كانت أولى النتائج التي ترتبت على الثورة العرابية في ٩ سبتمبر ١٨٨١ أن استدعى الخديو توفيق شريف باشا، وكان وقتئذ بالإسكندرية، وعهد إليه تأليف الوزارة فتردد أياماً في قبول المهمة، إذ كان لا يرضى عن تدخل الجند في السياسة، وما يفضي إليه من سقوط هيبة الحكومة وقيام الفوضى في البلاد. كان شريف كما هو معروف ومعلن يرفض تدخل العسكر في شؤون الحكم، ويعتبره عدوانا على الدستور، فقضى بضعة أيام متردداً في قبول الرئاسة، حتى قدم له زعماء العسكر (او العرابيون كما يوصفون الآن) المواثيق والضمانات والوعود ألا يتدخل الجيش في شؤون الحكومة.
نصيحة شريف باشا للعسكريين
ذهب زعماء الثورة من الضباط وعلى رأسهم عرابي ليشكروه على قبوله الوزارة في تلك الأوقات العصيبة . وكان شريف باشا حريصا في هذا اللقاء على ان ينبه القادة العسكريين إلى ما كان يؤمن به من ضرورة ووجوب ابتعاد الجيش عن التدخل في السياسة، فأجاب على كلمة الشكر التي سمعها منهم بقوله: «في علمكم ما قاله الأقدمون: آفة الرئاسة ضعف السياسة، ولا حكومة إلا بقوة، ولا قوة إلا بانقياد الجنود انقياداً تاماً، وامتثالهم امتثالاً مطلقاً».
وكان مما قاله شريف باشا مما يعتبر من أفضل النصوص المناهضة لتدخل العسكر في السياسة: « كل حكومة عليها فرائض وواجبات، من أهمها صيانة الوطن، وحفظ الأمن العمومي فيه، وهذا وذاك لا يتأتيان إلا بإطاعة رجالها العسكريين، فترددي أولاً في قبول الرئاسة، ما كان إلا تجافياً عن تأسيس حكومة غير قوية تخيب بها الآمال، ويزيد معها الإشكال، فأكون عرضة للملامة بين أخواني في الوطن وبين الأجانب، وحيث أغاثتنا الألطاف الإلهية، وحصل عندي اليقين بانقيادكم، فقد زال الاضطراب من القلوب، ورتبت الهيئة الجديدة من رجال ذوي عفة واستقامة، فأوصيكم بملاحظة الدقة في الضبط والربط، لأنهما من أخص شؤون العسكرية وأساس قواها، واعرفوا أنكم مقلدون أشرف وظيفة وطنية، فقوموا بأداء واجباتها الشريفة، وعلي القيام بأداء كل ما يزيدكم فخراً وسؤدداً، وفقنا الله وإياكم».
تأليف وزارته الثالثة
ألف شريف باشا الوزارة في ١٤ سبتمبر 1881، أي بعد وقفة عرابي الشهيرة بخمسة أيام، وكانت هذه ثالث وزارة يؤلفها، وتقلد رئاسة الوزارة إلى جانب الداخلية. وعهد بوزارة الحربية إلى محمود سامي باشا البارودي، لأنه كان موضع ثقة العرابيين( وهو الذي سيخلفه في رئاسة الوزارة بعد شهور قليلة في فبراير ١٨٨٢ وضمت هذه الوزارة كلا من :
حيدر باشا للمالية
إسماعيل أيوب باشا للأشغال
مصطفى فهمي باشا للخارجية
محمد زكي باشا للمعارف والأوقاف
محمد قدري باشا للحقانية.
