نقدم في هذه المدونة لمحة سريعة معبرة عن ملامح الانتقال من دبلوماسية الأفراد والتوجهات إلى دبلوماسية المؤسسات على نحو طبيعي لم يستوعبه الساسة المصريون؛ الذين كانوا قد وصلوا الى ذروة مجدهم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ، ثم توقفوا تماماً عن المجد بل بدأوا مراحل الفشل أو التجميد وربما مراحل الإحباط والسقوط.
يروي هذه القصة الأستاذ أحمد حمروش ١٩٢١- ٢٠١١ الذي كان في وقت أحداث القصة، رئيسا لتحرير روز اليوسف وباعتباره ضابطاً فقد كان من رجال الدولة ومن المعروف انه شيوعي وأن مكانته في دولة الرئيس جمال عبد الناصر وتنظيماته السياسية قد مكّنته من أن يوثق علاقاته بالشيوعيين العرب والأجانب وفي مقدمة هؤلاء بالطبع الشيوعيون السودانيون.
ومن المعتاد في كتابات اليساريين المصريين واليمينيين أيضا ألا يعنوا بروايات الأستاذ حمروش و لا بالنقل عنه مع ان رواياته حافلة بالاضاءات المهمة ، و لست في حاجة إلى أن أشير إلى أنني كنت الوحيد الذي رثاه بمقال كبير عند وفاته.
كان اللواء جعفر نميري، كما نعرف قد قام بانقلاب مايو/أيار 1969 وهو حسب المتعارف عليه عند المؤرخين والساسة إنقلاب شيوعي الطابع؛ سرعان ما حصل على ترحيب الرئيس جمال عبد الناصر ودعمه (نكاية في الصادق المهدي والمهدية والقوى المدنية السودانية.
على الرغم من أن هذه القوى وقفت مع الرئيس عبد الناصر موقفا نبيلا و نادراً بعد هزيمة 1967 وعقدت من أجله مؤتمر الخرطوم أغسطس 1967 الذي أعاد له الزعامة ومجدها وكبرياءها بل وكبرها).
فكرة انقلاب ١٩٧١:
ولكن أي انقلاب شيوعي كما نعرف يكون معرضاً لانقلاب مضاد في ظل طابع التشظي الذي يحكم التنظيمات الشيوعية. وهكذا فإن هاشم العطا الذي هو الرجل الثاني في انقلاب نميري قرر في 1971 أن يقوم بانقلاب على النميري زعيم ١٩٦٩على نحو ما قام الرئيس جمال عبد الناصر بانقلابه ١٩٥٤ على الرئيس محمد نجيب ١٩٥٢ وعلى نحو ما قام الرئيس هواري بومدين بانقلاب على الرئيس بن بيلا وهكذا.
قام جعفر نميري بانقلاب مايو 1969 وهو حسب المتعارف عليه عند المؤرخين والساسة انقلاب شيوعي الطابع؛ سرعان ما حصل على ترحيب الرئيس المصري جمال عبد الناصر ودعمه (نكاية في الصادق المهدي والمهدية والقوى المدنية السودانية.
كانت الدنيا قد اختلفت؛ لكن الشيوعيين المصريين لم يكونوا واعين بما فيه الكفاية بمدى ما يملكه الرئيس أنور السادات من شبكة علاقات دولية، وهكذا فإنهم تصوروه كالرئيس جمال عبد الناصر الذي يعتمد على اسمه ومهابته في المقام الأول وعلى علاقات المصريين في المقام الثاني.
وهكذا وجد أحمد حمروش فرصته في أن يعرض القيام بالدور المهم أو المبادر في الاتصال المصري بالانقلاب الجديد على نحو ما كان قد قام بدورما في انقلاب النميري في مايو/أيار 1969.
واتصل أحمد حمروش بالرئاسة على نحو ما سنرى، ووفق له على طلبه، وقرر الدكتور عبد القادر حاتم أن يردفه بأحمد فؤاد رئيس مجلس إدارة بنك مصر ليكونا اثنين بدلا من واحد، وذهب حمروش وقام بما يعتبر أنه بلغة العرب منتهى الطلب من الدبلوماسية أو الاتصالات الخارجية.
واستعد للقاء الرئيس أنور السادات غداة وصوله عائدا من الخرطوم ، وبدأ فكتب تقريراً ملخصاً في الوقت الذي تأخر فيه السادات عن موعده .
