الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / ميشيل عفلق المفكر العربي الذي اخترع الخلاطات الحزبية

ميشيل عفلق المفكر العربي الذي اخترع الخلاطات الحزبية

لا تستقيم الكتابة عن سوريا الحديثة بدون الكتابة عن ميشيل عفلق 1910 -1989 ، وهي كتابة خطرة  وصعبة و مخيفة لأن المعتاد في حديث الناس عن سوريا أن يلعنوا بعضهم البعض ويلعنوا ميشيل عفلق  مع بعضهم بعضا .
ومن الصعب أن تجد من يقدر دور ميشيل عفلق  من دون انتقاد،كلي أو جزئي ، ظاهر أو خفي. فالكل مجمع على انتقاده؛ وانتقاد مراحل عمله ونشاطه السياسي، لكني على خلاف هؤلاء جميعا أرى في ميشيل عفلق  إيجابيات كثيرة نادرة، لم توجد في أحد غيره في العصر الذي عاش فيه.

وكانت هذه الإيجابيات سببا لنجاحه النظري والعملي أيضاً، ولخلود اسمه، على نحو لم  يُتح لأي من معاصريه بمن فيهم الرؤساء والساسة والقادة والأبطال والطُغاة والطواغيت. وسأبدأ الحديث عن هذه الإيجابيات الموضوعية على نحو تاريخي يتوافق في الوقت ذاته مع المراحل التاريخية في التطور السياسي الذي شارك فيه ميشيل عفلق .
أول هذه الإيجابيات هي ميل ميشيل عفلق  إلى الإندماج والاتحاد، ولم يحدث في تاريخ الحركة الحزبية العربية كلها أن حدث هذا التوجه بالصورة التي أنجزها عفلق .

ميشيل عفلق مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين

فهو كما نعرف بدأ يُفكر بمفرده ، ثم اندمج مع صلاح البيطار فكونا حركة الإحياء العربي في 1940 وهي نفسها الحركة التي سميت بعد ذلك بحركة البعث العربي.

وكان زكي الأرسوزي (1899 ـ 1968) قد سبق إلى استخدام هذا المصطلح (البعثي) وفي 1947 (أي بعد 7 سنوات من تأسيس حركته ) اندمج البعث العربي أو اندمج عفلق والبيطار مع منظمة زكي الأرسوزي فتكون حزب البعث العربي ، وبعد خمس سنوات أخرى أي في 1952 اندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي الذي اسسه أكرم الحوراني وأصبح ميشيل عفلق  نفسه رئيسا لحزب البعث العربي الاشتراكي في 1954 .
وفي 1958 أسهم ميشيل عفلق  نفسه وحزبه وبعثه في اندماج سوريا كلها في مصر، ومن ثم اندماجه هو نفسه في الرئيس عبد الناصر.

وكان هذا هو الاندماج الخطر الذي يناظر الاندماج النووي في خطورته، ذلك أن الرئيس عبد الناصر بجاذبيته وديكتاتوريته وزعامته وعسكره وقوة مصر المعنوية والمادية أجبر الأستاذ ميشيل عفلق  على تحويل الاندماج إلى ذوبان، أي أن يحل عفلق حزب البعث ويدخل ذائبا كجزيئات منفصلة بدون شحنة كهربية ولا تكافؤ أو كأفراد منفصلين عن بعضهم البعض في  تنظيم الرئيس عبد الناصر المبكر الذي كان اسمه الاتحاد القومي.


ومع أن هذه الخطوة كانت كفيلة بالكثير من الإيجابيات فإن شأنها شأن كل الأفكار الطوباوية التي تبناها الرئيس عبد الناصر بأداء مظهري و دعائي تحولت إلى عوامل سلبية، وكانت سببا في التعاسة التي تعانيها سوريا منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، وإلى ما بعد يومنا هذا، فقد ترتب على هذه الخطوة ثلاث اتجاهات مدمرة في سوريا.
الاتجاه الأول: هو تعويض السيطرة البعثية الفكرية على نحو حزبي  تنظيمي و سلطوي قاتل، يعتبر الانسان البعثي من طبقة أعلى من بقية السوريين و العرب على نحو ما كان الرئيس عبد الناصر يعتبر جماعة الطغمة العسكرية طبقة أعلى من السياسيين.
الاتجاه الثاني: هو حرص البعث على الوصول إلى السلطة أولا وعلى الانفراد بها. ثانيا وأن يكون هذا الانفراد على الطريقة الناصرية المريحة المستريحة التي تتطلب تأمينا شرسا تقوم به أجهزة مخابرات رهيبة ومذابح وسجون واعتقالات ونفي.
الاتجاه الثالث: هو التشرذم السياسي والتشظي الذي لا يقيم وزنا لفكر إلا بقدر ما يستغل الفكر في الترويج للشخص أو القرار.

