لم يكن الشيخ محمد المبارك عبد الله ١٩٠٥- ١٩٩٠ شيخا لعلماء السودان فحسب لكنه كان شيخا لعلماء الأزهر ومصر جميعا وهو من يستحق الوصف عن جدارة بلقب أستاذ الأساتذة علما وفعلا وخلقا وعطاء وانتاجا ونقدا وتقييما وإرشادا وتوجيها وقدوة ومنارة، وقد مارس الأستاذية في كل صورها خطيبا ومدرسا وباحثا وعالما ومؤرخا للعلم، وإن شاء الله يكون لنا حديث مفصل عنه، لكني أحب اليوم أن أتحدث عن نعمة الله عليّ حين أكرمني الله بأن يكون هذا الشيخ الجليل أول أساتذتي فيما نسميه البحث العلمي، وإني لأعترف أنني كلما ذكرت هذه القصة بكيت ما شاء الله لي أن ابكي اعترافا بنعم الله الغامرة عليّ التي لا أظنها اتيحت لأحد غيري على هذا النحو الذي يرزق الله به من يشاء بغير حساب .
عرفت الشيخ محمد المبارك عبد الله شيخ علماء السودان قبل أن أبلغ الحلم، فقد كان الشيخ المبارك صديقاً لوالدي ولجدي بل كان صديقاً حميماً لكليهما، والسبب في هذا بسيط لكنه مركب، فقد حصل على العالمية في الأزهر الشريف حين كان مصر والسودان شيئاً واحداً، ومن ثم فإن تعيينه جاء في مدينتنا في فارسكور وقد كُلف بأن يكون إماماً وخطيبا للمسجد الذي بناه محمد حسن العبد باشا أفضل مقاول مصري وابن فارسكور، وقد ذكرت في مدونتي عن طلعت حرب أن العبد باشا سمى هذا المسجد باسم صاحب ذلك المقام الذي كان مجاوراً للأرض التي بُني فيها المسجد وهو سيدي البطوط، وهكذا نرى في ترجمة الشيخ المبارك أنه عين عقب تخرجه إماماً وخطيبا لمسجد البطوط من دون ذكر لمدينة فارسكور الحبيبة إلى قلبي، وفي الغالب أن كاتب الترجمة لا يعرف شيئا عن مسجد البطوط ولا عن موقعه، ولا عن سيدي البطوط، ولا يشغل باله بتحقيق ولا شرح، وهو نفسه المسجد الذي قدر لوالدي رحمه الله بعد أن بلغ سن التقاعد أن يقوم بالخطابة فيه بعد مسجد الكوندكي الذي هو المسجد الكبير في مدينة فارسكور، وكان النظام الأمني في عصر الرئيس مبارك قد اخترع فكرة تنقيل الأئمة والخطباء حتى لا يتجمع حولهم مريدوهم، وهكذا قُدر لوالدي في يوم واحد شرفان كان يرحب بهما، هو أن يخطب في مسجد العبد باشا الذي كان يحبه حبا جما ، وأن يخطب على المنبر الذي كان يخطب فيه الشيخ المبارك صديقه وصديق والده.
كان هذا هو العنصر الأول في معرفتي بالشيخ، وآن أوان الحديث السريع عن العنصرين التاليين، فقد آثر الشيخ المبارك أن يتزوج من فارسكور، ثم آثر وهو المهم أن يحتفظ بشقة في فارسكور، وعلى الرغم من تنقله ما بين القاهرة وأم درمان، ولما جاء عهد ما بعد نكسة ١٩٦٧ وأصبح علماء الإسلام مرحبا بتنقلهم في مصر في الإجازات الصيفية بعد أن تأكد انفتاح السجن الذي كان علماء الإسلام يخشون إذا زاروه أن يحتجزوا فيه إذا تصادف أن خطر ببال صاحب السجن أن يسجنهم لأي سبب في اثناء زيارة سياحية، عند ذاك بدأ هذا العالم الجليل يتردد على مدينتنا في الصيف ليقضي فيها شهراً أو أكثر في جوها البحري الجميل، ويتذكر فيه أيامه الخوالي حين كان لا يزال شابا متخرجا لتوه بالعالمية، وكان يقضي صباحه على مقهى جميل راق ومرموق هو مقهى الرشيدي المطل مباشرة على نهر النيل، وكأن المقهى يربطه وهو جالس في فارسكور بمسقط رأسه في السودان وبمقر عمله في أم درمان. وإلى هذا العالم الجليل يعود الفضل في تعليمي أنه يمكن للإنسان أن يكتفي في إفطاره بالفاكهة الطازجة من دون أن يستوفي العناصر المكملة للإفطار المصري (القاهري أو الصعيدي أو البحراوي).
