كان الدكتور عاطف صدقى (1930 ـ 2005) أستاذا جامعيا مرموقا ، بيد أنه لم يكن من الذين أضناهم طموحهم من أجل مناصب السلطة وإنما جاءه حظه في أن يصبح رئيسا للوزراء من دون أن يعمل وزيرا ثم جاءه حظه مرة ثانية في أن يبقى في هذا الموقع لأكثر من تسع سنوات صعبة و حرجة لكنه قضاها ناجحا مصلحا منتجا مشهودا له بالأمانة والكفاءة و الإنجاز .
ولد الدكتور عاطف أحمد نجيب صدقى فى مدينة طنطا فى الحادى والعشرين من أغسطس (1930) لأسرة تنتمى إلى إقليم القليوبية، وكان والده من رجال القضاء، وقد كان وكيلا لمحكمة النقض.
تلقى الدكتور عاطف صدقى تعليما مدنيا فى مدارس القاهرة، وعرف بتفوقه وكان أول البكالوريا فى شعبة وجدت في ذلك الوقت وعااشت فترة قصيرة و جمعت بين دراسة الرياضيات والقسم الأدبى وسميت أدبي رياضة (1947)، والتحق بكلية الحقوق، و حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة (1951) فى الدفعة التى تخرج فيها زميلاه فى الوزارة الدكتوران محمد يسرى مصطفى وأحمد سلامة.
عمل الدكتور عاطف صدقى بعد تخرجه نائبا فى مجلس الدولة، وواصل دراسته العليا حتى حصل على درجة الدكتوراه فى العلوم الاقتصادية من جامعة باريس بعدما نال دبلومى الدراسات العليا فى القانون (1952)، والعلوم الاقتصادية (1953).
وفى عام 1959 انتقل الدكتور عاطف صدقى إلى سلك الجامعة وعمل مدرسا فى كلية حقوق القاهرة، ولما أنشئت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية انتقل إليها وعمل بها لبعض الوقت ثم آثر العودة إلى كليته الأصلية، وقد تولى رئاسة قسم التشريعات المالية (1965) حين كان لايزال أستاذا مساعدا وبقي كذلك لفترة طويلة إذ لم يكن هناك من يسبقه ولا من يهدده ، ونال درجة الأستاذية فيما بعد توليه مسئولية هذا القسم بما يقرب من 15 عاما.
عمل الدكتور عاطف صدقى مستشارا ثقافيا لبلاده فى باريس (1973 ـ 1977) وشارك فى أنشطة اليونسكو الدولية.
اختير الدكتور عاطف صدقى عضوا فى مجلس الشورى عند تأسيسه ، ورأس اللجنة الاقتصادية به (1980 ـ 1986).، وكان قد راس اللجنة الاقتصادية في التنظيم السياسي المرتبط بالدولة ، سواء في ذلك الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني الديموقراطي .
اختير الدكتور عاطف صدقى عضوا بمجلس إدارة الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة (1981)، وفى 1982 اختير رئيساً للجهاز المركزى للمحاسبات خلفا للمهندس سمير حلمى الذى اغتيل مع الرئيس أنور السادات، وكان قرار تعيينه من أوائل القرارات التى صدرت فى عهد الرئيس حسنى مبارك.
حقق الدكتور عاطف صدقى نجاحاً بارزاً فى منصبه كرئيس للوزراء، وقد نجحت وزارته منذ أن تولى مسئولية الحكم فى تشخيص المشاكل الاقتصادية
وفى 6 نوفمبر 1986 أسند الرئيس حسنى مبارك إليه رئاسة الوزارة، وكان بهذا واحداً من ثلاثة تولوا رياسة الوزارة من دون أن يتولوا المناصب الوزارية قبلها، أما الآخران فهما الرئيسان محمد نجيب ومحمد حسنى مبارك، وأعاد الدكتور عاطف صدقى تشكيل وزارته فى 1987 مع بداية دورة الرئاسة الثانية للرئيس مبارك فكانت هي وزارته الثانية ، ، ثم أعاد الدكتور عاطف صدقى تشكيل وزارته فى ١٩٩٣ مع بداية دورة الرئاسة الثالثة للرئيس مبارك فكانت هي وزارته الثالثة ،وحقق الدكتور عاطف صدقى الرقم القياسى فى البقاء فى مقعد رئاسة الوزارة فى عهد ٢٣ يوليو، ولايزال محتفظا بهذا الرقم القياسى! حيث شكل ثلاث وزارات استمر عهدها حتى 2 يناير 1996.
حقق الدكتور عاطف صدقى نجاحاً بارزاً فى منصبه كرئيس للوزراء، وقد نجحت وزارته منذ أن تولى مسئولية الحكم فى تشخيص المشاكل الاقتصادية التى تعانى منها مصر ووضع و إنفاذ العلاج الفعال للتغلب على الاختلالات الجوهرية فى الاقتصاد القومى التى جاءت نتيجة لتراكمات على مدى أربعين عاما سابقة.
وقد أعلنت وزارته بوضوح أن الوضع الاقتصادى لم يعد يحتمل الحلول الوقتية أو المسكنات العارضة، وأنه لابد من العمل على التوصل إلى حلول جذرية تقضى على جذور تلك المشاكل.
وأعدت وزارته الخطط المختلفة لتصحيح مسار القطاع العام والتحول التدريجى للمشروعات العامة إلى القطاع الخاص بدءا بمشروعات المحليات فى المحافظات المختلفة، وفيما بعد وقت قليل أدرك المراقبون أن السياسات الاقتصادية التى انتهجتها حكومته لتصحيح المسار الاقتصادى كانت سياسات متميزة ومتزنة ومتدرجة، وقد مكنت إلى حد كبير من التغلب على الخلل الاقتصادى الذى عانت منه مصر طيلة عهد ٢٣ يوليو.
وفى بداية التسعينيات أجرت وزارته مباحثات مكثفة مع صندوق النقد والبنك الدوليين أسفرت عن الصياغة النهائية للاتفاق المصرى مع هاتين الهيئتين الدوليتين بما حقق نقطة انطلاق إلى مستقبل اقتصادى أكثر استقرارا تحقق به الأمل فى التوازن بين السياسات الاقتصادية والاوضاع الاجتماعية وحماية محدودى الدخل فى الوقت نفسه.