الإنجاز الديموقراطي في وزارته الثالثة
في وزارته الثالثة التي تولت في ١٤ سبتمبر 1881، دعا شريف باشا إلى إجراء انتخابات عامة، طبقا للائحة مجلس شورى النواب القديم المؤسس في عهد إسماعيل على أن تعرض الوزارة على المجلس المنتخب التعديلات التي ترى إدخالها على نظام المجلس ليقرر ما يراه من التعديل في نظامه حتى ينهض إلى مستوى المجالس النيابية الصحيحة، أي أنه دعا إلى انتخاب مجلس شورى النواب على أن يكون بمثابة جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد. وقد تم الانتخاب، وافتتح الخديو هيئة برلمانية جديدة لمجلس شورى النواب في 26 ديسمبر 1881 وبدأ ذلك المجلس يتولى أعماله، وفي ٢ يناير 1882 عرض عليه شريف باشا مشروع القانون الأساسي للمجلس النيابي، كي يبحثه المجلس، ويقرر ما يراه فيه، وكان المشروع يتضمن الإقرار بمسئولية الوزارة أمام مجلس النواب وتخويله حق تقرير الميزانية، والرقابة على أعمال الحكومة والزامها بعدم فرض اي ضريبة أو إصدار أي قانون أو لائحة إلا بعد تصديق مجلس النواب.
كلمته في عرض مشروع الدستور
حين عرض شريف باشا مشروع القانون الأساسي على البرلمان ألقى كلمة ذكر فيها أنه في وضع هذا المشروع إنما ينفذ الخطة التي رآها منذ ثلاث سنوات في عهد إسماعيل: “تعلمون حضراتكم أنه منذ ثلاث سنوات تراءى لي أن الطريقة الوحيدة لخلاص البلاد من الورطات التي كانت محيطة بها هي توسيع نطاق الشورى، واشتراك رأي نواب الأهالي مع الحكومة في نظر كل أمر مهم تعود منه المنفعة، وكنت قدمت مشروعاً لمجلس النواب، الذي كان موجوداً وقتئذ، وهو أجرى فيه تغييرات لم يتيسر للحكومة النظر فيها، ثم طرأت حوادث سياسية ومالية ليست خافية عليكم (يقصد خلع إسماعيل ومشكلة الديون) ترتب عليها تعويق إتمام المشروع، والحمد لله قد زالت العوائق “.
آماله في تقدير النواب للمسئولية
ثم أشار شريف باشا في ذلك المقام إلى جوهر رأيه في القانون الأساسي القديم لمجلس شورى النواب، وأنه لا يلائم حالة البلاد، وأن هذا ما دعاه إلى وضع المشروع الجديد (وهو مقتبس من دستور سنة 1879 )، والمح إلى أنه كان هناك رأي بعدم إطلاق سلطة المجلس طفرة واحدة، ولكن ثقته بكفاءة النواب جعلته يميل إلى تخويل المجلس سلطته التامة، مع احترام تعهدات الحكومة المالية المترتبة على اتفاقاتها مع الدول، أو على قانون التصفية، مؤملاً أن تتخلص البلاد مع الزمن من قيود هذه الاتفاقات: ” …… ولما كانت لائحة النواب التي اجتمعتم على مقتضاها لا تلائم أفكارنا جميعاً، كما أوضحت ذلك منذ ثلاث سنوات، وكررته بالمعروض الذي رفعته أخيراً للسدة الخديوية عن طلب اجتماع مجلسكم هذا، فقد اشتغلت مع رفقائي بتحضير لائحة موفقة لمقاصد العموم، وقد تمت، وها أنا الآن أقدمها لحضراتكم للنظر فيها، مع كون هذه أول مرة اجتمع فيها مجلس نواب حر، وكان يلزم أن السلطة التي تعطى له لا تكون مطلقه بالكلية حتى يحكم المستقبل بإطلاقها بالتدريج شيئاً فشيئاً، لكن حيث أن مقصدنا جميعاً واحد، وهو خير البلاد، والحكومة معتقدة بكفاءة النواب وعلمهم بحقوقهم وواجباتهم ومحبتهم للوطن، فقد أعطت لكم الحرية التامة في إبداء آرائكم وحق المراقبة على أفعال مأموري الحكومة من أي درجة أو اي صنف كانوا، وتصرح لكم بنظر الموازين (الميزانيات) العمومية، وابداء رأيكم فيها، ونظر كافة القوانين واللوائح، وقد التزمت الحكومة بعدم وضع اي ضريبة، ولا نشر أي قانون أو لائحة ما لم يكن بتصديق وإقرار منكم، وكذلك تعهدت بأن تجعل النظار مسئولين لديكم [ أي أمامكم] عن كل أمر يترتب عليه إخلال بحقوقكم، والغاية فإن لم يحجر عليكم في شيء ما، ولم يخرج أمر مهم عن حد نظركم ومراقبتكم”.
