مرسي جميل عزيز واحد من ثلاث شعراء مبدعين من الأجيال التالية لرامي استطاعوا أن يقدموا للسيدة أم كلثوم نصوصاً تواصل بها هذا التعبير (الحكيم وغير الحكيم) عن التجارب الإنسانية على النحو الذي كان الشاعر أحمد رامي يعالج بها هذه القضايا، مع الاختلاف (المتوقع والمفهوم) في منظورهم إلى الحياة والحب والحبكة، ولهذا فإننا في دراستنا لغنائيات أم كلثوم لابد أن ندرس نماذج ثلاثة مهمة لثلاثة شعراء افذاذ هم حسب مولدهم:
· نموذج مرسي جميل عزيز (1921 ــ 1980) والذي هو المتوسط الرياضي بين أحمد رامي وبيرم التونسي، وسنعرض من أعماله الفكرية قصيدة سيرة الحب (1964) التي لحنها بليغ حمدي
· نموذج عبد الفتاح مصطفى (1924 ــ 1984) وهو المتوسط الرياضي بين احمد رامي وإبراهيم ناجي وسنعرض أغنية “لسه فاكر” (1960) التي لحنها رياض السنباطي
· نموذج عبد الوهاب محمد (19٣0 ــ 1996) المتوسط الرياضي بين أحمد رامي ومأمون الشناوي وسنعرض اغنية “فكروني” (1966) التي لحنها محمد عبد الوهاب
· كذلك فاننا نعرف نموذجا رابعا مختلفا بعض الشئ وهو نموذج أحمد شفيق كامل (19٢٩ ــ ٢٠٠٨) المتوسط الرياضي بين أحمد رامي وطاهر أبو فاشا وقد تحدثنا عنه في اغنياته “انت عمري” (196٤) و”امل حياتي ” اللتين لحنها محمد عبد الوهاب واغنيته التي لحنها بليغ حمدي.
ما يجمع الشعراء الأربعة وما يميز كلا منهم
قدم هؤلاء الشعراء الأربعة صوراً غنائية جميلة لأم كلثوم استطاعت بها أن تواصل تعميق وتوسيع الخط الذي بدأته مع أحد رامي ثم بيرم التونسي مع تنوع كفيل بإرضاء نزعات عقلية متفاوتة، فبينما كان مرسي جميل عزيز يعنى بالصورة وتعدد ملامحها وزواياها فإن عبد الفتاح مصطفى كان يُعنى بتعدد أعماقها وطبقاتها أما عبد الوهاب محمد فكان يتميز بما لم يسبق اليه في صياغة المقاربات والمفارقات القائمة على قلب المنطق واستكناه طبائع الأشياء، وبوسعنا أن نقدم للقارئ نصوصا دالة على هذه الفروق الجوهرية والمتكاملة في صياغتها لتراث ام كلثوم ومجمل إنجازها في نهاية الأمر.
المعاني التي أجاد تقديمها
قلنا إن مرسي جميل عزيز يمثل، في رأينا، المتوسط الرياضي لأحمد رامي وبيرم التونسي ، والحقيقة أن هذا الشاعر الملهم قد قدم في نصوص أغنياته الثلاث التي لحنها بليغ حمدي لأم كلثوم كثيراً من المعاني التي وصفناها ونكرر وصفها بأنها تعبر عن الصورة وتعدد ملامحها وزواياها، وانظر إليه على سبيل المثال في أولى أغاني هذه الثلاثية وهي سيرة الحب حيث تبدأ أم كلثوم بمقدمة مثيرة رغم هدوئها إذ تعبر بأصدق ما هو متاح من الأداء الفني الذي يمتزج فيه اللحن بالكلم عن خوفها الشديد من سيرة الحب، ونحن نعلم أن المقصود بسيرة الحب للوهلة الأولى حسب دلالة اللغة العامية المصرية هو مجرد ذكر الكلمة لكننا نكتشف أن الذكر وحده يستدعي كل شيء من قصة كل حب ومسيرته الطويلة.. وهكذا فإن الشاعر الذكي استخدم الكلمة المحورية في الأغنية بمعنييها العامي والفصيح، أو المعجمي والمتداول، فهو يبدأ بجذب الاهتمام نحو المعنى العامي الذي لا يتجاوز مجرد ذكر الكلمة، ثم هو يبرر الخوف من مجرد ذكر الكلمة بما توحي به الكلمة نفسها من قصة حياة الحب، كل حب، وما في هذه القصة الطويلة من آهات ودموع وأنين، وتوبة، وذوبان، ثم ذوبان وتوبة، وشوق وسهر، وعذاب، وانهزام، واستصغار للهمة.
ثم هو ينتقل في مقطع تال للحديث عن الحيرة النفسية والعقلية معا، والاعتراف بالعجز عن تفسير ما لا يفسر من الوقوع في الحب، والاستمرار فيه، وتحول الحب إلى حياة، وتكرار الاعتراف بالجهل أو بعدم المعرفة أو بالاندهاش من عدم القدرة على فهم القلب بالعقل، وفي مقابل هذا فإن الأغنية تعترف بأن الحب يشكل الحياة ويغيرها، ويبلغ من تأثيره مدى غير معقولاً حتى إن الهمسة تذيب ولا يتوقف هذا الذوبان عند حد، ولا عند وقت، وإنما هو يحدث بالليل وفي الصباح..
