الرئيسية / المكتبة الصحفية / كيف قدم مأمون الشناوي لأم كلثوم وعبدالوهاب نصا يحرض على الصهللة

كيف قدم مأمون الشناوي لأم كلثوم وعبدالوهاب نصا يحرض على الصهللة

كان مأمون الشناوي ١٩١٤- ١٩٩٤ في كلماته ومعانيه وصورة ذروة من قمم النصوص الغنائية العربية، وكان قادرا على صياغة نصوص قادرة على الوصول بمؤديها إلى ثلاث حالات متباينة سنستخدم لوصفها ألفاظا يظنها القارئ عامية بينما هي عربية فصيحة، هذه الحالات هي الفرفشة والسلطنة والصهللة، وسنتحدث في مقامنا هذا عن الصهللة التي تتجلى على نحو بديع في أغنيته “ودارت الأيام” وهي الأغنية الرابعة والأخيرة في ترتيب الأغاني التي غنتها أم كلثوم من كلماته، وقد رأت أم كلثوم أن تُسند تلحينها إلى الفنان محمد عبد الوهاب بعد أن لحن لها بليغ حمدي الأغاني الثلاث الأولى التي غنتها لمأمون الشناوي أنساك يا سلام، كل ليلة وكل يوم، بعيد عنك حياني عذاب، وعلى الرغم من أن عبد الوهاب استغرق وقتا طويلا في إنجاز هذا اللحن فإن بوسعنا أن نكتشف بسهولة أن أم كلثوم كانت على حق في هذا الاختيار، ذلك أن كلمات هذه الأغنية انسب ما تكون لألحان محمد عبد الوهاب حين يأخذ في تعمق المعنى وتعميق التعبير الموسيقي الكاشف عنه، وينحت حوله غابة من الموسيقى تتكرر فيها بعض الأشجار الموسيقية بينما تتعدد فيها النباتات المعبرة عن الطبيعة الخاصة للغابة، وهو يفعل هذا بنظام بديع يعرف متى يكرراللحن أو الكلمات، ومتى يخلق حاشية من الزخرفة أو الردود الموسيقية، ومتى يخلق طريقا يقود إلى ساحة جديدة من المعاني المتآزرة مع ما قبلها أو المتجاوبة مع الجوالعام للأغنية، وإذا أنت بهذا النحت الذي مارسه عبد الوهاب في غابة كلثومية ثرية بما فيها من لمسات التتنسيق الوهابية وبما لها من سمات طابعها النباتي المظلل والممتد والذي يضفي عليها حيوية لا تقل حماسا وصخبا عن حيوية موسيقى بليغ وصخبها حين يدورإبداع بليغ حول الموسيقى وحدها ويدور بالموسيقى وحدها من دون أن يبني لأم كلثوم هذه الغابة الموسيقية التي توحي بها المعاني التي استشرفها مأمون الشناوي في تصويره للتجارب الوجدانية الصادرة عن خبرة وعن ماض لا عن انفعال جديد .

في هذه الأغنية “ودارت الأيام” تخط أم كلثوم بالتعاون مع عبد الوهاب طريقا رئيسا في وسط الغابة اسمه طريق دارت الأيام، ثم يبدأ الملحن العبقري المتمرس في بناء صوره الموسيقية والبيانية والغنائية حول هذا الطريق ولا نقول حول هذا المعنى مستعينا بالأغنية نفسها قبل أن يستعين بموارده الموسيقية أو التلحينية فلا هو يقسم ولا هو يدندن ولا هو يعبر ولا هويطرب وإنما هو يأتي بكلمات مأمون الشناوي ومعانيه فيجعلها هي نفسها موتيفات لحنية ذات طبيعة ساحرة وساهرة تتأمل في نفسها قبل أن تلهم غيرها، ولهذا تتكرر بعض كلمات الأغنية كلما تطلبها الموقف بينما يمضي الطريق في مساره الرئيسي لأن كل طريق لا بد أن يمضي. ولم لا يفعل العبقري محمد عيد الوهاب هذا وقد وجد أن الفكرة الشاعرية في هذه الاغنية تعتمد على أن اللقاء وحده كفيل بالوفاق، وأن اللقاء وحده هو الذي ينهي ملحمة البعاد والخصام والسهر والعذاب والحيرة، ذلك أن اللقاء يخلّص اللسان من عقدته فتجد صاحبته لسانها يتكلم على الرغم من العقل أو على الرغم من الصمت أو التعقل او فلنقل [بلغة الأشياء] من ذلك القفل الذي وضعه العقل على اللسان وإذا بها باللحن قبل الكلمات تخضع وتخضع وتخضع لأنها تعرف حقيقة واحدة تعلو على كل الحقائق وهي انها ليس لها إلا حبيبها.

ها هي أم كلثوم قد جندلتك أو جندلت نفسها بهذا اللحن السريع في تأثيره المعبر عن الفكرة الشاعرية الحاسمة، وها هي من دون جدال قد وصلت بنا إلى ذروة موسيقية عالية بنهاية الكوبليه (المقطع) الأول سريعاً سريعاً، وها نحن في انتظار ما ستفعل بنا في بقية هذه الأغنية، وقد اتضحت امام أعيننا ملامح هذه الغابة الموسيقية التي تتمحور حول الاعتراف بالخضوع للحبيب مهما كان من أمر العذاب الذي مضى، والذي هو قابل للتكرار، ولهذا فإن الأغنية كلها تبدأ (ولا نقول فإن الفنانة تبدأ) في تقديم المبررات التي تجعلها تخضع هذا الخضوع، والمبررات تبدو وكأنها أسلحة ساحقة، وأول هذه الأسلحة التي تخضعها هي أشواق حبيبها، ثم سلامه، ثم مصافحته، ثم همسه، ثم اعتذاره ! وبهذه الأسلحة الخمسة ينتهي كل خصام، وتنتهي ذكرى الدموع والألم والسهر فالابتسامة الصادرة عن العين (لا عن الفم) كفيلة بأن تحقق ما لا يحققه سلاح آخر.. وهذا هو جوهر ما أراد الشاعر الفنان مأمون الشناوي أن يقوله.

