من عجائب الحياة الفكرية أن أغلب المثقفين لا يعرفون حقيقة موقف أبو التنوير الفيلسوف الفرنسي فولتير 1694- 1778 من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ويستوي في هذا الفرنسيون والمسلمون .
مع أن هذا الموقف يمثل ذروة من ذرى الإخلاص للفكر والاعجاب به لكن العادة المعهودة في جو الكراهية؛ أن يتم إخفاء كل إنصاف في مقابل تكبير كل تشويه.
وهو ما لا يزال يتكرر بالطبع مع موقف فولتير من النبي عليه الصلاة والسلام ؛ و في هذه المدونة سنعرض القصة من الأحدث للأقدم أي بطريقة فكرية وليس تاريخية .
أولا:
في سنة 1770 أي قبل وفاته بثمانية أعوام كان فواتير قد استقر على مديح الرسول صلى الله عليه وسلم و الإسلام حتى إنه قال مامعناه : “إن دينه حكيمٌ وصارم وطاهر وإنساني” وشرح المقصود بكل صفة من هذه الصفات .
ثانيا:
في كتابه الأشهر “القاموس الفلسفي”، المنشور سنة 1764 الذي هو متاح على الإنترنت في مواقع عديدة والذي هو مرتب تبعا للترتيب الموسوعي في مداخل متتابعة، قال فولتير بوضوح شديد في تعريف المحمديين أي المسلمين ما معناه بكل وضوح:
“أعلموا أيها الجهَلة الحمقى، الذين أقنعهم جهَلة آخرون بشهوانية الدِّين المحمديَّ ، إعلموا أن هذا ليس صحيحًا، وأنهم خَدَعُوكم بهذه المقولة على نحو ما خدعوكم بمقولات أخرى عديدة ، فيا أيها القساوسة والأحبار، هل بوسعكم أن تصفوا الأسلام بأنه دين شهواني؛ لو أنكم خضتم التجربة فألتزمتم بما يفرضه عليكم من الصوم عن الطعام والشراب من الرابعة صباحًا إلى العاشرة مساء في شهر يوليو تموز، عندما يصادف صيام رمضان أن يأتي في هذا الشهر، ومن الإمتناع عن القمار بكافة صوره، ومن الأمتناع عن الخمور، ومن الذهاب لتأدية الحج في الصحراء المحْرِقة، والالتزام بإخراج اثنين ونصف في المائة من دخْلكم للفقراء، ومن الاقتصار على أربع زوجات، لمن كانوا قد تعودوا على التمتُّع بثمانيَ عشرة إمرأة، هل يمكنكم بعد هذا – أن تصفوا هذا الدين: بأنه دين شهواني؟”.
قبل وفاته بثمانية أعوام كان فواتير قد استقر على مديح الرسول صلى الله عليه وسلم و الإسلام حتى إنه قال مامعناه : “إن دينه حكيمٌ وصارم وطاهر وإنساني”
ربما تكون الترجمة التي قدمنا بها هذه الفقرة متأثرة بالبلاغة العربية وبفكرتنا عن دين الإسلام ومن ثم فإنها عكست جوهر عقيدة المسلمين عن دينهم، على نحو ما يؤمنون بها وبنصوصها ، ولهذا السبب فإني أعرض الترجمة [الميكانيكية ] الحرفية التي يقدمها غوغل لنص فولتير حيث يقول:
“أقول لكم مرة أخرى ، أيها الجهلاء الحمقى ، الذين جعلهم الجهلاء يعتقدون أن الدين المحمدي شهواني وحسي ، ليس كذلك ؛ لقد تم خداعكم في هذه النقطة كما هو الحال في العديد من النقاط الأخرى، الشرائع والرهبان وكهنة الرعية ، حتى لو اضطررت إلى عدم تناول الطعام والشراب من الرابعة صباحًا حتى العاشرة ليلًا ، خلال شهر يوليو تموز ، حيث سيأتي الصوم الكبير في ذلك الوقت ؛ إذا كنت ممنوعًا من لعب أي لعبة حظ تحت وطأة اللعنة ؛ إذا كان الخمر ممنوعا عليك تحت نفس العقوبة ؛ إذا كان عليك أداء فريضة الحج في الصحراء ؛ إذا طُلب منك إعطاء ما لا يقل عن اثنين ونصف في المائة من دخلك للفقراء ؛ إذا كنت معتادًا على الاستمتاع بثمانية عشر امرأة ، فقد انفصلت فجأة عن أربع عشرة [منهن] ؛ بحسن نية ، هل تجرؤ على تسمية هذا الدين بأنه حسي؟”.
ثالثا:
الموقف الأشهر هو ذلك الذي بدأ به فولتير كان موقفا عدائيا و مضللا وقد إرتبط بتأليفه مسرحية محمد أو التعصب وهي مسرحية مشوهة لتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام لكن أسوأ ما فيها كان مقدمتها التي أهدها إلى البابا بندكت الرابع عشر ١٦٧٥- ١٧٥٨ ، الذي تولى البابوية منذ ١٧٤٠ وحتى وفاته.
المنصفون لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يرون أن الأمر فيما يبدو لم يكن يعدو أن يكون مجرد تَمْوِيهٍ لمهاجَمة الكنيسة، من غير التورط في نص صريح كفيل بالعقاب على الخطأ فيها في أوج سلطتها
وقد قال أستاذنا توفيق الحكيم ١٨٩٨- ١٩٨٧ في ثاني فصول كتابه «تحت شمس الفكر» الذي صدرت طبعته عام 1938 إنه من ذلك اليوم الذي قرأ فيه تلك المسرحية ومقدمتها وهو يحس كأنما فُجع في شيء عزيز لديه هو الإيمان بنزاهة الفكر الحر: «ولقد كنت أحيانا ألتمس الأعذار لفولتير، وأزعم أنه استند إلى علم خاطئ بأخبار النبي ولكن كتابه إلى البابا يتهمه اتهاماً صارخاً ولا يدع مجالاً للشك في دخيلة أمره».
ويورد توفيق الحكيم من مقدمة فولتير قوله : «فلتستغفر قداستك لعبد خاضع.. إذ تجرأ فقدّم على رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية، … فلتأذن لي قداستك في أن اضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة، وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبّلُ قدميك القديستين».
وقد أرخ فولتير هذا الاهداء بتاريخ 17 أغسطس 1745 أي قبل وصوله للانصاف المكتوب بعشرين عاما ، ويشير الحكيم أيضاً إلى أن رد البابا لم يكن رداً رقيقا كيّساً لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين.
يتصل بما سجلته من رأي الحكيم ما كنت قد سجلته في كتابي ومقالاتي عنه من أن المنصفين لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يرون أن الأمر فيما يبدو لم يكن يعدو أن يكون مجرد تَمْوِيهٍ لمهاجَمة الكنيسة، من غير التورط في نص صريح كفيل بالعقاب على الخطأ فيها في أوج سلطتها.
وكان الأديب الألماني جوته ١٧٤٩- ١٨٣٢ الذي قدر له أن يعيش عمرا طويلا قريبا في طوله من عمر فولتير وعمر الحكيم ، من هذا الرأي ، وقد قدر له أن يترْجَم هذه المسرحية، وأن يصرح بهذا الرأي، لكن كل هذا كالعادة يتوارى في ظل طغيان خطاب الكراهية.