الخلاف بين شريف باشا والحركة العرابية
بعد أن عرض شريف باشا مشروعه الدستوري (القانون الأساسي) في يناير ١٨٨٢ تمكنت دسائس الدولتين الاستعماريتين انجلترا وفرنسا من خلق أزمة سياسية من النوع المعهود في إحداث التفريق بين جناحين وطنيين وذلك من خلال استفزاز الوطنيين بفعل يجلب اختلاف الرأي فيما يجب اتخاذه كرد فعل له، وهي طريقة لا تزال تثبت جدواها حتى اليوم،، وتضمن للدول المتحرشة باستقلال الوطن الفرصة لإظهار المتحمسين كمتطرفين وإظهار المحنكين كمتخاذلين أو عملاء وتبدأ الدائرة المفرغة الكريهة التي تضمن للدول الاستعمارية تحقيق أطماعها في البلاد، ففي الشهر نفسه أي في يناير1882 قدم المندوبان السياسيان للدولتين الاستعماريتين إنجلترا وفرنسا إلى الخديو توفيق مذكرة من دولتيهما تتضمن اتفاقهما على تأييد سلطة الخديو عند حدوث أي صعوبات من شأنها عرقلة مجرى الاعمال العامة في مصر، وأن الحوادث الأخيرة بالديار المصرية وأخصها صدور المرسوم الخديوي بعقد مجلس النواب قد هيأت الفرصة للحكومتين لاتفاقهما على منع ما عساه أن تستهدف له حكومة الخديوي من الأخطار.
وبالطبع وكما نفهم الآن من تجاربنا المعاصرة المريرة، فقد أثارت هذه المذكرة سخط الأمة، واعتبرها الزعماء والنواب على نحو ما اوحت به تدخلاً من الدول الأوربية في شؤون مصر الداخلية، واعتداء على استقلالها وتحريضاً للخديو على مقاومة الأمة، وذهبت مناقشات الناس مذاهب شتى في ِشأن المذكرة، وتبين بوضوح أن غرض الدولتين خلق اسباب غير مشروعة للعبث بمشروع الدستور قبل أن يتم وضعه، فقد أعقب المذكرة اعتداء آخر وهو طلب الدولتين ألا يخول مجلس النواب حق تقرير الميزانية، وفي خلال ذلك كانت اللجنة التي ألفها مجلس النواب لفحص القانون الأساسي (الدستور) تتولى مهمتها مع ان القانون الأساسي كان ينص بوضوح على احترام اتفاقات مصر الخاصة بتسوية الديون، ولم يكن هناك ما يسوغ للدولتين أن تطلبا حرمان مجلس النواب حق تقرير الميزانية .
