يبذل كثير من كتاب المذكرات وناشريهم جهودهم في مذكرات ضخمة؛ ثم يفاجأون بأن القراء لا يتداولون من هذه المذكرات إلا صفحة واحدة تغنيهم عن المذكرات كلها.
ويتنوع القراء و الراوون ما بين معجب بالصفحة ينسحب إعجابه إلى المذكرات، وصاحبها فيصوره صادقا وأمينا، وما بين من يضجر من الصفحة.
ولكنه لا يستطيع لأسباب عصبية أو عصابية أو أيديولوجية أن يهاجم صاحبها، وما بين من يضيق بالصفحة وبكاتبها على حد سواء ، وما بين طائفة رابعة تكره صاحب المذكرات من قبل نشره للمذكرات، وتجد في هذه الصفحة دليلا قاطعا على أنها كانت على حق في كرهها لصاحب المذكرات.
سأضرب للقارئ أمثلة قريبة وبعيدة على هذه المذكرات التي اختزلها الزمن في صفحة واحدة.
المثل الأول مذكرات عمرو موسى وزير خارجية مصر الأسبق -التي لم يجد فيها القراء غير الفقرة التي تروي أن السفارة المصرية في سويسرا؛ حيث كان عمرو موسى يعمل في بداية حياته كانت مسئولة عن شراء أنواع خاصة من الجبن ليتناوله الرئيس جمال عبد الناصر حرصا على صحته!
في الوقت الذي كان فيه الاستيراد ممنوعاً وكانت صورة جمال عبد الناصر الشعبية والدعائية والرسمية أنه لا يأكل إلا أرخص أنواع الجبن وهو الجبن القريش.
فيما عدا هذه الفقرة فإنني اتحداك بل أراهنك أن تجد أحداً اهتم بأي شيء في مذكرات عمرو موسى.
ذكر عمرو موسي في مذكراته أن السفارة المصرية في سويسرا؛ كانت مسئولة عن شراء أنواع خاصة من الجبن ليتناوله الرئيس جمال عبد الناصر حرصا على صحته! بينما كانت صورة عبد الناصر الشعبية والدعائية أنه لا يأكل إلا أرخص أنواع الجبن وهو الجبن القريش.
المثل الثاني هو مذكرات خالد محي الدين (أحد حركة الضباط الأحرار المصرية ) التي كتبها الدكتور رفعت السعيد بعنوان “والآن أتكلم” .
وقد نقل كل من هب ودب وكل من عاش ومات (أي كل إنسان) عن هذه المذكرات الفقرة الصادقة التي روى فيها خالد محيي الدين عن جمال عبد الناصر أنه هو صاحب التفجيرات التي تمت في القاهرة في أزمة الديموقراطية 1954 ؛ وأنه نفذ هذه التفجيرات ليخيف الناس ويرهبهم ويجعلهم يلجأون إلى صاحب الدبابة الذي هو حكم العسكر أي جمال عبد الناصر نفسه..
فيما عدا هذه الفقرة التي نقلت ولا تزال تنقل آلاف المرات لا تجد أي تعويل ولا نقل عن مذكرات خالد محيي الدين.
المثل الثالث هو مذكرات حسين عزت الذي كان سببا في زواج صديقه وزميله وشريكه أنور السادات من السيدة جيهان السادات التي هي ابنة خال زوجه هو (أو بطريقة إعادة كتابة النسب فإن زوجة حسين عزت هي ابنة عمة السيدة جيهان) في هذه المذكرات التي عنوانها “الأقزام السبعة وثامنهم هيكل” فقرة مهمة لم ينقل أحد غيرها وهي الفقرة التي يعترف فيها صاحبها بأنه اكتشف بعد وفاة السادات (!)
أن السادات لم يكن قد طلق زوجته الأولى السيدة إقبال ماضي؛ حين عقد قرانه على قريبته السيدة جيهان السادات في 1949، وأنه لم يعلم هذا إلا من لقاء بالصدفة مع السيدة إقبال ماضي التي عاتبته في هذا وطلبت منه حق بناتها في إرثهن من والدهن الذي استولت عليه السيدة جيهان السادات..
وبصرف النظر عن علاقة حسين عزت بالسادات وبالسيدة جيهان السادات؛ بل وبقريبتها التي هي زوجته هو نفسه التي طلقها منذ زمن بعيد؛ فقد أصبحت هذه الصفحة هي كل ما في مذكرات حسين عزت وكل ما بقي منها، وكل ما نقل عنها بل وكل ما قرئ منها.
روى خالد محيي الدين عن جمال عبد الناصر أنه هو صاحب التفجيرات التي تمت في القاهرة في أزمة الديموقراطية 1954 ؛ وأنه نفذ هذه التفجيرات ليخيف الناس ويرهبهم ويجعلهم يلجأون إلى صاحب الدبابة الذي هو حكم العسكر
المثل الرابع مذكرات محمد عبد الفتاح أبو الفضل نائب رئيس المخابرات العامة التي اختزلها اليساريون والناصريون في فقرة كتبها نائب رئيس المخابرات عن زميله حسن التهامي؛ الذي اختصه نظام الرئيس جمال عبد الناصر بدور من أدوار مبنى برج القاهرة.
لم تكن المخابرات أو نائب رئيسها الذي هو صاحب المذكرات يعرف شيئا عن طبيعة نشاطه، وهكذا سماه “القلعة الغامضة” وفيما عدا هذه الفقرة لا تجد أحد يذكر شيئا أو ينقل شيئا عن هذه المذكرات.
المثل الخامس هو مذكرات محمود الجيار التي كانت من أوائل ما نشر من المذكرات عن عهد الرئيس جمال عبد الناصر ولم يبق من هذه المذكرات إلا الصفحة التي أثارت اهتمام القراء والمتابعين منذ نشرت هذه المذكرات وهي الصفحة التي روى فيها الجيار عن عبد الناصر قوله عن زكريا محيي الدين إنه أصفراوي.
المثل السادس وهو مذكرات جميل مطر حيث اقتصر النقل فيها على هجومه على ضابط سفير لم يذكر اسمه وهو أحمد طعيمة الذي كان وزيراً للأوقاف في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
بقي أن نشير إلى أن مذكرات أحمد أبو الغيط نموذج للمذكرات التي تفتقد اللون والعلم والرائحة حتى إن احداً لم يجد ما ينقله عنها على أي مستوى ومثلها في ذلك كثير من المذكرات التي كتبها عسكريون مهمون .