يمثل الشاعر عبد الفتاح مصطفى المتوسط الحسابي بين أحمد رامي وإبراهيم ناجي، فقد كان قادرا على الدوام على أن يجيد التعبير عن طبقات المعاني، وهو يستعرضها مع بعضها البعض كما لو أنه الطبيب الذي يثبت تشخيصه بتحليلات وصور مختلفة أو كأنه القانوني الذي يستعرض أدلة متعددة المصادر .
أو كأنه العالم الرياضي الذي يقدم البراهين برهانا تلو برهان، وهو لهذا يضع على لسان أم كلثوم، السؤال التقليدي الجميل “لسه فاكر” ويكرره في مطلع كل بيت على نحو ما كرر الشاعر القديم الحارث بن عباد مقولته الشهيرة حين قال: “قربا مربط النعامة مني”.
يكرر عبد الفتاح مصطفى سؤالا تقليديا سائلاً عن جدوى الظن الذي يظنه العاشق في أن القلب سيعطى الأمان ، أو أن الكلمة ستعيد الماضي ، أو أن النظرة ستصل الشوق والحنان..
وتأتي الإجابة الحاسمة من العاشقة المعشوقة التي لم تتهيأ بعد للدلال، وإنما هي لا تزال في مرحلة التعبير عن الهجران والياس والفرار ، ولهذا يأتي الجواب على ألسنة الجمهور قبل لسان أم كلثوم: كان زمان!
ومن المذهل أن هذا التعبير المرتبط بهذه الأغنية أصبح بمثابة أيقونة للحديث عن المستحيل في سياق مخاطبات المصريين ، ومع أنه بالطبع تعبير قديم فإنه أصبح إذا روي الآن لا ينسب إلا إلى أم كلثوم للإيحاء بما يقتضيه هذا الجو كله.
مع هذا فإن أم كلثوم حريصة في رؤية الشاعر عبد الفتاح مصطفى ، على أن تتذكر الماضي وتبدأ في إظهار تألمها منه، وكذلك على أن تبالغ في تصوير أثر ما تعرضت له من ظلم العاشق؛ رغم ما كانت تبذله من أجل إسعاده والعفو عنه.
وتصل أم كلثوم في أدائها لهذا المقطع الإنفعالي الذي أجاد الشاعر عبد الفتاح مصطفى تحميله بكل الآسى والشكوى إلى درجات قصوى من التعبير عن خيبة الأمل، وتصدع القلب وهي المعاني التي تثير في بعض الأحيان نفور أي أنثى متمردة إلى درجة رفض الاستماع إلى هذا المقطع بالذات إذا ما مرّ الى جوار أذنها .
هكذا يصوغ الشاعر عبد الفتاح مصطفى هذه المعادلة الذكية في التعبير عن شكوى العاشقة، وهو يبني على هذه المعادلة أو المشابكة (إن جاز لنا أن نخترع هذا المصطلح ) بين نفاد الآمال ونفاذ الصبر مشابكات أخرى بين الهوى والجراح، وبين قسوة الليل ونسيان الصباح، حتى إذا ما عمق الشعور بهذه المعاني إذا بالعاشقة المعشوقة تفيق لتتذكر حلاوة الحب والشوق والحنان، لكنها سرعان ما تتذكر أن العهد بهذا كله مضى مع الزمان، وأصبح من الماضي.. كان زمان.
وبفضل القدرات الملحمية في لحن السنباطي لهذا النص ( وهي من باب إحقاق الحق تتفوق بكثير على قدرات محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ) تبدأ القصيدة ما يكاد يشبه مرحلة سيمفونية جديدة هي مرحلتها العارمة التي تجمع بين اللوم القاسي والعتاب المعذب، فتذكر نفسها بآهات قلبها وقسوته، ولا تجد مانعا في أن تقرن قسوته بقسوة الأيام على نحو ما تفعل السيدة الرقيقة حين تندب حظها في الحب.
من المذهل أن هذا التعبير المرتبط بهذه الأغنية أصبح بمثابة أيقونة للحديث عن المستحيل في سياق مخاطبات المصريين ، ومع أنه بالطبع تعبير قديم فإنه أصبح إذا روي الآن لا ينسب إلا إلى أم كلثوم للإيحاء بما يقتضيه هذا الجو كله .
وهكذا تنتقل أم كلثوم بكلمات عبد الفتاح مصطفى لتصور قسوة أخرى من قساوة الحبيب حين كان يسمع آهات قلبها فيستقبل الآهات على أنها نغم أو نظم، وعندئذ يدرك المستمع بذكائه العاطفي أن الغضب قد بدأ يتحول إلى دلال وتدلل، وأن هذه العاشقة الرافضة لن تجد مانعاً في أن تستعيد ضحكات عاشقها حين كان يسمع آهاتها فيصورها لها نغماً، فيغيب العاشقان عن الوعي.