حكمة شريف باشا وطموح البارودي
ذهب المؤرخون منذ عصر الأسرة العلوية ويؤيدهم الأستاذ الرافعي والاكاديميون المعاصرون إلى القول بأن شريف باشا كان قد رأى من باب الحكمة في تجاوز هذه الأزمة السياسية ألا يبت مجلس النواب بقراره النهائي في المادة المتعلقة بالميزانية ويرجئها إلى حين، حتى تنجلي الغمة، وبذلك يتفادى التدخل المسلح من جانب إنجلترا وفرنسا، والتأجيل في ذاته لم يكن مضيعاً لحقوق الأمة في الدستور، لأن وضع الدستور قد يستغرق وقتاً يطول أو يقصر على حسب الظروف والملابسات، فكان من المستطاع تفادي الأزمة بتأجيل البت في هذه المادة . وقد طلب شريف باشا من العرابيين ألا يتعجلوا البت فيها وأن يمهلوه حتى يتدبر في هذه المسألة ويعالجها بالتريث ومفاوضة الدولتين في شأنها. لكن طموح محمود باشا سامي البارودي إلى رئاسة الوزارة عقّد الأزمة، لأنه وهو وزير الحربية في وزارة شريف باشا جعل العرابيين يتشبثون برأيهم ويرفضون التأجيل، ويقرون مادة الميزانية فوراً، كما وضعتها اللجنة . وقد رتب البارودي كما يقول المؤرخون المتأثرون بفكرة حماسة العرابيين وحماقتهم (أو انعدام حكمتهم) على هذه الخطة وصوله إلى رئاسة الوزراء، لأنه كان مفهوماً أن رفض النواب رأي شريف باشا يؤدي طبعاً إلى استقالته، فيدعى هو لتأليف الوزارة الجديدة .
وزارة البارودي والاحتلال
وقد حدث ما رتبه العسكريون، فاستقالت وزارة شريف في 3 فبراير 1882، وألف البارودي الوزارة في اليوم التالي أي في ٤ فبراير، وفي عهدها تلاحقت الأحداث، ثم استقالت هي أيضاً واعقبتها وزارة راغب باشا، وفي عهدها ضرب الاسطول الإنجليزي مدينة الإسكندرية بالمدافع في 11 يوليو 1882، فكان ذلك اليوم المشئوم بدأ الاحتلال.
رئاسته الوزارة الرابعة
بعد ان احتل الإنجليز الإسكندرية وانسحب الجيش المصري منها بقيادة عرابي، وظهرت المأساة كاملة في صورة الاحتلال، اتجهت الأنظار مرة ثانية إلى شريف باشا لإنقاذ الموقف،، واستقال راغب باشا الذي خلف البارودي في رئاسة الوزارة، وعهد الخديو توفيق إلى شريف باشا أن يؤلف الوزارة . وفي شجاعة نادرة قبل شريف باشا وهو ممزق النفس دامع العينيين أن يأتي يواجه الكارثة الجديدة، فألف الوزارة في أغسطس سنة 1882، واشترك معه فيها مصطفى رياض باشا على الرغم من انه كان قد تولى الرئاسة من قبل .
دموعه
وقد روى الذين شهدوا يوم عودة شريف باشا مع الخديو إلى القاهرة بعد إخماد الثورة أنه لم يملك دمعه وبكى حينما رأي في طريقة إلى السراي الخديوية مظاهر الاحتلال واصطفاف الجنود الإنجليزية على جانبي الشوارع التي اجتازها الركب.
كتاب تأليف الوزارة
نص شريف باشا في كتاب تأليف وزارته الرابعة، على أنه يستهدف أن يحقق المبادئ التي جعلها برنامجاً لوزارته السابقة، وأولها إ قرار النظام الدستوري وقال في كتابه الذي أرسله للخديو في هذا الصدد: ” أعرض لسموكم أن استدعائكم إياي لتشكيل وزارة جديدة في مثل هذه الظروف، إنما هو دليل على استدامة ثقتكم في، وأنني بالامتثال لأمركم الكريم أبرهن على إخلاصي لوطني ولذاتكم السامية “. ” إن المبادئ التي عرضتها على سموكم منذ سنة لاتزال موضوع اهتمامي، فإن غايتنا هي نجاح الوطن مادياً وأدبياً، وأما الوسائط التي يلزم أتخذها لذلك فهي تعميم المعارف، ونشر لواء العدالة، وتوسيع نطاق المبادئ الحرة الملائمة لهيئتنا الاجتماعية والسياسية، وكما أنه لا يلزم أن تتجاوز حدود لوائح ديسمبر، كذلك لا ينبغي أن نحذف منها شيئاً، ومن الواجب أن تتجه كل خواطرنا إلى موضوع واحد، وهو صيانة البلاد، وعليه فإنني استدعي للاشتراك في ذلك كل ذي غيرة وقلب مصري مخلص لذاتكم الشريفة “.
