطريقة لم تحدث مع أي قطاع آخر في عهده، وسرعان ما أصدر في اليوم الذي صدر فيه القرار الثاني للفريق شفيق قراره بمنح المهندس محمد فهيم ريان وشاح النيل الذي يجعله سابقاً في البروتوكول على كل الوزراء ، و منح الطيار عبد العزيز بدر وسام الجمهورية من الطبقة الأولى.
هو أفضل المهندسين في سلاح القوات الجوية في جيل الرئيس حسني مبارك
لم يصل المهندس محمد فهيم ريان إلى منصب الوزارة لكنه وصل إلى أعظم من الوزارة بكثير وهو رئاسة مجلس إدارة مصر للطيران على مدى الفترة من 1٩80 وحتى 200٢، وباختصار موحٍ فقد كان هذا الرجل هو أفضل المهندسين في سلاح القوات الجوية في جيل الرئيس حسني مبارك ، وحين كان مبارك نائبا لرئيس الجمهورية وببساطة شديدة ودون أدنى اجتهاد من القارئ أو للراوي في تصور ظروف اختياره ، فقد طلب الرئيس أنور السادات من نائبه أن يختار مهندسا أو طيارا أو أياً من كان ليتولى مصر للطيران على أن يعطي الصلاحيات كلها، وأن يتمتع بالصفات المطلوبة للنجاح ، وهما صفتان أساسيتان في نظر المصريين أن يكون “بتاغ شغل” و “دوغري” وكانت هاتان الصفتان متوفرتين بنسبة 100% في المهندس ريان الذي نجح في إدارة مصر للطيران على نحو معجز طيلة ٢٢عاما . ولو أنه كان يتولى هذا المنصب في أية دولة من دول الخليج العربي على سبيل المثال لكان عائد راتبه فقط يصل إلى المليار بسهولة بمقاييس أيامنا هذه، لكن هذا الرجل عاش ومات بأقصى درجات الالتزام، وبالشرف المعبر عن نفسه بوضوح.
تضاعفت أصول مصر للطيران على يد المهندس محمد فهيم ريان 40 ضعفاً مع الأخذ في الاعتبار بأن الأصول العقارية تحسب على الورق حسابا يقدرها بأقل بكثير من قيمتها الحقيقية في السوق ، فإذا أخذنا قيمتها الحقيقية فإننا نستطيع أن نقول إن الأصول الخاصة بمصر للطيران تضاعفت على يد هذا المهندس المخلص لوطنه إلى أكثر من مائة ضعف، ولم تقف هذه الأصول عند حدود تقليدية ، وإنما عبرت عن فكر هندسي متقدم تمثل منذ البداية في تطوير قاعدة هندسية فوق الممتازة أصبحت كفيلة بإجراء الصيانة والعمرات للطائرات حتى إنه في آخر عهد المهندس محمد فهيم ريان كانت هذه الورش قادرة على أن تجري عمرات كاملة لكل أجزاء الطائرات بل أصبحت قادرة على ان تفك مكونات الطائرة إلى كل أجزائها الدقيقة، وليس هذا بالأمر السهل.
ففاوضت مصر للطيران الشركتين من دون أن تخضع نفسها لاحتكار او توحيد المورد ، و بدأت الشركة سياسة عاقلة و متعقلة
أصبح لمصر الطيران مركز متقدم للحاسب الآلي استطاع ببساطة شديدة أن يجعل المتعاملين مع مصر للطيران لا يحسون بمدى الجهد في تكامل و تشابك الإجراءات الداخلية لأنهم أصبحوا يجدون النتيجة مباشرة، ولم تبدأ شكاوى المصريين المعاصرين من أمثالنا من التعامل مع مصر للطيران إلا بعد أن دخلها الاضطراب المعلوماتي و اللوجسيتي على يد أهل الثقة الذين استقدمهم الفريق أحمد شفيق، فأصبحت العبارات المستفزة للحضارة من قبيل عبارة أن الكمبيوتر عطلان تمثل نمطا من الشكاوى المتكررة في التعامل مع الحجز و تعديل الحجز مع أننا في القرن الحادي والعشرين .