وفي أثناء هذه الغيبة التي جاءت خاطفة (كما هو الحال في كل وصال) تستسلم أم كلثوم استسلاماً كاملاً لم تكن المقدمات الغنائية ولا الشعرية ولا الموسيقية توحي به، لكنها كانت تقود إليه بفضل عبقرية الفنان العظيم رياض السنباطي الذي أحس بالنص إحساسا بلغ أقصى درجات السمو العاطفي فجعل الملايين يحسون به، وهم ينتقلون في لحظة واحدة من الغضب إلى الرهف إلى الرضا بل إلى الاستسلام الكامل حيث تقول أم كلثوم:
النغم رجعت حلاوته / وفضل لك قساوته … والهوى اللي هان عليّ/ ابتديت تعرف غلاوته
وهكذا تختلط الضمائر فلا تكاد تعرف الفاعل من المفعول به، ولا ضمير المتحدث من ضمير المخاطب، بفضل حالة الذوبان التي أجاد رياض السنباطي التمهيد لها بأكثر مما فعل عبد الفتاح مصطفى، بل وبأكثر مما تفعل أم كلثوم نفسها في كل أداء لهذه الأغنية الساحرة.
وتتأمل هذا المقطع حين تسمعه فتدعو للثلاثة بالرحمة، لكنك تشعر بالأمتنان الأكثر لرياض السنباطي الفنان العظيم الذي أجاد تصوير نصا بديعا واستكشف فيه كل ما يمثل الملحمة بمراحلها ، و وظف هذا الانتقال المفاجئ الذي جعله يبدو أمراً طبيعيا بل تلقائيا بل أوتوماتيكيا على نحو ما يحدث في الحب الحقيقي حين ينسى العاشقان كل العتاب والملام والألم في لحظة واحدة فيقولان ما قالته أم كلثوم بألحان السنباطي العظيم : النغم رجعت حلاوته.
تكرر أم كلثوم هذا السؤال الوجودي الذكي لتقدم للغناء العربي أغنية من طراز خاص لا يستطيع كثيرون أن يجدوا فيها ما يجده قليلون من أنها أعظم الأغاني تعبيراً عن أعظم لحظات الحب بما لم يستطع أي ثلاثة آخرين من عباقرة الفن أن يصوره مجتمعين معا
وبعد مقطعين حافلين بالتحليل النفسي الدقيق والصادق تبدو غلبة نزعة الإيمان الفلسفي في الشاعر عبد الفتاح مصطفى وهي نزعة يشاركه فيها الفنان رياض السنباطي وتشاركهما فيها أيضا ام كلثوم.
لكن أم كلثوم تبدو وكأنها أكثر حبا للتعبير عنها ، وهي لهذا تتسمر وكأنها تفكر في أن تبتسم ، وهي تطرب لقولها: والليالي/ …/ كنت بتسمي الليالي لعبة الخالي /…/ وهي عمر غالي.
وتعود أم كلثوم إلى وجدانها الداخلي لتسأل الظن والدموع عن حقيقة هناءة هذا المحب (الجاحد) بحيرتها وانشغالها.. وتسأله عن مقصده سؤال المتثبت من الحب الذي يتمنى للحب ألّا يكرر المرور بما مرّ به من قبل من آلام التجربة السابقة؟
وهي لهذا بعد أن وصلت إلى قمة النشوة تعبر عن انتشائها بها بأن تعبر بطريقة غير مباشرة عن خوفها من أن تفقدها ! وهي تتوجه إليه بالسؤال على الرغم من عدم ثقتها به لكنها تفعل ما تراه واجبا عليها تجاه قلبها، فتسأله : أهو مشتاق لحبها؟ أم لدموعها؟
وهنا نجد أنفسنا تحدثنا بالسؤال عما يعنيه النص من قدرة على التعبير عن صعوبة الاستقطاب بين بديلين متفاوتين أشد التفاوت، و صعوبة الاختيار بين هذين البديلين.
وتكرر أم كلثوم هذا السؤال الوجودي الذكي لتقدم للغناء العربي أغنية من طراز خاص لا يستطيع كثيرون أن يجدوا فيها ما يجده قليلون من أنها أعظم الأغاني تعبيراً عن أعظم لحظات الحب بما لم يستطع أي ثلاثة آخرين من عباقرة الفن أن يصوره مجتمعين معا على نحو ما فعل رياض السنباطي وأم كلثوم وعبد الفتاح مصطفى هذا النص بهذا الترتيب.