وقد نجحت حكومته فى تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة، مما أدى إلى تثبيت مستويات أسعار السلع والخدمات طيلة فترة وجوده فى الوزارة، وحتى مطلع الفترة التالية لخروجه منها قبل أن تبدأ الوزارات التالية لوزارته بعض سياسات عبثية.
كذلك نجحت السياسات النقدية وسياسات سعر الصرف التى انتهجها فى تحقيق الكثير من النتائج الإيجابية، وكان أبرزها تثبيت سعر الصرف وتشجيع المواطنين على تحويل حساباتهم من الدولار والعملات الأجنبية الأخرى إلى الجنيه المصرى، وهو ما افتقدته مصر بعد خروجه من الوزارة.
تعددت الإنجازات التى تمت فى عهد وزارات الدكتور عاطف صدقي الثلاث فى عدد من المجالات الحيوية، وكان منها: المضى بخطوات حثيثة فى مشروعات توفير مياه الشرب النقية، والصرف الصحى، واستصلاح الأراضى، والتليفونات والسكك الحديدية، ومترو الأنفاق، كما تمت إقامة الآلاف من المدارس والمساجد، والوحدات الصحية، والوحدات السكنية ومشروعات المدن الجديدة، ورصف الطرق، وتمت إقامة عدد من المحطات الكبرى فى مجالى المياه والكهرباء.
وقد نجح الدكتور عاطف صدقي فى أن يوظف قدراته العلمية المتميزة، ومواهبه النظرية فى الإدارة، وشجاعته الهادئة فى مواجهة المشكلات
كذلك بدأت الحكومة في عهد الدكتور عاطف صدقي توجهات ناجحة وتدريجية من أجل تبسيط الإجراءات الإدارية، والحد من البيروقراطية، وتحرير التجارة الخارجية، وترشيد سياسة الاستيراد، والعمل على سد العجز فى الموازنة العامة، وضغط الإنفاق الحكومى، وتحرير الاقتصاد القومى، وتشجيع الاستثمارات فى كافة المجالات، وتخفيف أعباء الديون، ووضع حلول للشركات الخاسرة والمتعثرة، ومراعاة العدالة الاجتماعية، وزيادة الأجور لمواجهة الزيادة فى الأسعار.
وقد نجح الدكتور عاطف صدقي فى أن يوظف قدراته العلمية المتميزة، ومواهبه النظرية فى الإدارة، وشجاعته الهادئة فى مواجهة المشكلات من أجل وضع سياسة الإصلاح الاقتصادى موضع التنفيذ الفعلى مما مهد لمواجهة المشاكل الاقتصادية المتراكمة، مواجهة علمية مباشرة، مع إدراك للبعد الاجتماعى للإصلاح الاقتصادى مما جعل من الإدارة العليا فى عهده نموذجا فريدا فى الأداء العلمى والعمل المتميز.
ولعلي أكرر هنا بعض ما كنت قد كتبته في تهنئته بحصوله على جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية بعد سنوات من تركه لرئاسة الوزارة حيث قلت إنه كان واحدا من القلائل بل من النوادر في تاريخ مصر الحديث الذين تحقق للوطن على أيديهم كثير من الخير واليمن والتقدم والتحديث والتنمية والإصلاح والرقى والازدهار والاستقرار، فقد كان نموذجاً بارزاً متجسداً للعلماء الذين يعرفون قدر نفوسهم، ويعرفون حقوق الوطن عليهم فيحتفظون لأنفسهم بحقوقها من الاحترام الواجب والثقة المتزنة دون أن يجعلهم هذا يبخلون على وطنهم أو على أبنائه بما حباهم الله به من قدوة وقدرة وقوة ، و كان كذلك من العاملين المخلصين الذين يجيدون العمل ويجيدون الحديث عن عملهم بتجنب الحديث نفسه إلا إذا ما أصبح القول جزءاً مكملا للعمل لايكتمل الإنجاز بدونه، وكان حريصاً على أن يحجم عن التصريحات والتبشيرات والإرهاصات والتلميحات والاشارات إلى أن يصبح مشروع القانون كامل النضج فاذا تصريحه يقتصر على القانون، وإذا شرحه يقتصر على مذكرته التفسيرية ، وإذا تبشيره يتحول إلى فكرة سائرة على قدمين، وإلى معتقد لا يلبث شعبه كثيراً حتى يعتنقه ويدافع عن وجوه الصواب فيه.
كان الدكتور عاطف صدقي سياسيا صبورا دءوبا، ولعله كان أبرز من حولوا الصبر إلى دأب إيجابى، فهو لم يكن يصبر على المشكلات التى يواجهها منتظراً دور الزمن فى حلها ، ولكنه كان يحيل هذا الصبر إلى دأب يتناول كل جزئية من هذه الجزئيات بالدراسة والحل حتى ينتهى منها فينصرف إلى غيرها من الجزئيات ، وهكذا فإنه فى قيادته للإصلاح الاقتصادى كان يتغلب على الآثار الجانبية وعلى المضاعفات فى الوقت الذى كان يتابع فيه العلاج.
وقد ساعدته ثقافته الرفيعة وتمكنه العلمى المتميز وأصوله النبيلة على أن يدرك ما عجز عنه مناظروه ومعاصروه ومنافسوه من أن جوهر الحكمة يكمن فى الاستمرار فى منهج الإصلاح، حتى لو تصاعدت ظواهر مبكرة لمضاعفات أو آثار جانبية لهذا المنهج.
ولهذا السبب ، فإنه استثمر ما نماه فيه خلقه وفكره من التعادلية العلمية والفكرية فنأى بنفسه عن أن يكون مبشراً بكل ما يقتنع به، وتحول إلى صورة الحكيم الذى ينصح بالدواء من دون أن ينكر آثاره الجانبية المحتملة مهما بدت نسبة حدوثها ضئيلة الاحتمال، وقد كان حريصا على أن يشير ويوصى ويمضى فى سبيل إنشاء المؤسسات والإدارات الكفيلة بعلاج الآثار الجانبية لخطط الإصلاح التى أشار بانتهاجها أو قرر الأخذ بها ، وهكذا كانت محصلة إنجازاته أقوى من أن تتأثر بعواصف السياسة وأعاصيرها.