فلما جاء الرئيس أنور السادات لم يهتم بالتقرير ، ولا اهتم بما كان حمروش مستعداً لأن يرويه، وكان هذا لسبب أهم لم يستوعبه أحمد حمروش حتى مات ، وهو يقترب من التسعين.
كان هذا السبب هو أن القضية التي عاد منها حمروش قد عولجت معالجة مختلفة تماماً، وأن الذين جاء حمروش ليزف للرئيس أنور السادات أنه أقنعهم بقيمة مصر وضرورة الحفاظ على علاقتهم بمصر قد تقرر إعدامهم، وأُعدموا بالفعل.
وزير الحربية المصرية محمد أحمد صادق رتب بنفسه عملية القبض على زعماء الانقلاب وهم عائدون ليتولوا حكم السودان والقبض عليهم بمعاونة الرئيس القذافي في طرابلس في طائرة الخطوط الجوية البريطانية..
وهكذا كان حمروش مثل هيكل وبهاء الدين وكل هؤلاء الذين سبقهم الزمن لا يزال يتحدث عن المستقبل الذي أصبح ماضيا لا مستقبل له.
وهو لا يعرف ولا يتصور ولا يستطيع حتى أن يحلم بأن السادات تركه يذهب إلى الخرطوم في الوقت الذي كان قد شارك فيه في إصدار القرار الخاص بالموافقة على إعدام زعيم الانقلاب ومن عاونوه ؛ وفي الوقت الذي ذهب فيه وزير الحربية المصرية محمد أحمد صادق بنفسه ليرتب عملية القبض على زعماء الانقلاب وهم عائدون ليتولوا حكم السودان فلا يمكنهم من هذا وإنما يقبض عليهم بمعاونة الرئيس القذافي في طرابلس في طائرة الخطوط الجوية البريطانية..
بينما حمروش يقبل صديقه الشيوعي ويحتضنه بل ويضع يديه على عينيه وهو يخاطبه بأنه وصل إلى الخرطوم مهنئاً بغدر الشيوعيين بنميري.
ومن العجيب الذي لا يمكن للمرء أن يتجاوز عن قراءة مغزاه فيما يرويه حمروش؛ أن البيان الأول للانقلاب تجاوز عن ذكر مصر ما لفت نظر المشير أحمد إسماعيل الذي كان مديراً للمخابرات العامة في ذلك الوقت، بينما تغاضى حمروش عن دلالة مثل هذا التجاهل في ظل ما كان يبحث عنه من اطمئنانه إلى النجاح الشيوعي.
إذا لم يقرأ الرئيس أنور السادات هذا التقرير أصبح في نظر اليسار المصري لا يُحب القراءة ولا يُتعب نفسه فيها بل أصبح غير مثقف لأن المثقف في نظرهم لا بد أن يقرأ الكلام الفارغ
و من الغريب أننا حين نتأمل كثيراً من روايات الدبلوماسيين عن أن السادات لم يكن يقرأ أو لم يهتم بما كتبوه من التقارير نراهم مثل حمروش وهيكل وبهاء الدين وجلال أمين وعبد السلام الزيات وأمين هويدي؛ وكل هذا الطيف الواسع من المغترين أو المعجبين بما كتبوه و استنتجوه بينما هم يكتبون الخيال العلمي على طريقة ج ويلز بينما العلم وصل إلى ما فاق هذا التصور القديم.
فحمروش في هذه الرواية سعيد بأنه وثّق العلاقة بعبد الخالق المحجوب المنقلب الغادر بينما الرئيس أنور السادات شارك في الموافقة على قرار بإعدام عبد الخالق المحجوب وانتهى الأمر.
ومن العجيب أنه لا يزال يريد من السادات أن يقرأ التقرير الذي كتب فيه مثل هذه الأماني التي لا محل لها من الإعراب فإذا لم يقرأ الرئيس أنور السادات هذا التقرير أصبح في نظر اليسار المصري لا يُحب القراءة ولا يُتعب نفسه فيها، بل أصبح غير مثقف لأن المثقف في نظرهم لا بد أن يقرأ الكلام الفارغ من الأهمية مهما كان مستوعبا لكثير من الصفحات والحبر.