مسيرة العمر مع الحب
وعلى هذا النحو تمضي أغنية أم كلثوم وكأنها علامة فارقة في الحديث عن مسيرة العمر مع الحب، من زاوية متأملة: فها هي أم كلثوم أوها هو مرسي جميل عزيز يتقمص صوتها ليلخّص بعض ما رآه من تجارب البشر على مدى السنين، حيث رأى العاشقين من دون أن يراقبهم، وإنما وجدهم وقد فرضت أحوالهم نفسها عليه، فبعضهم يحدث نفسه، وبعضهم يعبر عنها بأن يحدث مواله بالبكاء، وهي لهذا تقرر بكل ثقة ويقين أن أهل الحب مساكين، وتؤكد على هذا المعنى بكل معاني التأكيد الناشئ عن تكرار النغمة، بالطريقة الموحية بأن هذه هي الحقيقة ولا حقيقة غيرها.
وهنا يدرك المستمع بكل وضوح أن التنغيم الذي تؤدي به أم كلثوم مثل هذه الجملة التي تتحدث عن أن اهل الحب مساكين هو جوهر من جواهر الشاعرية والفن في هذا العمل، لكنه ليس هو الجوهر الوحيد ذلك أن مرسي جميل عزيز سرعان ما يفاجأ الجمهوربل إنه يبدو وكأنه قد فاجأ المطربة نفسها ببداية جديدة من زاوية جديدة للصورة وقد انتقل من خلف العاشق البائس ليصور عاشقا من طراز آخر صادفه إلى جواره فوجده يحدث نفسه بأن الحكمة كل الحكمة تكمن في رفض الحب، وهو لهذا يختزل الصورة النفعالية او التفاعلية في أن الحب نادى فلم يستجب له القلب بأي رد. وتكرر الفنانة القديرة صاحبة الصوت المخضرم المولع بالتطريب والترديد والتلوين والتحوير والتعبير هذا النص الذي يبدو عارضا مستعرضا بكل ما يمكنها من تلوين للجملة موحية مرة بالانتقام، ومرة بالثأر، ومرة بالأسف، ومرة بالعجز، ومرة باليأس، ومرة بالأسف على أن رد فعلها كان على هذا النحو.
ويتجاوب الجمهور مع أم كلثوم في كل أداء من هذه الأداءات التي تنجح باقتدار في أن تمس شغاف القلب بما تسربه إلى الأذن من رقة يملكها الصوت المتلون بأكثر مما يملكها القلم الملون الذي صاغ الكلمات، وهو يعرف أن الفنانة المؤدية قادرة على أن تلبس هذه الكلمات مشاعر الانتقام أو الثأر أو الأسف أو العجز او اليأس أو غير ذلك مما لا أستطيع أنا أو أنت تصويره بقدراتنا المحدودة لكننا ندرك أن الحقيقة سوف تبقى في ذاكرة المستمع، وهو متأكد من أن القلب لم يرد على نداء الحب.
الانتقال الذكي من الدلال للتدلل
وينتعش مرسي جميل عزيز بعد أن وصل إلى هذا التركيز الحافل بالمعاني وما صحبه من التجريد الحافل بالتأثيرات فيواصل خطه في رسم مثل هذه المشاعر بصورة أخرى، وعبارات أخرى، تكاد تصور معنى آخر، ولا تكرر المعنى الذي أجاد تصويره من قبل، وهو يقول إن الشوق يحاول أن يحايل العاشقة لكن العاشقة تستدعي من عقلها ذكرى العذاب فتخاطب “الشوق” على أنه “العذاب”، أو تخاطبه باسمه عندها وهو العذاب، وهكذا فإن الفنانة في الظاهر تبدو وكأنها حسمت أو أوشكت أن تحسم قضيتها لكنها سرعان ما تحاول أن تثبت نفسها القادرة على الدلال والانتقام، وهو دلال يمثل ذروة من الحب والذوبان فيه، وهكذا يصل بليغ حمدي وهو الفنان الملحن لقصيدة مرسي جميل عزيز بأم كلثوم إلى أن تنتقل بالنغمة لتبدأ سلسلة من التعبير عن التدلل لا عن الدلال فحسب.
ولا غرو في أن يقودها التدلل الى حديث من أحاديث الفخر المتدلل من قبيل القول بأن العيون الكثيرة شاغلتها لكنها لم تشغلها، لكن هناك استثناء من هذه العيون والاستثناء هو عيون هذا العاشق الذي يكاد كل مشاهد وكل مستمع في الحفلة وكل مستمع للراديو في تلك اللحظة يظن أنه هو المقصود، ذلك أن ضمير المخاطب ينادي كل مستمع أو حاضر، وكأنه هو البطل الذي أخذت عيونه المطربة فأمرتها بأن تحب فاستجابت بتلقائية، وجدتها من نفسها، ولم تتوقف عند الاستجابة وإنما أصابها الذوبان الذي كانت تتحدث عنه في المقطع الذي تناولت به القضية في التجريد السابق. وهكذا ينتقل مرسي جميل عزيز من هذا المقطع عبر الزمن، حيث تتنازل المطربة عما هومفترض من شبابها، لتحدثنا بخبرة السنين عما رأته في حياتها من الحب إلى تجريد من نوع آخر يعبر عنه مقطع كامل شهير يلقي بخيبة الحب على المحبين أي على هذا الطرف أو ذاك من عاشق ومعشوق أما الحب نفسه فلا عيب فيه..
وهكذا تبدأ أم كلثوم التغني بفلسفة حكيمة تؤديها بصوت واثق في الحديث عن أن الحب نفسه لا عيب فيه وهي لهذا تحب الحب، بل إنها تمجده وتجعله أحلى شيء في الحياة الدنيا مهما كان التعب، والغُلب والشكوى، ويتبلور هذا في النداء المصري المعروف بأن الحب هو الروح، وإذاً فنحن نرى أنفسنا مع لحن بليغ حمدي وكأننا نتنقل بين أجزاء متتالية في سيمفونية حافلة بمشاعر متتابعة على نحو قريب مما نراه من إحساسنا بالموسيقى الكلاسيكيية لكننا هنا نستمتع أيضا بصوت وتصويت وكلمات ومحاورة.
كهرباء التنهيد
وبعد أن تكون أم كلثوم قد خدرت مستمعيها تماماً بالتقرير والتكرار لكلمات المقطع السابق فإنها تبدأ في الحديث عن كهرباء الحب وكأنها هي نفسها الكهرباء المنزلية التي نعرفها، أي الكهرباء المترددة التي يتخلق تيارها من هذا التردد بين الوصال والفراق وما تستدعيه هذا الكهرباء من التنهيد! وهي حالة شعورية مختلفة عن الكهرباء الأولى التي تأتي على هيئة دفقة تثير الشعور او الرعشة فحسب لكنها لا تخلق هذا التيار من كهرباء الحياة، وتسرع الأغنية في تصوير مظاهر البهجة في الحب من الشموع وضوء الشوق والحلاوة التي تراها العين، واختطاف الحب لها وسيطرته عليها، ولهذا فإنها تلوم الذين يظلمون الحب ويشتكون منه، ويعددون بعض متاعبه، وتكرر لومها لهم ودفاعها عن الحب.
ثم هي تصل إلى خطاب معشوقها خطاب الخضوع الكامل الذي يجعلها تهدي حياتها له، لأنه ملأ هذه الحياة بالحب، فأصبح مالكا لروحها وقلبها وعقلها، وهي بروحها وقلبها وعقلها ملك ليديه وصوته وهمساته ونظراته، وهنا يتجلى الشاعر وهو يزاوج بين الزهور والشموع في مزاوجة غير مسبوقة في التعبير عن الصورة، لكن مرسي جميل عزيز كما قلنا في مقدمة حديثنا عنه يجيد تنويع الصور والزوايا، ولهذا فلم يكن من الصعب أن تتوافق الزهور والشموع في صورته.
الوصول إلى ذكر الله
ثم إن مرسي جميل عزيز بعد هذا كله لا يجد سيرة الحب تستقيم بدون ذكر الله سبحانه وتعالى فإذا به في لمحة صوفية عارمة يصل إلى ما لا يصل إليه إلا أصحاب القلوب المؤمنة التي ترى قدرة الله جلّ جلاله في كلّ شيء، ولهذا فإنه يعبر عن رؤيته لله سبحانه وتعالى في الحب والهناءة والدموع وجرح الحب فلا يجد أمامه إلا أن يكرر لفظ الجلالة مرة بعد أخرى، تعبيراً عن الإيمان واليقين وتعبيراً عن النشوة والبهجة في الوقت ذاته، وهو يقدم هذا المعنى ليختم به سيرة الحب على نحو ما تنتهي كل سيرة في رحاب الله جلّ علاه.
تجربة مرسي جميل عزيز في ألف ليلة وليلة
أما في أغنية ألف ليلة وليلة التي لحنها بليغ حمدي للسيدة أم كلثوم من كلمات مرسي جميل عزيز فقد بلغ الأداء الأوبرالي للفنانين الثلاثة ذروة من ذرى الفن العربي الذي يقدم طرازاً خاصاً من الغناء العربي الذي يبدو وكأنك فيه ترى التخت الشرقي وهو يساعد النغمات الصارخة بعطف، ونرى النغمات الصارخة وهي فخورة أمام النحت الشرقي بقدراتها الحركية القافزة ولم لا ؟ فإنها أي الأغنية بكلماتها وحوارها تعبرعن مناسبة خاصة جداً تمثل الليلة فيها ألف ليلة، وهي ليلة تختزل الحياة كلها، إذا ما أراد المستمعون أن يحيوها فإن عليهم أن يبحثوا عن ليلة مثلها.