أدرك المهندس ريان أن التطوير العالمي في اسطول الطائرات يعتمد على حسن إدارة المنافسة بين الشركتين الكبريين إيرباص وبوينج ، ففاوضت مصر للطيران الشركتين من دون أن تخضع نفسها لاحتكار او توحيد المورد ، و بدأت الشركة سياسة عاقلة و متعقلة في الاحلال والتبديل بدراسات جدوى حقيقية و متأنية و منضبطة ، ومع تكرار هذه الصفقات الذكية أصبحت الشركة تمتلك أسطولاً من 34 طائرة كبيرة وحديثة متميزة ، وكان هذا إنجازاً كبيراً في وقته ، وقبل أن تدخل الخدمة الشركات الخليجية العملاقة الثلاث: القطرية، والامارات، والاتحاد. وأصبحت مصر للطيران قادرة على الطيران إلى لوس انجليس، بينما كانت أقصى نقاطها من قبل هي لندن، وقد تحقق مع هذا زيادة المكاتب والمحطات الخارجية إلى الضعف مع كل ما يتطلبه هذا من إدارة وتنسيق وتعاملات وعلاقات دولية وقانونية.
كان المهندس محمد فهيم ريان من الذكاء بحيث أسس مبكراً مركزاً متقدما للتدريب على المحاكيات، في وقت لم يكن الرأي العام يتصور فكرة التدريب وفكرة المحاكيات ، ولا فكرة ان يكون لهذه المهمة مركز متخصص في مصر ، ولم يقف في تدريب المحاكيات على الطيارين، وإنما امتد به إلى أطقم الضيافة والخدمة.
وكانت مصر للطيران طيلة عهد المهندس محمد فهيم ريان تسير بخطوات عاقلة ومتزنة في الاقتصاديات المتاحة بالفطرة او بالعادة أمام شركات الطيران من قبيل نشاط الأسواق الحرة في المطارات، فتم تطوير الأسواق الحرة على أساس اقتصادي، مكنها من أن تضيف لموارد الشركة الأم بعيدا عن العبث .
ودخلت مصر للطيران بأرباحها شريكة في تأسيس فنادق تخدمها في القاهرة والعواصم السياحية فكان معروفا على نطاق واسع انها شريك في فندق موفينك المطار بنسبة النصف (50%) وفي هيلتون طابا بالثلث (33%) وفي فندق توت آمون بأسوان وفي فندق نفرتاري بأبو سمبل.
أسس المهندس محمد فهيم ريان مستشفى مصر للطيران على مستوى كفيل بالمنافسة مع المستشفيات الخاصة في القاهرة ، وليس على مستويات مستشفيات الهيئات الخدمية أو مستشفيات القطاعات الحكومية وعلى الرغم من أن الدولة لم تقدم لمستشفى مصر للطيران ما قدمته لمستشفيات سيادية معاصرة له فإنه كان قادرا على المنافسة والصمود والتفوق وأداء مستويات جيدة من الخدمة، وذلك قبل أن يتحول أيضاً على يد معاوني الفريق شفيق إلى مستشفى تابع لشركة تابعة ذات مجلس إدارة اسمها الخدمات الطبية!
نزاهة يده والموارد المالية التي حصلت عليها الدولة بفضل إدارته
بلغت قيمة الأرباح المالية التي عادت على خزينة الدولة من خلال مصر للطيران في عهده أكثر من مليارين من الجنيهات بأسعار ٢٠٠٢ كان منها ( والأرقام تقريبية بالطبع) 900 مليون حصيلة الضرائب على التذاكر و300 مليون حصيلة ضرائب كسب العمل على العاملين في الشركة نفسها ، و300 مليون أخرى دفعتها مصر للطيران كصاحب عمل في التأمينات الاجتماعية و700 مليون رسوم الخدمات التي كانت مصر للطيران تقدمها لإيواء الطائرات، ونزولها. وقد تم إنجاز هذا كله مع عدم الإفراط في التوظيف، الذي هو آفة المصريين الساعين الى الحصول على التصفيق، ذلك أن عدد العاملين ارتفع في عهد ريان من 10 آلاف إلى 24 ألفا فقط. وقد كان من المعروف ان ريان لا يمد يده إلى عمولات الطائرات ولا إلى عمولات قطع الغيار، وكان يحوّل أي مبالغ من هذا القبيل إلى صندوق العاملين.