وقد تميز الدكتور عاطف صدقي بسعة أفق من طراز نادر مكنته من أن يتجنب ويتحاشى صياغة آرائه وإصلاحاته وقراراته وسياساته ممتزجة بأية نزعة أيدولوجية، على الرغم من قدرته غير المحدودة على الأدلجة، ولكن عنايته بثمار استراتيجيته كانت أكبر من أن يبحث لها عن تصفيق سريع هنا أو تشجيع عال هناك .
وقد بلغ به علمه وعقله أنه لم يورط نفسه فى اختراع أو تلفيق أو تطوير لما هو مستقر فى أدبيات الاقتصاديات العالمية وإنما كان ينفذ خطط الإصلاح على نحو ما استقرت فى الأدبيات العلمية بكل تشريعاتها ونظمها وحوافزها وقيودها، ولم يندفع ولا تورط فى وضع « التعديلات» قصيرة النظر عليها من أجل أن يحظى بموافقة توجهات صانعة للرأى العام أو مؤثرة على اتخاذ القرار من أى نوع أو طراز ، ولم يكن هذا وحده بكاف لتحقيق ما حقق من نجاح لولا أنه فى المقابل قد تغلب بالإقناع على المعارضات المتوقعة لخططة بإنفاذ العلاج على نحو متدرج، وبالصبر على الثمار حتى تؤتى أكلها فيصبح الإثمار الحقيقى والمبكر أكبر عامل مؤازر في إقناع القوى السياسية بقبول سياساته وإصلاحاته.
وقد تميز عاطف صدقي طيلة مسيرة حياته بالتواضع، وكان تواضعه يزداد كلما ارتفع مقامه
وقد جمع الدكتور عاطف صدقي إلى تفوقه الأكاديمى ونجاحه السياسى رحابة صدر لا حدود لها، فكان أكثر الناس ترحيبا بالنقد وتقبلا له، ولم تدفعه اقتناعاته إلى التقليل من شأن منتقديه، بل كان يتلمس لهم العذر لأنه يعلم أنه يعرف ما لايعرفون ويدرك ما لا يدركون ، ويملك ما لا يملكون، ويسأل عما لايسألون عنه ، وكانت رحابة صدره خلقا طبيعا ذاتيا كالتنفس يمارسه دون إدعاء ودون انتظار للحصول على الثناء عليه ، وهكذا فإنه لم يفاخر أبدا بسعة صدره ولا برحابة فكره، كما أنه لم يفاخر برجاحة عقله أو صواب منطقه، وظلت ثقته فى نفسه تعبر عن نفسها يوما بعد يوم بالصورة الأبلغ من التعبير، وهى أن تكون الثقة فى النفس حقيقة وطبيعة، وخلقاً ، وسمة وملحماً دون حاجة إلى إثبات أو برهنة أو دليل أو طنطنة أو شقشقة أو سفسطة.
وقد تميز عاطف صدقي طيلة مسيرة حياته بالتواضع، وكان تواضعه يزداد كلما ارتفع مقامه، وارتفعت درجته، كما كان تواضعه صادقاً ومحببا إلى النفس لأنه ظل على الدوام خاليا من الاصطناع متجرداً عن القصد، فهو متواضع لأنه يحب التواضع ويعيشه، لا لأنه يحب أو يتمنى أن يقال عنه متواضع، أو ليتغلب بهذا التواضع على رغبات دفينة بالتعاظم أو التسلط.
أما صفاته البارزة التي لم يكن من الصعب إدراكها على حقيقتها فثلاث: حبه للخير، واحترامه للغير، وذاكرة فولاذية، فأما حبه للخير فكان لا حدود له ، فهو لم يقف فى طريق إنسان كائنا من كان مادامت رغبته مشروعة أو ما كانت حاجته قائمة، ولم يتعسف فى تفسير أى نص قانونى من أجل الحد من مصالح مرءوسيه أو مواطنيه، بل كان على النقيض أميل لخدمة أكبر عدد ممكن من الشعب مادام هذا ممكنا أو جائزا أو محتملا ، وكان يستعين بسلطته التنفيذية والأبوية على توفير التمويل حين يكون التوسع فى منح المزايا مكلفا .
أما احترامه للغير فقد لا يتبدى إلا إذا تأملنا بعمق وتعمق علاقته بأقرانه ونظرائه ومعاصريه من الساسة والعلماء والأكاديميين به، وهي علاقة حسنة فى مجموعها جميعا، ولكن الفضل فى هذا كان يعود إليه بأكثر ما يعود إلى أقرانه، ويكفي أنه حظي بقبول فائق عند رئاسته المستمرة للجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، وفى رئاسته للجنة قطاع الدراسات الاقتصادية فى المجلس الأعلى للجامعات، وفى غير هذا من مواقع العلم والتعليم والبحث.
أما ذاكرته الفولاذية فكانت قادرة على الانتقاء لأنها لا تنشغل بتوافه الأمور، ولا بمثالب البشر، ولكنها تنتبه إلى ما فى شخوصهم من مزايا، وما في جواهرهم من فائدة، وما في إنجازاتهم من قيمة، وكان قادراً على أن يثنى على مَنْ يبدو مجهولا تماماً بموقف مشرف وقفه ذات يوم ثم نسيه التاريخ، كما أنه فى الوقت ذاته كان قادرا على أن يجد فى أصحاب الشقاوة بعض ملامح المهارة التى لابد من استثمارها لمصلحة المجتمع المصرى المعاصر
كان الدكتور عاطف صدقي موفقا إلى حد بعيد فى اختيار معاونيه، وقد ساعده على هذا ثلاثة أمور:
أولها: أنه لم يعرف عنه فيما قبل وصوله إلى رئاسة الوزارة تكوين طوائف متملقين من حوله ، ولهذا وفق فى تجنب التورط فى كثيرين ممن كانت ترشحهم الأضواء للتساقط المبكر على مائدته.
وثانيها: أنه لم يكن من أنصار الآراء العمومية فى الشخصيات ولا الأفكار سابقة التجهيز عن رجال العمل العام.
وثالثها: أنه كان يقدم التفكير فى الوظيفة على التفكير فى الشخص، وليس سراً أن بعض اختيارته جاءت نتيجة استيفاء مَنْ اختير لمواصفات وضعها لمن يشغل الوظيفة، بل يمكن القول بأن كل الذين عملوا معه من دون معرفة مسبقة جاءوا بهذه الطريقة .
