كان الشيخ عبد الحميد كشك قادرا على أن يكون خطيبا توافقيا، يتوافق مع تعليمات الوزارة في الستينيات أو هكذا كان في بداية حياته الوظيفية.
وهذا هو ما يذكره هو نفسه في مذكراته على نحو لن نتدخل فيه بأي تعليق لأن أجاد عرض الفكرة وقص القصة بسلاسة و تدفق وجمال :” إن أنس لا انسي يوم توجهت إلى مسجد الطيبي لأؤدي خطبة الجمعة بعد أن مضي على تعييني ثلاثة أشهر وقبل أن اصعد درج المنبر؛ فوجئت بأحد العاملين في المسجد يتقدم إلى بمنشور من وزارة الأوقاف، فدفعته إلى مرافقي فإذا هو فيه ” ينبه على خطيب الجمعة أن يكون موضوع خطبته اليوم حث المصلين على العناية بتنقية دودة القطن حيث القطن ثروة ذات عطاء اقتصادي للأمة ” .
وأشهد أنني أُصبت يومها يوجوم لا من أجل المفاجأة؛ وأن الموضوع جاء متأخرا إذ كان ذلك قبل صعود المنبر بنصف الساعة ليس إلا .
لم يكن الوجوم دافعة هذا إنما كان دافعه أشد عمقا ، إن دافع الوجوم هو التفكير في حقيقة هذه العقليات التي تصر على أن تكون الخطبة موجهة ،وأن يصير الخطباء أدوات موجهة .
وأن يتحولوا إلى أسري لدي أصحاب المكاتب؛ فكيف أخطب في موضوع يحث المصلين على تنقيه دودة القطن وجمهور المسجد الذي أخطب فيه أحد رجلين، إما تاجر أسماك وإما جزار والأقلية من متوسطي الثقافة ؟! فهل أتخلي عن عقلي وإدراكي وأخطب لأنهم المستمعين بعد ذلك بالجنون ؟ عافانا الله منه وعفا عنا .
“ولكن ماذا أصنع ؟ وهذه الخطبة يكتب عنها تقرير يترتب عليه أمور تتعلق بصلاحيتي في الخطابة والرجل الأريب العاقل هو الذي يقول كلمة الحق دون أن يسمح للآخرين أن يتسلقوا على كتفيه وليست الشجاعة تهورا ، وإنما الشجاعة حكمة وقوة إيمان وبعد نظر ، فكيف تصرفت لأكسب الجولة ؟
إن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضي الحال ولكل مقام مقال فالرجل الذكي يخاطب بغير ما يخاطب به غيره ، وفي الإشارة ما يغني عن العبارة وفي التلميح ما يغني عن التصريح وكان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمة يقول فيها :” لا تبغضوا الله تعالي إلى عباده “.
كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمة يقول فيها :” لا تبغضوا الله تعالي إلى عباده “.
وما أشد حاجة الدعاة إلى الله أن يتفهموا معني هذه الكلمة الفاروقية فالحالة النفسية للمستمع يجب أن يكون لها أعماق وجذور في كلام الناصح الفصيح .
فعلى وجه المثال : إذا دعيت لإحياء زفاف بكلمة دينية فليكن حديثك مناسبا للموضوع الذي يدور فيه الحفل فتختار من النصوص ما يلائم ذلك كقوله تعالي : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) …
هذه هي البلاغة فإذا ما تركت هذا النص وبدأت تفسر قوله تعالي : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد ) فقد بغضت الناس في كلام الله لأنك لم تطابق مقتضي الحال.
بعد ذلك سألت ربي أن يلهمني التوفيق فيما أقول، وكان ربي بي رحيما فوفقني إلى أن أتكلم في تفسير سورة النحل وهي سورة تعتبر مؤسسة اقتصادية؛ اشتملت على مصادر الإنتاج في شتي أنواع الثروات بدأها العلي الحكيم بخلق الإنسان بعد أن أمر بالتوحيد والتقوي .
فكيف أخطب في موضوع يحث المصلين على تنقيه دودة القطن وجمهور المسجد الذي أخطب فيه أحد رجلين، إما تاجر أسماك وإما جزار والأقلية من متوسطي الثقافة ؟!
فقال سبحانه ( خلق الإنسان من نطفة ) ثم انتقل النظم الكريم إلى الثروة الحيوانية فقال تعالي : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) إلى قوله جل شأنه ( ويخلق ما لا تعلمون) .
ثم انتقل النظم الكريم إلى الثروة النباتية فقال جل ذكره ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون . ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .
وهنا تحدثت عن الزرع والثمرات وأنهما من نعم الله تعالي . ومن الزرع والثمرات القمح والشعير والأرز والذرة والقطن وواجب المسلم أن يحافظ على تلك النعم فلا يتركها كلا مباحا للحشرات وأمراض النبات.
ولما كان القطن ثروة من أغلي الثروات، كان على المسلمين أن يحموه من هذه الحشرة التي تفتك به. ثم انتقل النظم الكريم إلى عالم الفلك فقال تعالي : ( وسخر لكم الليل والنهار . والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) ثم انتقل إلى ما في باطن الأرض من معادن وكنوز فقال جل شأنه : ( وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه ) وقال الصادق المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه :” التمسوا الرزق في خبايا الأرض )
ثم ينتقل النظم الكريم إلى عالم البحار فيقول جل شانه ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، وتري الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون ) .
وهكذا إلى أن تتنقل بنا الآيات إلى مدينة قرآنية قامت فيها صناعات شامخة : فهذه مصانع الألبان تنطق بلسان الوحدانية ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) .
هذه مصانع الألبان تنطق بلسان الوحدانية ( وإن لكم في الأنعام لعبرة )
وتلك المصانع للحلوى ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) وهذه مصانع العسل ( وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا . ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس . إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون ).
وقد سمي الله تعالي هذه السورة بسورة النحل لأن لنحل أكبر عالم من علماء الاقتصاد ، فهي تعطي أكثر مما تأخذ ، تمتص رحيق الزهر فتخرجه لنا شهدا فيه الشفاء والدواء والغداء وهكذا أديت خطبة الجمعة التي أرادوها موجهة ( بفتح الجيم ) وأرادها الله موجهة ( بكسر الجيم ) والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .