المهندس إبراهيم سالم محمدين 1921 -2018 واحد من اثنين من كبار المهندسين المنجزين العباقرة الذين قتلتهم السنوات الأخيرة من عصر مبارك ، الآخر هو محمد فهيم ريان الذي شاء حظه أن يموت قبل ثورة يناير بينما عاش إبراهيم سالم محمدين حتى 2018
و بلغة الخبرة الهندسية هو أكفأ مهندس صناعة مصري في عهد 23 يوليو كله حتى على مستوى المناصب الوزارية و الشركات ، فقد وصل مبكرا جدا الى رئاسة درة مصانع مصر وهي شركة المحلة ، قلعة صناعة النسيج ، ولما ترك عزيز صدقي الوزارة كان هو المهندس الذي أصبح وزير الصناعة وهو الذي تولاها في اثناء حرب أكتوبر 1973 ولما كانت الدولة المصرية منذ نهاية عهد الرئيس السادات قد اهتدت إلى أن تسند إلى هذا المهندس إقامة صناعة للصلب من بداية جديدة بأسلوب تكنولوجي وهندسي جديد في الدخيلة بعيدا عن تراث مصانع الحديد والصلب في حلوان حيث يمثل التراث (كما هو الحال في مصر) نوعاً من العبء على صاحب القرار وعلى الطموح والرغبة في الإنجاز في ظل الأوضاع المكتسبة للعمال والموظفين والعملاء بل الخبرات والجهات المتعاملة من أجهزة الدولة المختلفة، وهو ما أنجزه هذا الرجل بعطف واهتمام وحدب وتفرغ طيلة عشرين عاماً ١٩٨٢-٢٠٠١ واستطاع خلال هذه الفترة بأجر متواضع جداً أن يقدم لمصر قلعة صناعية فذة تقدم الصلب الذي هو أهم عنصر من عناصر النجاح في الصناعات الثقيلة.
المنافسة الليبية والتركية والخليجية
كان إبراهيم سالم محمدين يخوض هذه التجربة في مصر بإمكانات وظروف مصر المتعددة والمعقدة بينما وزير سابق للصناعة هو أمين حلمي كامل يخوض تجربة مماثلة في ليبيا بإمكانات مفتوحة وغير محدودة ، وكان قد عين وزيرا للصناعة في ليبيا ،وبينما الأتراك يطورون صناعة الصلب التركي على أساس قادر على المنافسة على المدى الطويل، ومع هاتين المنافستين المباشرتين اللتين كانتا قادرتين على الولوج المباشر إلى السوق المصري عبر الطريق البري أو عبر ميناء الإسكندرية ، كان هناك أيضا نجاح خليجي و سعودي في صناعة الصلب و كانت اتفاقات التعاون الاقتصادي المشتركة تعفي كثيرا من وارادت الصلب من الرسوم الجمركية ، و هكذا أصبحت شركة الصلب في الدخيلة مسئولة عن تمويل الدولة بالصلب وبالضرائب وبالجمارك و تشغيل الاقتصاد معا بينما الموردون ينافسونها دون أية التزامات ،وكان هذا والحق يقال يتجمع في مصلحة المستهلك المصري ، ولكن من دون أي وجود للوعي الحكومي او السيادي بقيمة الصناعة نفسها ولا بقيمة ما تملكه أية دولة من مصادر للقوة . ومع هذا كله فإن إبراهيم سالم محمدين استطاع النجاح لفترة طويلة. وبالطبع فقد كان جزء من الفضل في هذا للرئيس مبارك نفسه فلما ضعفت قبضته على مقاليد الأمور بدأ الترهل يظهر ببشاعة.