أكسر هذا الحديث بطرفة من طرف الحياة العامة فقد كان هناك مسؤول تولى رئاسة هيئة مهمة في عهد عاطف صدقي لكنه لم يكن يتمتع باللمعان الذي يناسب وظيفته
ومع هذا كله فإنه قد استثمر معلوماته الوظيفية السابقة كلها فى الإفادة من كل مَنْ عرفهم فى مواقع تتناسب مع مؤهلاتهم وكفايتهم، وبعض وزرائه مروا بالوزارة المهمة مرور النسيم دون أية مشكلة أو بروز مقلق أو استثناء مؤرق، وخرجوا منها على نحو ما كانوا فيها وما كانوا قبلها وهم من أبعد الناس على الأضواء والضجيج، ولكنهم مع هذا أنجزوا ما لم ينجزه أسلافهم ولا خلفاؤهم، وما كان لهم أن يعملوا وزراء ناجحين ولا أن يقبلوا هذا العمل من أساسه لو لم يكن عاطف صدقى هو رئيس الوزراء .
أكسر هذا الحديث بطرفة من طرف الحياة العامة فقد كان هناك مسؤول تولى رئاسة هيئة مهمة في عهد عاطف صدقي لكنه لم يكن يتمتع باللمعان الذي يناسب وظيفته التي كانت لها من الامكانات المادية ما يجعلها قادرة على شن حملات إعلامية تبرز جهده ، لكنه كان زاهدا في هذا الضجيج ، الذي كان كفيلا بنيله الوزارة بسرعة ، وحدث أن أحد المهندسين المخضرمين علق على هذا الوضع تعليقا فكاهيا وهو أن هذا الرجل الجيد في أداء مهمته وغير المشهور بالحديث عن نفسه كان من اكتشافات الدكتور عاطف صدقي ، فسأله السامعون من أين عرفه ؟ إنه مهندس؟
قال محدثنا المهندس المخضرم وهو مستمر في تصويره الطريف : إن الدكتور عاطف صدقي أخذ ذات يوم يرتب دولاب ملابسه القديم في بيت والده فوجد في جيب داخلي من جيوب إحدى بدلاته تذكرة أتوبيس هيئة النقل العام حين كان يركب الأتوبيس ولأننا لا نحتفظ بالتذاكر إلا إذا كنا قد اضطررنا إلى كتابة شيء على ظهرها ونحن في الأتوبيس ، فإنه قلب التذكرة فوجد في ظهرها اسم ذلك المهندس، فحمد الله على أنه وجد اسمه أخيرا فقد كان يفكر فيه ولا يتذكر اسمه فسأله عنه، ووجده وجاء به لهذا الموقع، والذي لم تكن له علاقة إلا ركوب الأتوبيس مرة واحدة مع الدكتور عاطف صدقي لكن هذه المرة كانت كافية لأن يكتشف الدكتور عاطف في هذا الرجل تلك القدرة التي استفادت بها مصر.
ولعل هذا التصوير الشيق مع فكاهته يدلنا على تقدير الدكتور عاطف صدقي لكل من عرف تفوقهم في أي شيء.
سألت رئيسا لمجلس إدارة شركة الشرق التأمين هو الدكتور برهام عطا الله كيف أتى من منصبه كأستاذ للقانون المدني في حقوق الاسكندرية ليتولى هذه الشركة فروى لي أن الدكتور عاطف صدقي اتصل بالعميد الذي كانت تربطه به صلة صداقة وسأله عن أساتذة القانون المدني لأنه يريد أن تنضبط أمور هذه الشركة الرائدة على يد أستاذ من أساتذة القانون المدني، وهكذا جاء ترشيحه واختياره سلسا وبدون أية متاعب ولا توقعات ولا عرقلات ولا منافسات.
أذكر في هذا الصدد تجربة صديق معروف تولي إنجاز الببليوجرافيا القومية في تخصصه ، فلما رآها الدكتور عاطف صدقي سأل عنه وعرفه ، ثم بعد سنتين سأل إن كان يقبل ترشيحه له لرئاسة دار الكتب التي كانت على وشك الانفصال، لكن الصديق اعتذر بأنه يبني مجده في تخصصه، فقبل الدكتور عاطف صدقي اعتذاره على مضض، بينما كان المتطلعون إلى المنصب قد عرفوا بوسائلهم في استراق السمع بالخبر، وتعجبوا كيف استطاع الدكتور عاطف صدقي الوصول إلى هذا الصديق بالذات على الرغم من عدم سعيه بل حتى إلى عدم تحمسه للاختيار ، وفيما بعد بسنوات عرفوا السبب بوضوح.
وقد ظلت الدولة متمسكة بطريقة عاطف صدقي في الاختيار حتى غادرنا مصر الحبيبة في ٢٠١٣ ولا ندري ماذا حدث بعد ذلك
كان الدكتور عاطف صدقي يجيد اختيار الأشخاص للوظائف العامة، وعلى سبيل المثال فإنه باعتباره أول وزير لقطاع الأعمال العام هو الذي رسم باختياراته الهيكل الدقيق للتشكيلة التي يتم اختيارها لمجلس إدارة كل شركة قابضة والجمعية العمومية لها ، وليس هذا بالأمر السهل، لكنه بسعة أفقه كان حريصا على إبداع ما نسمية بتشكيلة الطيف الواسع القادر على تقديم الحلول لإدارة الشركة من ناحية مجلس الإدارة أو ما يتعلق بملكيتها ومحفظتها من ناحية الجمعية العمومية.
وقد ظلت الدولة متمسكة بطريقة عاطف صدقي في الاختيار حتى غادرنا مصر الحبيبة في ٢٠١٣ ولا ندري ماذا حدث بعد ذلك ، وإن كنا لا نظن أن الأمر في ظل ما تأسس من قبل من الانضباط يتحمل السماح بانحرافات كبيرة في التشكيل أو التكوين على حد سواء، أي أن النظام المرن الذي وضعه عاطف صدقي في صمت منذ بداية التسعينات ظل هو النظام القائم على هيكلة هذه الشركات لمدة عشرين عاما، وهي أطول مدة في إدارة الأصول المملوكة للدولة منذ 23 يوليو .