وزارته الرابعة من 21 أغسطس 1882 – 10 يناير 1884
علي مبارك باشا نظارة الأشغال العمومية
محمد قدري باشا نظارة المعارف العمومية
حسين فخري باشا نظارة الحقانية
علي حيدر باشا نظارة المالية
عمر لطفي باشا نظارة الجهادية والبحرية
محمد زكي باشا نظارة الأوقاف
أما وزارة الداخلية فقد تعاقب عليها مصطفى رياض باشا وأحمد خيري باشا وإسماعيل أيوب باشا
كان يأمل أن ينتهي الاحتلال سريعا
كان شريف باشا حين قبل رئاسة الوزاري يظن أن من الممكن أن تنتهي فترة الاحتلال العسكري الإنجليزي، وأن يبر الإنجليز بوعدهم بالجلاء بمجرد توطيدهم لمركز الخديو توفيق، ويبدو بوضوح أنه لم يكن يتصور أن الانجليز جاءوا لحساب أنفسهم لا لحساب الخديو توفيق، ولهذا فانهم قد ظلوا يحتلون البلاد ويسيطرون على حكمها بل وعلى محاولة تقسيمها بسلخ السودان عن السلطة المركزية في القاهرة، وعلى نحو ما هو مشهور ومعروف فقد ظل شريف باشا يدافع الإنجليز عن البلاد إلى أن ظهرت نواياهم الاستعمارية في سلخ السودان عن مصر، حين انتهزوا فرصة الثورة المهدية ليكرهوا الحكومة المصرية على التخلي عن السودان فوقف شريف باشا ووقفت المعارضة ضد الإنجليز في هذه المسألة، وقال كلمته المشهورة: ” إذا تركنا السودان فالسودان لا يتركنا ” وعارضهم في مسألة أخرى لا تقل عنها خطورة وهي طلبهم أن يخضع الوزراء المصريون إلى نصائح المعتمد البريطاني.
استقالته النهائية المسببة
لما رأي شريف باشا أن الخديو توفيق يميل إلى قبول مطالب الإنجليز لم ير بداً من استقالته من الوزارة في يناير 1884. وقد سجل شريف باشا على الاحتلال البريطاني عدوانه على حقوق مصر، فلم يبن استقالته على الأسباب الصحية كما جرت العادة بذلك، بل ذكر الأسباب الصحيحة مشيرا الى أن الدولة الإنجليزية تطلب إخلاء السودان، وهذا ما لا سبيل إليه، وقال في هذه الاستقالة: “ولا يخفى أن هذه الاقتراحات مخالفة لفحوى النظامات الشورية الصادرة في 28 أغسطس سنة 1878 التي نص فيها على أن الخديوي يجري أحكام البلاد باشتراكه مع النظام، فبناء على ذلك نضطر هنا أن نطلب من مقامكم العالي أن تقبلوا استعفائنا لأنه لا يمكن لنا والحالة هذه أن ندير البلاد على أصول شورية “. بهذه الاستقالة سجل شريف باشا احتجاج مصر على فصل السودان عن سلطتها، وعلى تدخل الإنجليز في شئون الحكومة المصرية واعتدائهم على استقلالها .