بدأت الدولة سياسة قصيرة النظر كانت نتيجتها أن تخلت عن إنجازها العظيم بطريقة مريبة بدءا من عهد الجنزوري بما هو معروف عنه من قصر النظر
ومما يؤسف له ان هذه الشركة العظيمة واجهت محنتها بسبب تافه إذا ما قيس بحجم الإنجاز وقيمته الاستراتيجية ، ذلك أن مصلحة الجمارك طلبت من الشركة ٢٦٥ مليون جنيه ولم تكن الشركة متوقعة لهذا الطلب بهذه الطريقة ، و يبدو انها لم تستطع التفاوض في تقسيطه، ومن هنا لجأ محمدين للحكومة لتوافق له على قرض متاح من البنك الكويتي للتنمية بما قيمته ٥٥ مليون دولار ، فلم توافق له الحكومة في ظل التعلل بسياسة الرئيس مبارك برفض مبدأ الاقتراض ، ومن ثم كان على الشركة ان تطلب من المساهمين وكانوا جميعا لا يزالون من القطاع العام فقط أن يزيدوا رأس المال بنسبة ٣ ملايين سهم قيمة السهم منها حسب تقدير الجهاز المركزي للمحاسبات هو ١٥٢ جنيها ، لكن الدولة لم تسارع بقرارات فورية ذكية كان يملكها أي رئيس وزراء واسع الأفق ، وانما بدأت الدولة سياسة قصيرة النظر كانت نتيجتها أن تخلت عن إنجازها العظيم بطريقة مريبة بدءا من عهد الجنزوري بما هو معروف عنه من قصر النظر والشكلانية والمظهرية الذي تصور الامر يحتاج إلى لجنة فشكلها من الوزراء ظافر البشري و سليمان رضا و محمد الغمراوي داود فلم يوفروا المبلغ ولم يجادلوا الجمارك ولا حتى سعوا إلى جدولتها ، وانما قرروا السماح لمساهمي القطاع العام (فقط) بالدخول في زيادة رأس المال ، وهو ما كان يعني بداية ما للخصخصة على استحياء من خلال القطاع العام نفسه . و لما ذهب الجنزوري بإجراءاته البطيئة غير المنتجة، وجاء عاطف عبيد بإجراءاته السلبية المنتجة للفساد أو الكساد أو لكليهما معا فقرر ضمن ما كان يقرره من سياسته المعلنة وليست السرية عدم الموافقة على زيادة مساهمة القطاع العام.
الدخول المفاجئ للمهندس أحمد عز
وهنا جاء المهندس احمد عز فظهر في الصورة وعرض أن يساهم بثلاثين في المائة من رأس المال فلم يشترط المهندس محمدين أكثر مما اشترطه الجهاز المركزي للمحاسبات إلا بقليل، وتقدم أحمد عز بعرض للشركة وافقت عليه الجمعية العامة للشركة بدون اعتراض. كانت هناك ترتيبات عميقة لدولة جديدة يخطط أبناء دولة مبارك أنفسهم لإقامتها بالاغتذاء (التغذي) المباشر على إنجازات دولة مبارك فقد صدر القرار غير المعلن و غير الصريح الذي فوجئ معه إبراهيم سالم محمدين بما يعني نقل ملكية شركة صلب الدخيلة من الملكية المباشرة للدولة إلى الشركة الجديدة التي تأسست لتحل محل صلب الدخيلة، وفي وسع القارئ أن يحذف عبارة “تحل محل” ويضع مكانها “تستولي على”، أو “تشتري” أو “تنقل ملكية” أو “تعيد إدارة” فكل هذه الأفعال الخمسة تدل على الحالة الجديدة التي بمقتضاها يخرج المهندس إبراهيم سالم محمدين من رئاسة مجلس إدارة صلب الدخيلة ليحل محله المالك الجديد أو أكبر المساهمين الجدد أو ممثل المهندس أحمد عز.
وهذا هو ما حدث بالفعل (أياً ما كانت الصياغة) فانه في مارس ٢٠٠٠ فوجئ المهندس محمدين نفسه بالدولة تدعو لجمعية عمومية غير عادية، وبممثلي الدولة نفسها يقررون الموافقة بالإجماع على دخول احمد عز لمجلس الإدارة وتعيينه رئيسا لمجلس إدارة الشركة. وهكذا كان على إبراهيم سالم محمدين ان يلملم أوراقه ويستقيل من أي وجود له في الشركة.
كنت في غاية الألم يومها من أن يكون هذا هو مصير وزير تابعت إنجازه بشغف وإعجاب
بعد عشر سنوات حدثت ثورة يناير وارتبطت بالحرص على فتح ملفات أحمد عز فكان ملف شركة الدخيلة بالطبع هو أول الملفات ، ولأن القانون المصري في حالات الاشتباه والشك وفي مراحل البحث عن تكييف الاتهام لا يمانع في القبض على كل من له علاقة بالموضوع حتى لو بدا للرأي العام بريئا ، فقد اقتيد المهندس إبراهيم سالم محمدين وقد ناهز التسعين يومها إلى السجن، في أول مارس ٢٠١١ ولم يشفع له أي ماضٍ عند أي قاض ٍ في أن يحتجز في مصحة أو مستشفى إلا بعد لأي .