ولعل أحد الأمثلة الناجحة فى تقييم جوهر شخصية الدكتور عاطف صدقي وإدراك سموها يكمن فى تأمل علاقته بالأرقام، فقد كان يحترم الأرقام ويعول عليها كأداة لوضع الخطط والتصورات والحلول ومجابهة المشكلات والطموحات، ولم يكن يعول عليها لإظهار قدرته الظاهرية على الاستيعاب، ولا لإظهار قدرته على المزايدة على أحلام الجماهير واستخدام الأرقام بتعسف يفوق طاقاتها على التحمل، وكان يوظف الأرقام لما خلقت له ولم يكن يوظفها فى الفخر أو الخداع، ومن ناحية أخرى فإنه ظل معنيا بالأرقام المهمة ذات المعنى ، التى يترتب على معرفتها والإلمام بها التحول الهادئ إلى مسار أكثر صوابا، ولم يكن معنيا بالأرقام الكثيرة المملة التى تبدو وكأنها تنفى تهمة التقصير أو مغبة الجهل فحسب .
ومن الإنصاف أن نقول إنه لم يحدث تفعيل لأفكاره وارتقاء بها ودفع للأمام لفكرة الاصلاح الاقتصادي فيما يتعلق بمؤسسات المال العام والاستثمار إلا على يد الدكتور محمود محيي الدين وبخاصة أنه جمع قطاع الأعمال العام مع قطاعات أخرى تحت اسم الاستثمار، أما فيما بين عاطف صدفي كوزير لقطاع الاعمال حتى 1993 ومحمود محيي الدين كوزير للاستثمار منذ 1994 فقد سارت الأمور بقوة النظام وبالدفع الذاتي في عهد عاطف عبيد كوزير لقطاع الأعمال العام ( في وزارة عاطف صدقي الثالثة وفي وزارة الجنزوري) وقد كان الرجلان( الدكتور الجنزوري و الدكتور عاطف عبيد ) يؤمنان بقدرات عاطف صدقي كما يؤمنان بالدفع الذاتي بل و يعتقدان في أهمية القصور الذاتي ، ثم نجح الدكتور مختار خطاب وزير قطاع الأعمال العام في وزارة عاطف عيد في أن يحافظ على زخم النجاح الذي كان حققه عاطف صدقي رغم اختلافهما في المدرسة العلمية والتوجهات السياسية .
ثم جاء الحل الذكي بالنظر إلى قطاع الأعمال العام في إطار الاستثمار وفي إطار العمل على عودة اهتمام الدولة بإدارة الاقتصاد وهو الاهتمام الذي كان قد تقلص بحكم كثرة خلافات يوسف بطرس غالي مع محافظ البنك المركزي وهو الاختلاف الذي لم يكن له حل إلا بالتضحية بوزارة الاقتصاد نفسها وبقاء بطرس غالي كوزير للتجارة الخارجية فقط وتوزيع قطاعات وزارة الاقتصاد على أكثر من وزارة.
فلما أصبح الدكتور محمود محيي الدين وزيرا للاستثمار في وزارة نظيف، وانشغل الدكتور يوسف بطرس غالي بوزارة المالية واستولى على التأمينات معها عادت الفرصة أمام مصر لاستئناف خطوات الاصلاح الاقتصادي المنهجي الذي بدأه عاطف صدقي والذي لم يكن عاطف عبيد ولا يوسف بطرس غالي قادرين عليه، لأسباب فكرية و منهجية ، وهكذا أصبحت هناك هيئة للرقابة المالية، وأعيد تنظيم كل الهيئات المرتبطة بالنشاط الاقتصادي بعد أن هدّم الدكتور كمال الجنزوري والدكتور عاطف عبيد كثيرا من مقومات هذا البناء الذي أنجزه الدكتور عاطف صدقي بدأب واقتدار.
ومن العجيب في هذا الصدد أن رجال الأعمال المصريين أنفسهم كانوا في أغلبهم من هواة خرق السفينة
وفي حقيقة الأمر فإن التاريخ الاقتصادي لمصر سيقف أمام تطور الأمور في مجال عمل واختصاص وزارة الاقتصاد والاقتصاد المصري ليشهد بأن الجهود التي توقفت وانتكست بخروج عبد الجليل العمري وعلي الجريتلي في ابريل ١٩٥٤ بعد أزمة مارس ١٩٥٤ لم تستأنف إلا على يد د. عاطف صدقي (١٩٨٦ – ١٩٩٦) ثم على يد د. محمود محيي الدين (٢٠٠٤- ٢٠١٠) أي إلى أن آثر أن ينتقل بنشاطه إلى المحيط الدولي لما وجد أن الانتكاسات تفوق قدرته على التحمل.
ومن العجيب في هذا الصدد أن رجال الأعمال المصريين أنفسهم كانوا في أغلبهم من هواة خرق السفينة، وعدم الوعي بخطورة خرق السفينة، ولهذا فإنهم كانوا ينتهزون كل فرصة لخرق السفينة فيشجعونها وهم لا يعرفون أنهم يغرقون أنفسهم.
وأذكر أني كتبت في هذا المعنى فصادفت استجابات ممتازة لكنها كانت هامشية التأثير ، ثم جاءني ذات مرة من طلب مني أن أضع تصورا للمستقبل مع إعطائي الحرية الكافية والأمان الكامل، وقد وضعت تصورا كان أكثر سوادا مما حدث، ولهذا فإني بعد الثورة المضادة التي أعقبت ثورة ٢٠١١ وحاولت أن توازيها (ثم غدرت بها في ٢٠١٣) لم أكن أفاجأ بتصورات وتطورات الثورة المضادة، ذلك أني كنت قد درست وتأملت فيما هي مقدمة عليه حتى من قبل قيام ثورة ٢٠١١.
وهنا يكمن الفارق الكبير بين وجود شخصيات طغاة مستنيرين يفهمون في الاقتصاد من قبيل اسماعيل صدقي باشا ١٨٧٥- ١٩٥٠ وطغاة آخرين لا يفهمون في الاقتصاد ولا في غير الاقتصاد، ولهذا السبب فإنني في كتابتي عن النحاس باشا وعن صدقي باشا على حد سواء أشرت إلى أن كلا الرجلين كان يستأنف جهود الآخر في مجالات الاقتصاد والاصلاح الاقتصادي دون أدنى حرج أو غيرة أو ادعاء حتى أن بنك التسليف الزراعي ينسب إلى صدقي باشا وينسب إلى النحاس باشا أيضا، فأحدهما أعد المشروع والآخر أصدر القانون وهكذا …. وهكذا. لكن السلطة في منطق الدولة الشمولية لا تعترف بهذا وتميل إلى الزعم بأن مرجعيتها فرعونية مقتدية بما كان يفعله بعض الفراعنة من طمس معالم أسلافهم أو نسبتها إلى أنفسهم، وبئس القدوة.