في صباح ذلك اليوم الذي لقيت فيه الشيخ لأول مرة قال لي والدي رحمهما الله في الصباح الباكر سنقابل اليوم شيخ علماء السودان، فسألته هل هناك لقب كهذا فقال نعم، وسترى صاحب اللقب بعد قليل، كان الشيخ المبارك قد وصل مدينة فارسكور في مساء اليوم السابق قادما من الخرطوم مباشرة وترك رسالة لوالدي رحمه الله أنه سينتظره في الصباح، فاصطحبني إلى هذا الشيخ الجليل الذي بادر بسؤاله عن والده، وكان جدي لا يزال على قيد الحياة، واستأذن في أن يزوره، رحب بي الشيخ الجليل وقال كأنه يعرفني حق المعرفة: هذا هو محمد …، ولم يسألني الأسئلة التقليدية التي لا تعني شيئا من قبيل في أية سنة، وإنما بادر بجدية حانية فأنهى إليَّ أنه كان ينتظرني ليُنهي إليّ ما جاء من اجله (ولم يكن هذا حقيقيا بأية صورة من الصور لكنها المجاملة الكريمة الآسرة والعطف البالغ النادر) وهو أنه يريدني أن أنجز بحثا عن بني إسرائيل في القرآن الكريم، وأن أبدأ بأن أعرض عليه أول البحث وهو بنو إسرائيل في سورة البقرة.
لا أظنني بحاجة إلى أن اذكر للقارئ أنني في صباح اليوم التالي كنت أعرض على فضيلة الشيخ أول البحث وقد وصلت فيه إلى أول الجزء الثاني من القرآن الكريم عند الآية 141 “سيقول السفهاء من الناس..”. أخذ الشيخ يستمع إلى كل ما كتبته في نضج نادر ومن دون أي تدخل من الذي يعتاد عليه طالب العلم من استاذه، فلا هو صحح ولا هو عقّب، ولا هو أضاف ولا هو عدّل، ولا هو اقترح ولا هو سأل، وإنما كان يستمع إلى كل ما ألقيته سهلا نهلا سخاء رخاء بكل حواسه ودون أن يلتفت يمنة أو يسرة، ولا أظنني ولا أظن غيري قادرا على هذا السلوك الأنيق المنضبط أبدأ، فلما انتهيت بعد أكثر من ساعة مما أعددته قال لي وكأنه يخاطب والدي عليه رحمات الله: إذا انتهى محمد من هذا البحث بهذا المستوى الذي أنجز به الجزء الأول من الأجزاء الثلاثين فإنه يستحق الدكتوراه مباشرة على هذه الرسالة .
وإذاً فقد فتح الشيخ بهذا القول عينيّ على طريقة يمكن للأستاذ من امثاله أن يدل بها تلميذه على موضوع قيم لرسالة الدكتوراه، كانت معلوماتي حتى ذلك اليوم عن الرسائل تتمثل في مصدرين أولهما ما اسمعه من والدي وهو يعلق على ما نسمعه في البرنامج الثاني للإذاعة من الرسائل التي كانت الإذاعة تنقل مناقشاتها، وثانيهما: ما كنت أطالعه في الصفحات الأولى من بعض الكتب من أن هذا الكتاب قدمه صاحبه كرسالة مكملة لمتطلبات الحصول على درجة الدكتوراه (أو الماجستير) في الفرع الفلاني في الكلية الفلانية .. الخ. وها أنذا اليوم أمر بتجربة جديدة تبدو أرقى وأعظم وهي تجربة التكليف بالرسالة وان تكون على هذا النحو الذكي السلس. ثم التفت الشيخ المبارك إليّ وسألني: ما الذي دفعني أن اكتب البحث بهذه الطريقة وأن أفضلها عن غيرها، وكانت الطريقة التي اتبعتها هي الطريقة التربوية التي تُدرس بها النصوص المدرسية في تلك الأوقات، وهي طريقة الأفكار التي تحصر النص (حتى من باب التعسف) في ثلاثة أو أربعة أفكار أو أكثر بكثير كما هو الحال فيما أنجزت، وتدرس النص من هذا المنطق.. وكنت في ذلك العصر إذا قمت بالتدريس نيابة عن أساتذتي أحصر الأفكار وأكتبها يالطباشير على اللوحة السوداء ومن ثم فإنني بدأت اتعامل مع النص القرآني من خلال مهارتي التي تمرست بها وعمدت الى استخراج الأفكار منه وعنونتها فإذا جاءت فكرة تناولتها من قبل اشرت على انها هي الفكرة التي في الآية رقم كذا حيث بدأت الحديث عنها .