كنت في غاية الألم يومها من أن يكون هذا هو مصير وزير تابعت إنجازه بشغف وإعجاب وعبرت عن هذا في مجتمع عام مفتوح ، فإذا بأحد الصحفيين الاقتصاديين اليساريين يميل على أذني بخبرته بالحياة وقال: إن الرأي العام سيقتنع بأن هذا الوزير الذي تحبه لم يترك هذه الشركة العظيمة إلا بعد أن أخذ شيئاً أو مقابلا كبيراً ! فسألته مباشرة : هل تعتقد أنه كان بإمكانه ألا يتركها، إنه رجل معين من الدولة التي هي المالك، وهو لا يملك إلا أن يدير فحسب ، جاء ردي على صديقي الصحفي الاقتصادي بمثابة صاعقة كما قال هو ، ولهذا فإنه سرعان ما اعترف لي بأنه لم يفكر في الأمر بهذه الطريقة، وقال إنه ظلم الحقيقة قبل أن يظلم الرجل ، وأخذ يدعو للرجل أن يفك الله كربته.
ثم نظر إليّ وقل هل هذا المعنى هو ما كنت تعنيه بأن دولتنا الشمولية تقتل بلا رحمة، فأجبته ببساطة شديدة بأن يعيد تصور الأمر في ضوء تصور واحد فقط هو أن يكون إبراهيم سالم محمدين قد بذل هذا الجهد في عهد الملك فؤاد أو عهد الملك فاروق. خفض صديقي ذو الميول اليسارية رأسه إلى الأرض وقل وهو محق في قوله : إذا كانت الاشتراكية أو رأسمالية الدولة التي مارسها الرئيس عبد الناصر و لا تزال تطل برأسها لا تنتج مع الزمن الا مثل هذا التشوهات فلا عاشت اشتراكية الدولة ولا رأسماليتها ولا عاشت الاشتراكية ولا الرأسمالية نفسهما.
مضت القضية رقم ٢٣ لسنة ٢٠١١ في سبيلها وحكم على المهندس إبراهيم سالم محمدين بالحبس ٣ سنوات مع إيقاف التنفيذ ، كما حكم عليه بالغرامة بالتضامن مع احمد عز . وكان هذا الحكم حسب الوصف الشائع حكما مخففا أو حكما راعى الرأفة.
كانت أمام المهندس إبراهيم سالم محمدين الفرصة للبروز في النشاط السياسي في محافظة الغربية ، وهكذا فعل
ولد المهندس إبراهيم سالم محمدين في دمياط سنة واحد وعشرين ( 1921 ) (في الخامس عشر من سبتمبر) وتخرج في قسم الهندسة الميكانيكية من جامعة القاهرة (1942) وقد أتيح له أن يدرس في بريطانيا فحصل أيضا ( 1957 ) علي بكالوريوس الشرف في صناعة الغزل والنسيج من مانشستر فالماجستير 1958 . وقد عمل بقطاع النسيج حتي ترأس مجلس إدارة شركة المحلة الكبرى منذ يناير 1967 ، أي منذ كان في السادسة والأربعين إلا شهوراً، وحتي دخل الوزارة.
كانت أمام المهندس إبراهيم سالم محمدين الفرصة للبروز في النشاط السياسي في محافظة الغربية ، وهكذا فعل ، وقد شارك في تشكيلات الاتحاد الاشتراكي (١٩6٨) و ( ١٩71 ) وفي أثناء ما سمي بإعادة بناء الاتحاد الاشتراكي بعد ١٥ مايو ١٩٧١ أسندت إليه مهمة الأمين المؤقت لمحافظة الغربية (مايو ١٩٧١).
اختير المهندس ابراهيم سالم محمدين وزيراً للصناعة في وزارة الرئيس السادات الأولي مارس (1973) خلفا ليحي الملا وزير الصناعة في وزارة عزيز صدقي، ليكون اول مهندس يخلف عزيز صدقي و ثاني وزير للصناعة يخلفه، و ذلك أن الملا لم يكن مهندسا . وفي وزارة السادات الثانية (إبريل 1974) عين المهندس إبراهيم سالم محمدين وزيراً للصناعة والتعدين، وقد خلفه المهندس محمود على حسن في وزارة الصناعة في وزارة الدكتور عبد العزيز حجازي (سبتمبر ١٩٧٤)
بعد خروجه من الوزارة اختير المهندس إبراهيم سالم محمدين عضوا بالمجلس القومي للإنتاج.
توفي المهندس إبراهيم سالم محمدين في نوفمبر ٢٠١٨ عن عمر تخطي السبعة والتسعين عاما.