كنا في افتتاح المؤتمر السنوي لجمعية القلب المصرية وجاء الدكتور عاطف صدقي لحضور حفل الافتتاح في هيلتون النيل مجاملة لطبيبه المصري وصديقه أستاذنا الدكتور علي رمزي ومجاملة للجراح الأمريكي لوب الذي أجرى له جراحة الشرايين التاجية في كليفلاند كلينك وكان ضيفا على المؤتمر في تلك السنة ، فلما انتهى حفل الافتتاح وخرجنا لتوديعه عند الباب سمعته يقول للدكتور علي رمزي: إنه سيتوجه لمكتبه لمدة ساعة ينجز فيها بعض الأعمال ويراجع الكلمة التي سيلقيها في مجلس وزراء الاقتصاد والمالية العرب، فتعجب الدكتور علي رمزي من أن يهتم رئيس الوزراء بكلمة بروتوكولية مثل هذه ، لكن الدكتور عاطف صدقي أنهى إليه أن هؤلاء في معظمهم مثقفون يجيدون اللغة العربية ويجيدون الاقتصاد وأنهم يتطلعون إلى أن يسمعوا منه في كلمته فكراً جديداً أو تلخيصاً للتجربة التي يخوضها لأنهم ينوون المضي في سبل مشابهة.
أبدى أستاذنا للدكتور علي رمزي تعجبه من أن يكون الحال كما يصف الدكتور عاطف صدقي لأنه تعود كما تعودنا أن تكون هذه الكلمات بروتوكولية بحتة و نمطية مكررة تسد فراغاً فحسب، لكن الدكتور عاطف صدقي عقب بقوله إنها في العادة كذلك، لكن للاستثناء حكمه، والظرف الذي يمر به العرب والعالم يستدعي مثل هذا الاهتمام غير المعهود من الوزراء العرب بالفكر الاقتصادي.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فقد كان الدكتور عاطف صدقي معجبا إلى أكبر درجة بالأداء الاقتصادي لتركيا في الحقبة التي تولت فيها السيدة تانسو تشيلر رئاسة وزراء تركيا، وكان يتمنى أن تصل مصر إلى مثل هذا المستوى في الأداء الذي يمكن أستاذة مثل هذه السيدة بجمالها وشخصيتها أن تخدم مصر من مثل هذا الموقع المتقدم.
عرف عن الدكتور عاطف صدقي حين كان مستشاراً ثقافيا لمصر في باريس قدرته على تحمل اندفاعات وحماقات المبعوثين الذين كانوا يتمثلون بالمجتمع الفرنسي في حريته وينسون أن المكتب الثقافي والسفارة في النهاية ليسا إلا جزءاً من مصر بكل ما فيها، وقد حدثني كثيرون منهم تصرفاتهم الأقرب إلى الحماقة منها إلى الحماسة وهم يشهدون للرجل بأنه لم يسع ضدهم في أي إيذاء ولا انتقام على الرغم من علو صوتهم، ورعونة تصرفاتهم، ومن الحق أن نقول إن هذه الخلفية قد أفادت الدكتور عاطف صدقي كثيراً فيما بعد ذلك.
فسألته عن حاله في المنصب الجديد كمشرف على المجالس القومية المتخصصة فإذا به بدون أن يفكر يجيبني باللفظ الإنجليزي الذي يعني بؤس ذلك المنصب
بعد أن ترك الدكتور عاطف صدقي رئاسة الوزراء بشهر قابلت أحد أصدقائه من رجال القضاء الكبار الذين صار لهم شأن كبير بعد هذا، وكان هذا المستشار في ذلك الوقت، وقبل ذلك الوقت ، واعداً صاعداً وسألته عن الدكتور عاطف الذي كان يحبه حبا جماً فأجابني بأنه في أحسن الأحوال وفي غاية السعادة بالراحة بعد الإنجاز الشاق، وما صحبه من إرهاق متصل وإجهاد وتوتر عصبي ، فسألته عن حاله في المنصب الجديد كمشرف على المجالس القومية المتخصصة فإذا به بدون أن يفكر يجيبني باللفظ الإنجليزي الذي يعني بؤس ذلك المنصب ، وانطلق مباشرة إلى وصف حال هذا المنصب فالمكتب كما نعرف في الدور التاسع في المبنى الذي يسميه الجيل الجديد مبنى الحزب الوطني ويسميه الجيل الأكبر من الجيل الجديد أي جيل المستشار الكبيرالذي كنت أحادثه: مبنى الاتحاد الاشتراكي، أما جيل والدي عليه رحمة الله فكانوا يُظهرون الامتعاض من هذه السرقة العلنية لأن المبنى أساساً هو مبنى بلدية القاهرة كما خططه وطلبه النحاس باشا، وقد عاشت فيه محافظة القاهرة في عهد 23 يوليو إلى أن جاء وقت وأراد الاتحاد الاشتراكي أن يستولي عليه فاستولى عليه وانتقلت محافظة القاهرة إلى مبنى الحرس الملكي الذي تشغله الآن بجوار قصر عابدين.
أفكر في أن أحذف هذا الاستطراد الذي قادني القلم إليه ثم أقول لنفسي: يا محمد إنك في نهايات عمرك، وإذا لم تسجل مثل هذه الحقائق ولو من باب الاستطراد فلن يسجلها أحد.
ونعود للدكتور عاطف صدقي وهو مشرف على المجالس القومية المتخصصة التي تحتل طابقاً من هذا المبنى الذي يحفل بالبنوك الاستثمارية في أدواره الأولى، وقد استبقى الاتحاد الاشتراكي لحزب مصر العربي الاشتراكي بعض أجزاء المبنى، ثم استولى عليها الحزب الوطني باعتباره حزب الحاكم وليس الحزب الحاكم، وهذا استطراد آخر كان لا بد منه .