وفي هذه المناسبة أذكر أن أحد أساتذتنا من الصحفيين سألني في حوار جانبي عن السر في موقفي من الفريق شفيق فأجبته بأنه مخرب ومظهري وإذا به يقول لي: هل حضرت أي مناسبة معه؟ فأجبته بالنفي فأظهر اندهاشه، فقال إنه يعجب من كمية الاحتفالات التي كان ينظمها الفريق شفيق وهو وزير للطيران ويدعو إليها الصحفيين، حتى إنه كان إذا غيّر سيراميك دورة المياه في صالون ما في المطار احتفل بهذا احتفالاً على عشاء يدعو إليه خمسين من الصحفيين، وأنه هو نفسه كان يتعجب من أن يكون عنده وقت للعمل بعد هذا.. لكنه مع هذا كان يراه حلا لما كان يسميه بالأزمة بين الرئيس المنتخب والوزير المنقلب، ويطالبني أن أتبنى مثل هذا الحل! فلما لخّصت له تجاوزه في حق ريان المنجز قال لي: أليس صديقك الرئيس مبارك مسئولاً عن تجاوزات شفيق، قلت نعم، لكنه مسئول أيضا عن إنجازات ريان.
ولد المهندس محمد فهيم ريان عام 1926 وتلقي تعليما مدنيا متميزا وتخرج في قسم الكهرباء من كلية الهندسة 1950 وعمل بالقوات الجوية حتى أصبح من كبار مهندسيها، وكان ممن يطلق عليهم عن حق أبطال حرب أكتوبر إذ تمكن بجهده وخبرته من تجهيز كثير من الطائرات لتساعد في دخول المعركة رغم ما كانت تعانيه من عيوب، ونقص في قطع الغيار.
ضاع جزء كبير من روح إنجاز ريان مع قدوم أحمد شفيق الذي عين وزيراً للطيران المدني
وفي 1980 أُسندت إليه رئاسة مصر للطيران على سبيل التفويض مع إعطائه سلطات مجلس الإدارة، لكنه كان حريصا على العودة بسرعة إلى المسار الطبيعي وتشكيل مجلس للإدارة، وهو ما تحقق على يديه بسرعة في 1982 وظل هكذا بصفة مستمرة حتى 2002 حين انتكست مصر للطيران انتكاسة عميقة الأثر على يد اهل الثقة والجيل الجديد الذي ضيع الإنجازات المتئدة في عصر مبارك نفسه.
ضاع جزء كبير من روح إنجاز ريان مع قدوم أحمد شفيق الذي عين وزيراً للطيران المدني (أي الطيران المدني فقط بدون النقل، وبدون السياحة) وكان معنى هذا أنه ليس أمامه إلا أن يدير أو يدمر هيئة الطيران المدني من ناحية وشركة مصر للطيران من ناحية أخرى، ولأن علم الإدارة علمنا أنه لا يستقيم الأمر في أن يكون الوزير أو المدير مديراً على اثنين فقط، فقد تفتق الذهن عن تفتيت مصر للطيران إلى سبع شركات تجمعها شركة قابضة لتكون عند الفريق أحمد شفيق شركات كثيرة تستوعب من يريد إكرامهم من أهل ثقته. ومع أن القانون الخاص بقطاع الأعمال العام كان يقتضي أن تكون الشركة القابضة الجديدة تابعة لوزير قطاع الأعمال العام وليس لوزير الطيران فإن الصوت العالي بالباطل كان يقول: هل يجوز أن تطلب من أب أن يتخلى عن ابنه الوحد والبكري والعزيز عليه.
وهكذا ضاعت مصر للطيران، وضاع جهد محمد فهيم ريان الذي دعمه حسني مبارك نفسه ٢٢ عاما متواصلة، وشاء القدر أن يضيع في عهد حسني مبارك نفسه.
من أعجب ما حدث بعد ثورة يناير أن التفسير التاريخي لفقدان المهندس محمد فهيم ريان لمنصبه او بالمعنى الأدق لفقدان مصر لوجود ريان المثمر في هذا الموقع المهم بدأ ينصرف إلى ما صدر عنه من التصريحات أو الإشارة إلى وجود مؤامرة على طائرة البطوطي التي أُسقطت في 1999، ومع أن هذا كان تعليلاً لا يفتقد إلى المنطقية فإنه بمنطق التاريخ لا علاقة له بالحقيقة، التي هي واضحة من السرد الذي قدمناه، فالتاريخ نفسه يؤيدها على نحو ما رويناها.
وفاته القاسية
لا تقف الأحداث عند هذا الحد وإنما تدخر مفاجأة قاسية أخرى إذ يموت المهندس محمد فهيم ريان في ديسمبر ٢٠٠٤ بعد إصابته في تفجير فندق طابا في أكتوبر٢٠٠٤ حين كان يرأس اجتماعا لمجلس إدارة الشركة المالكة للفندق.