 الرئيس عبد الناصر بجاذبيته وديكتاتوريته، وعسكره وقوة مصر المعنوية والمادية أجبر  ميشيل عفلق  على تحويل الاندماج إلى ذوبان، أي أن يحل عفلق حزب البعث ويدخل ذائبا كجزيئات منفصلة بدون شحنة كهربية في  تنظيم  عبد الناصر المبكر الذي كان اسمه الاتحاد القومي.


وقد بدأ هذا التمادي القسري في عداء نهج الرئيس عبد الناصر أي منذ ما بعد الانفصال بعام أو عامين 1962 / 1963 وقعت سوريا أسيرة للجدل والحزبية والشكلية والإنكشارية التي قادت إلى تكوين دوائر متصلة ومترامية ومتشابكة ومتكررة من التخوين والاستقطاب.
وبالطبع فقد كان ميشيل عفلق  نفسه أول ضحايا هذا التطور الذي أحدثته الناصرية ومن بعدها النصيرية في الكيان السوري حتى إنه هو نفسه أُجبر (بقوة السلاح بالطبع) على الاستقالة من منصبه زعيما للبعث في 1965 وتأكد هذا تماماً في 1966 حتى إنه أصبح مضطراً إلى الهرب إلي بيروت ثم إلي بغداد حيث عاش بقية عمره .

وأدرك عصر صعود الرئيس صدام وعاش هذا العصر أشبه ما يكون بالرمز بلا رمزية، وبالزعيم بلا زعامة، وبالمنظر بلا نظرية ثم أتيح له أن يموت في باريس التي عاش فيها شباب فكرته وقد مات وهو يعالج على نفقة الحكومة العراقية في عهد مجدها أو في مجد ذروتها في 1989 قبل أن تقع حرب الخليج وتتوالى الكوارث على العراق .


وكان من الطبيعي في العقلية الأمريكية الباحثة عن شرعية لتصرفاتها أن تصور اجتثاث البعث على أنه هدف استراتيجي ، وبلغ الأمر في هذا التوجه إلى ضرورة هدم قبر ميشيل عفلق  في نوفمبر 2003 على يد قوات الاحتلال الأمريكي ، وألا يسمح بتهريب شاهد قبره إلى الأردن في العام التالي مارس 2004.


هل كان من الممكن أن يبقى ميشيل عفلق  في صورة أفضل لو لم يحدث لسوريا ذلك الاندفاع المحبب إلى الوباء الناصري؟


 بالطبع فإن الإجابة مفهومة لكن الأهم من الإجابة هو إن  كان على ميشيل عفلق  أن يستوعبه من تجربة القوى السياسية المناظرة له وما واجهته على يد الرئيس عبد الناصر، فهو بطريقة أو بأخرى كان قريبا من الشيوعيين المصريين الذين أودعوا السجون في عام الوحدة نفسه، وهو كان يعرف تجربة مصر الفتاة والحزب الاشتراكي والحزب الوطني الجديد التي لم تكن كلها تمثل أي خطورة على الناصرية وهو بالطبع كان مستوعبا لمصير الإخوان المسلمين بل لمصير الوفد والأحزاب التقليدية المصرية الكبيرة نسبيا من قبيل الأحرار الدستوريين والسعديين أو الصغيرة من قبيل الكتلة الوفدية.
لكن الغرور أو السذاجة جعلت الأستاذ ميشيل عفلق  لا ينتبه إلى هذا كله ويندفع في المهرجان الناصري الذي كان من الواضح لكل دارس أنه سيكون مهرجانا لقتل من يشاركون فيه سواء كان القتل معنويا أو ماديا بمعنى القتل نفسه. وهو ما حدث بالفعل .


لكننا مع هذا لا نستطيع أن نقول إن عفلق معذور بل على العكس فإنه بعقله و فهمه لم يكن يجهل الخطايا ولا الأخطاء الناصرية ، لكنه فيما آلت اليه صورته الآن بدا و كأنه كان هو نفسه محباً لهذه الأخطاء من قبل الرئيس عبد الناصر، وهكذا جمعت بينهما الأخطاء في الفكر والتنظير على نحو ما .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com