ولا بد من الاستطراد الثالث الذي نشير به إلى أن هذا المبنى هو الذي أحرق جزء منه في ثورة يناير 2011 كتعبير عن الضيق من الحزب الوطني ولجنة السياسات.
حدثني المستشار الجليل فقال: تصور أن الدكتور عاطف بعد الموكب الذي كان ينتظره بسيارات الحراسة والدراجات البخارية التي تخلي الطريق أمام سيارات الحراسة ثم السيارة المصفحة أصبح الآن إذا أراد أن يغادر هذا المبنى إلى سيارته سبقه أحد أفراد مكتبه وأخذ يدق على باب الأسانسير مناديا التاسع.. التاسع حتى يغلقه من تركه مفتوحا ، ويتحرك به إلى التاسع حيث يقف الدكتور عاطف صدقي في انتظاره.
قلت للمستشار العظيم : لكن طبيعة الدكتور عاطف صدقي أنه محاط دائماً بأحبابه فلن يخرج من مكتبه إلا وبصحبته صديق يتحدث إليه حتى إنه لا يحس بأن المصعد تأخر أو تقدم، ابتسم المستشار العظيم وقال: أتمنى أن يفكر 10% من الناس بطريقتك المتفائلة، هل تعرف أنه لو تفاءل 10% من الناس بمثل ما تتفاءل لانتهت مشكلات مصر. قلت للمستشار العظيم: لكن مكانة الدكتور عاطف صدقي لم تكن تسمح له بأن يتولى أي منصب آخر، فهل يليق باسمه الكبير جداً أن يكون رئيسا لبنك مهما كان شانه حتى لو كان المصرف العربي الدولي، أجابني الرجل معك حق ، لكنك تعرف أن مصروفاتنا في هذا السن تعتمد على ما هو متاح لنا ، وأنا أتصور (وكان قد بدأ يتحرج وهو يبدأ الحديث في هذه النقطة ) أن الدخل الذي يأتي من منصب كرئاسة البنك سيساعد صاحبه على قدر من الراحة، وعلى اختيار الرحلة الممتعة أو الإجازة الممتعة في مثل هذا السن.
أجبت المستشار العظيم بما لم يكن يتصور أن يسمعه، وهو أن العسكريين وعلى رأسهم الرئيس مبارك بالطبع لا يفكرون أبداً بهذه الطريقة، فالمتعة والرحلة والإنفاق عندهم يرتبط بموازنات أخرى تختلف عن موازناتنا، فحتى في الخارج فان لهم فنادقهم التابعة لقواتنا المسلحة في واشنطن ولندن وباريس فإذا كان لهم نفوذ وهم في التقاعد فسيرتب لهم كل شيء ، وإذا لم يكن لهم نفوذ فلن يسمح لهم أصلا بالتحرك من البيت الذي هم فيه.
استرجع المستشار معلوماته عمن يعرفهم من القادة الكبار، وفوجئت به يقول: صح.. عندك حق.. ثم أخذ يتعجب ويبدي بعض الإعجاب في نفس الوقت بهذا النظام المحكم للعسكريين المصريين الذين يظلون حتى وهم متقاعدون في قبضة القوات المسلحة.. ثم سألني هل تعتقد أن شخصا مثلي أو مثلك يستطيع أن يشير عليهم بتحرير هذا النظام القابض أو التحررمنه أو السماح بالتحرر منه ولو بدرجة واحدة ؟ فأجبته أنهم سعداء بهذا إلى أقصى حد، وأنهم لا يتصورون أنفسهم بدون هذه المنظومة التي تنسق نظام الترفيه والتصنيف والتسفير والتفويج والحج والعمرة. . الخ.
كان الحوار بالطبع سريعاً يعتمد على الإشارات والإحالات ولم يستغرق عشر معشار الوقت الذي لخصناه فيه، ثم سألته هل يستمتع الدكتور عاطف صدقي بهذه المهمة الجديدة، فقال إن استمتاعه بهذا المنصب استمتاع ثقافي، حيث يعرف عن قرب من لم يكن قد عرفه من قبل، ويتصل به من لن يكن قد اتصل به، كما أنه يشاهد أطيافاً من النخبة وهي تتحدث بأساليب متنوعة ، لكنه مع هذا كله يحس بنعمة كبيرة إذ يحس بأنه لم ينتقل من مجلس الوزراء فقد أصبح المستشار أحمد رضوان الذي كان وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء هو المسئول عن أمانة المجالس القومية وهكذا أصبح الرجل الثاني الذي كان يتحدث معه في مجلس الوزراء هو نفسه الرجل الثاني الذي يتحدث معه في المجالس القومية المتخصصة، قلت: هذا من فضل الله ، فالمستشار أحمد رضوان رجل نادر الوجود، وقد رزق الله الدكتور عاطف صدقي به بفضل حسن نيته، قال: نعم.
ثم تظاهرت بأني أمرر للمستشار العظيم ان الدكتور مصطفى خليل بدأ يعاني من صحته، وأنه ربما يعتذر عن قريب عن رئاسة المصرف العربي الدولي وساعتها يكون من حق الدكتور عاطف صدقي أن يحل محله فسألني عن عمر الدكتور مصفى خليل فقلت له إنه مولود في 1920، قال متعجبا : ١٩٢٠ لقد كان وزيراً في 1956 قلت: نعم ، هو وعزيز صدقي كانا في السادسة والثلاثين حين أصبحا وزيرين، قال وسيد مرعي قلت كان أكبر بدرجة بسيطة فهو مولود 1913 .. فسألني هل هناك مدنيون معهم ممن استمروا مع عبد الناصر قلت: نعم كان هناك مدني سبقهم من 1954 وهو الدكتور عبد المنعم القيسوني وهو من مواليد 1916 .. قال: القيسوني.. القيسوني.. القيسوني
ثم عقب بالقول: عشنا على سيرة القيسوني كثيراً جداً ، فأضفت له إن الرئيس أنور السادات نفسه في أحد حكاويه حكى أنه استبدل جزءاً من معاشه بقرض فوري تقاضاه من الحكومة تبعا لنظام وضعه أو قننه القيسوني، وكان نظاماً شبه ظالم.. لكنه أي السادات في رأيي استمتع بهذا القرض بما لم يكن سيستمتع به بعد موته ..