وهنا يبدأ عبد الوهاب في الكشف عن الملامح الموسيقية الخفية أو الداخلية التي أبدعها من كلمات مشحونة بالمعاني من قبيل توقيعاته الحريصة على توظيف النبر في نطق الكلمات وهي مهارة عالية كانت أم كلثوم تجيدها حتى لو لم يرسمها لها الملحن، ولنستمع إلى ما يوحيه نطقها النابر لنهاية كلمات من قبيل: أمرّ عذاب، وأحلى عذاب، ما اقدرش أصبر، والصبر عايز صبر، وما اقدرش على بعد حبيبي.. وهكذا تتعاون الكواكب الثلاثة في خلق حالة من حالات الوجد والسلطنة والذوبان التي لا يكاد مستمع في أي لغة ان يسمعها حتى يذوب معها ويصهلل في مقطع من المقاطع الموسيقية الكهنوتية الشهيرة التي صيغت بتآلف ثلاثة من الفنانين الذين أجادوا معرفة معنى العشق فأصبح التعبير عنه يسيرا عليهم، ثم إن السيدة ام كلثوم لا ترحم مستمعها ولا تترك له فرصة استعادة المقطعين الأولين، وإنما هي على غير عادتها تسارع بمقطع خطابي مونولوجي تأثيري ثالث يبدأ بقولها المشهور “وصفوا لي الصبر..” وتبدأ في انتقاد الحب أو الشكوى منه، وكأنها لم تكن هي تلك التي ذابت منذ قليل، لكنها تبدو وكأنها المريض الممتن للطبيب، ويبالغ هذا المريض الذي شُفي في التعبير عن امتنانه للدواء والشفاء بأن يبالغ لطبيبه ومستمعيه في وصف حال الداء والمرض.. ولهذا فإن عبد الوهاب يسارع بتقديم لحن راقص، بكل مافي الرقص من تعبير، تعينه عليه كلمات مأمون الشناوي وانفعالات أم كلثوم وجمهور أم كلثوم، ولا نقول انفعالات أم كلثوم فحسب .

وليس هناك وصف أقل من هذا للمقطع الذي يبدأ على حين فجأة بقول الفنانة “عيني.. عيني على العاشقين، حيارى مظلومين، على الصبر مش قادرين” ثم هي تعيد بعضه حسبما ترى من انفعال الجمهور بل من انفعال الفرقة الموسيقية كذلك، ثم هي تعود على طريقة عبد الوهاب لتكرر شجرات لحنية هنا وهناك لأنها في غابة موسيقية، وليست في لوحة موسيقية، أو بعبارة أخرى لأنها في عالم تتدافع فيه الألحان حتى مع صفائها وبساطتها وقابليتها للتقليد والغناء بأي صوت، وبأقل مهارة لكن ألحان عبد الوهاب لكلمات المأمون مع أداء أم كلثوم وفرقتها وجمهوريها زاعقة صاعقة مذهلة ذاهلة. ثم تعود أم كلثوم لتبدأ قصة جديدة، فالأيام دارت، والأيام مرت، وهلّ الفجر بعد الهجر، وهي الآن تأخذ مستمعها إلى الجزء المبهر للبصر الذي لابد أن يكون موجودا في كل غابة، وهو هنا متألق الوجود بالفعل حيث لون الفجر ولون الورد وهما يظهران بعد لون الهجر الذي هو كما نعرف أسود قاتم لكنها لا تذكر السواد مكتفية بكلمة الهجر التي تخطفها خطفا ولا تعمق الأساس بها وكأنها مجرد كلمة مواكبة لكلمة الفجر فهي مشغولة بالفجر وما بعده، وهي مشغولة عن الشكوى والأنين بالشوق والحنين، وهي تنطلق إلى تصوير الفرحة بألحان راقصة تجعلها لا تنام ولا تصحو، وتجعلها تتأود وتجعلها تتوه وتتيه، وتجعلها تحس بالربيع والشوق والفوق.. ثم هي كعادة الغابة لا تنسى أن لأشجار الصبر مكانا فتعود إلى تكرار قولها “إن الصبر عايز صبر لوحده”، “وأنا ليا مين إلَّا حبيبي”.

وبمثل هذه الكلمات القليلة الفائقة القدرة على التعبير تقدم أم كلثوم عملا نجح صاحباه مأمون الشناوي ومحمد عبد الوهاب في أن يحملاه بأكبر قدر ممكن من التعبير والتطريب والتحوير والتدوير حتى إن اسم الأغنية نفسها لا يعني أن الأيام وحدها هي التي دارت، وإنما دارت معها المشاعر والألحان والأنغام والغناء والأداء.. كل هذا يدور في أغنية هي أبلغ تعبير عن حال الدنيا التي تدور حين ننظر إليها من اللحظة التي نحبها فيها، مع أننا نعلم بحكمة العشاق أن دنيانا تشمل هذه اللحظة، وغيرها من لحظات الهجر والفجر، ولهذا كله يستحضر الكلثوميون هذه الأغنية إذا أرادوا الوهج، وستحضرونها إذا أرادوا الغياب وهم متوهجين، ومن العجيب أن مأمون الشناوي قد قبض على هذا كله وقبض علينا به ومعه.


شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com