ثم سألني الشيخ المبارك لماذا لم أبدأ بمقدمة، فأجبته بما كنت سمعته من والدي رحمه الله ذات مرة أن المقدمة هي آخر ما يكتبه المؤلف الذكي المتمكن بعد أن يكون أنجز الكتاب كله، فنظر الشيخ إليّ نظرة لا أبالغ إذا قلت إنها حوت كل ما في العالم من تقدير واحترام . ثم سألني سؤاله الثالث: هل رجعت إلى كتاب من كتب التفسير فنقلت عنه مفرداتك المقابلة للمفردات القرأنية أم اعتمدت على فهمك، فقلت له إن مصحف شقيقي أحمد يحوي على هامشه تفسير السجستاني وهو تفسير مفردات وفيه تفسير بعض الالفاظ الصعبة فأبدى التعجب الطبيعي من أن يكون مصحفا الشقيقين مختلفين من دون أن ينطق بهذا، لكن والدي رحمه الله أجابه بأنه أدرك نسخة واحدة متبقية من طبعة السجستاني، فأخذ بمبدأ ما لا يدرك لا يترك كله، وأردف فذكر للشيخ ما قرره الأساتذة الكبار من أن محمد أفهم وأحمد أحفظ، فاستدرك الشيخ لفوره، وقال إذاً فأحمد أولى بالطبعة المزودة بتفسير السجستاني .. ومن العجيب أن هذا لم يمر بخاطري، فلم يحدث مرة واحدة في حياتي أن شعرت بأن ما يملكه أحمد ليس ملكا لي، فقد عُرف الدكتور أحمد جزاه الله عني كل خير بالإيثار بينما أنا بطبعي أسوأ من عرفت من الناس ميَلاً إلى الانانية وعيوبها .
فيما بعد هذا وعلى مدى نصف قرن عرفت أشياء كثيرة من الشيخ وعن الشيخ، وتعلمت منه القدرة على الاقتصاد في القول حين يكون الاقتصاد مطلوبا، وتعلمت منه الانصراف عن الخلق المصري في حب التعليق على كل شيء، وتعلمت منه بطريقة لا تنسى ان هناك شيئا اسمه الثقافة المختلفة وهو ما يعبر عنه العامة بقولهم: أما في السودان أو أما في الصعيد.. وتعلمت مه ان هذه الثقافة المختلفة تؤثر في الفقه، واذكر في هذا المقام انه طلب إلي ذات مرة في سنة تالية أن ابحث في كتب التفسير وبخاصة كتب تفسير الأحكام عن تأصيل لتفسير سوداني أو “افريقي” غريب لعدد الزوجات المباح الاقتران بهن وهو أنه 18 وليس ٤ فقط وذلك لأن النص القرآني يقول “مثنى وثلاث ورباع” وهو ما يعني مجموع المثنى والثلاث والرباع وهو 18 (2+2+3+3+4+4) وكنت لا أمسك نفسي من الضحك، وهو يروي لي هذه النادرة، ويكلفني أن أبحث عن سند في كتب الفقه وتفسيرأيات الأحكام المتاحة في مكتبة والدي، وبالطبع فإني لم أجد هذا السند فقد كانت كل هذه الكتب الذي يقتنيها والدي بالطبع من الكتب العلمية لا من كتب الطرائف والتفسيرات الاستثنائية التي أصبح الناس يعرفونها الأن .