قال المستشار: نعم كثيراً ما نفكر في المستقبل وننسى الحاضر ، قلت لكن السادات كان لا ينسى الحاضر ويتظاهر بأنه يفكر في المستقبل فأعجبه التعبير، ثم سألني : هل صحيح ما أذكر أنني قرأته في الصحف من أن القيسوني اشترط أن يحتفظ برئاسته للمصرف العربي الدولي حتى يعود إليه إذا ترك منصبه الوزاري قلت : هذا هو ما كان يتردد عندما قبل الاشتراك في وزارة ممدوح سالم .
قلت: إن القيسوني لم يكن يقول لا للرئيس جمال عبد الناصر ، وهذا هو سبب كل مشكلاتنا، قال وهل تظن أن الدكتور عاطف صدقي مع حبنا له لو كان مكان القيسوني كان يستطيع أن يقول لا للرئيس جمال عبد الناصر؟
ثم قال: أنا لا أعرف القيسوني إطلاقا إلا من تاريخ طويل ، فحدثني عن الفرق الجوهري بين الدكتورالقيسوني والدكتور عاطف ، قلت: إن القيسوني لم يكن يقول لا للرئيس جمال عبد الناصر ، وهذا هو سبب كل مشكلاتنا، قال وهل تظن أن الدكتور عاطف صدقي مع حبنا له لو كان مكان القيسوني كان يستطيع أن يقول لا للرئيس جمال عبد الناصر ؟ قلت: نعم ففغر المستشار فاه من الدهشة ، وسألني : هل أنت جاد في هذا الذي تقول، فقلت لو عندك عشر دقائق أشرح وجهة نظري ، قال بل عندي عشر ساعات لهذه الجزئية يالذات فهذا الذي تقوله معجزة!
قلت إن خلاصة الفارق بين الدكتورين عاطف صدقي والقيسوني تتعلق بالمهنة وبالخبرة وبالسن والظروف وباختصار شديد فقد كانت مهنة الدكتور عاطف صدقي كأستاذ متمرس تجعله أكثر قدرة على الاقناع السلس ، بدون شرح ولا تنظير وانما بالمقارنة فحسب كما أنها تجعله أكثر ذكاء في مقاربة القضية أو المشكلة أو الحل ، ولم يكن هذا حال الدكتور القيسوني الذي كان رجل عمليات في المقام الأول.
وكذلك كانت خبرة الدكتور عاطف صدقي بمواقع متعددة منها أو آخرها رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات بمثابة رصيد له يسحب منه استشهادات أو خبرات أو تعبيرات أو تجارب ولم يكن هذا حال الدكتور القيسوني الذي كانت كل خبرته (في البنك الأهلي وغيره) مع الأجانب الانجليز بعيداً عن الظروف المصرية بأعماقها والتواءاتها.
وعلى حين وصل الدكتور القيسوني إلى المسؤولية الوزارية قبل أن يبلغ الأربعين فإن الدكتور عاطف صدقي وصل إليها وهو في السادسة والخمسين والفارق ناطق.
اما الظروف فهي أهم ما في الموضوع فقد كانت حالة مصر في نهاية عهد الملكية وبداية عهد الثورة من الثراء بحيث تساعد النزق السياسي وليس الطموح السياسي فحسب، وكان الرئيس جمال عبد الناصر قادراً على أن يضاعف ويوسع موارده من خلال التأميم والتمصير والحراسة والمصادرة والاستيلاء على أملاك الأجانب و الشركات المساهمة و الاسرة الحاكمة والأحزاب السياسية (الوفد مثلا بثروته) والإخوان المسلمين أي أنه كان أمام موارد لا نهائية على حين كان الرئيس مبارك حين استعان بالدكتور عاطف صدقي يعرف أن اليد قصيرة، وبهذا فإنه لم يكن يثقل على الدكتور عاطف صدقي ولا غيره بنزق ولا بطموحات، ولا بحسابات للمجد ، وكان يقدر جدا أية معاونة اقتصادية أو محاسبية او تمويلية تقدم له، ولم يكن هذا هو الحال مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يتعامل مع موارد شبيهة بكنز علي بابا ، وهكذا فإن الدكتور القيسوني لم يكن يستطيع أن يقول لا للرئيس جمال عبد الناصر على نحو ما كان عبد الجليل العمري وعلي الجريتلي يقولانها له بكل تهذيب قبل القيسوني مباشرة.
كان المستشار كالعهد به في غاية الذكاء وحب الحقيقة فسألني عن تسلسل تعاقب الاقتصاديين مع عبد الناصر والسادات، فأجبته ، ثم سألني بجدية : هل تمكن أحد منهم أن يقول للرئيس عبد الناصر: لا، قلت: لا أقول نعم ،ولا أقول لا ، ولكن أقول : نصف نعم ، ومن حسن حظ مصر أنه قالها له قبل أن يتسلم المنصب، لكن الظروف الصعبة هي التي ساعدته ، وهو الدكتور عبد العزيز حجازي الذي رشح وزيراً للخزانة وهو عميد شاب لتجارة عين شمس في الخامسة والأربعين من عمره فلما استقبله الرئيس جمال عبد الناصر قبل تكليفه قال للرئيس إنه لن يستطيع العمل إذا لم تكن كل الموارد والمصروفات تحت ناظره، صحيح أن الأمر كله للرئيس لكنه لا بد ان يعرف كل شيء عن كل شيء يتعلق بالمال ، داخلا وخارجا ، ثم يتصرف، فوافقه الرئيس عبد الناصر ووعده بذلك، وهكذا دخل من باب المعرفة لكن الدكتور عاطف صدقي تفوق عليه لأنه من باب المعرفة والحل والفكرة والبدائل.. قال المستشار: نعم كان كل هذا وأكثر لكن مصر دائما ليس لها نصيب.
نال الدكنور عاطف صدقي الكثير من التقدير فى وطنه وخارجه، وقد نال وسام الاستحقاق (1975)، ووسام الاستحقاق من فرنسا (1990)، ووسام الشرف من فرنسا (1984).
وعلى الصعيد العلمى فاز بجائزة الدولة التشجيعية فى الاقتصاد (1965)، وجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية (1993)، وجائزة مبارك فى العلوم الاجتماعية (2000)، وكان بهذا واحداً من الذين حازوا هذه الجوائز الثلاث