اعتزاله السياسة
بهذا الموقف المشرف ختم شريف باشا حياته السياسية. وهكذا فإن شريف باشا توقف عن ممارسة السياسة في 1884 أي قبل توقف نوبار ورياض عن المناصب الوزارية بعشر سنوات، وقد بقيت لشريف باشا سمعته وتوجهاته الدستورية والوطنية وبقيت لرياض باشا أعماله وإصلاحاته واجتهاداته على حين بقي لنوبار دوره غير الوطني في التمكين للأجانب والامتيازات الأجنبية ثم للمستعمر، أما زميلهم الذي يفوقهم قيمة وهو أبو التعليم علي باشا مبارك فقد بقي ذكره في التاريخ مهندسا منجزاً عالما مصلحاً وذلك على الرغم من تحفظه على الثورة العرابية، أما خامس هؤلاء التنفيذيين النافذين وأكبرهم وآخرهم وصولا إلى رئاسة الوزراء وهو راغب باشا فقد بقي له ذكره كأول محاسب ورجل مالية وموازنة وتخطيط مالي، وأول رئيس مجلس نيابي وإن كان ذكره السياسي والتاريخي أقل دوراً من رؤساء الوزراء الثلاثة الأوائل نوبار وشريف ورياض ومن المهندس العظيم علي باشا مبارك بالطبع، وبالرغم من وصول البارودي المبكر إلى رئاسة الوزارة في 1882 فإنه ينتمي من حيث المولد إلى جيل بطرس غالي وحسين فخري ومصطفى فهمي الذين يمثلون الجيل الثاني من رؤساء الوزراء فيما قبل ثورة 1919. وبهؤلاء الثمانية يكتمل تاريخ الرؤساء الوزراء المصريين قبل الحرب العالمية الأولى إذ لم يصل إلى هذا المنصب أحد غيرهم الا الخديو توفيق نفسه الذي رأس الوزارة مرتين قصيرتين اولاهما في عهد والده وثانيتهما في عهده هو نفسه .
عائلته
كما ذكرنا فقد تزوج محمد شريف باشا من ابنة سليمان باشا الفرنساوي وكان له منها ولد وابنتان، أما ابنه فهو محمد شريف باشا الذي كان وكيلاً لوزارة الخارجية، ولا يختلف أسمه عن أسم أبيه ولهذا السبب يعرف الأب احياناً باسم شريف باشا الكبير، وتزوجت إحدى ابنتيه من محرم شاهين باشا، والثانية من عبد الرحيم صبري باشا وهي والدة الملكة نازلي صبري ملكة مصر وشقيقها شريف باشا صبري وكيل وزارة الخارجية والوصي على عرش الملك فاروق في ١٩٣٦.
وفاته
بعد فترة من المرض توفي محمد شريف باشا في مدينة جراتس بالنمسا في ٢٠ إبريل 1887 ونقل جثمانه لمصر وشيعه الألاف من محبيه في الإسكندرية ثم في القاهرة وكان تشييع جنازته في الإسكندرية ثم في القاهرة تعبيرا عن تقدير الأمة لهذا السياسي الوطني العظيم .
تكريم ذكراه
خلد المصريون ذكر شريف باشا بإطلاق اسمه على الشارع الذي يصل بين شارع فؤاد وباب اللوق وهو الآن أشهر شوارع الأطباء في وسط مدينة القاهرة، وآخر يحمل اسمه في قلب مدينة الإسكندرية.
صفاته وأخلاقه
تحفل مصادر كتب التراجم بكثير من الثناء على شخصية شريف باشا ومنها على سبيل المثال هذه الفقرة الرائعة: “كان شريف باشا جميل الطلعة، طويل القامة، مشرق الوجه، معتدل القوام، متواضعاً في أنفه وشمم، عظيماً في غير صلف ولا غرور، دمث الأخلاق، كريم الطباع، شريفاً نزيهاً، صادق الوطنية، غيوراً على حقوق مصر، محباً للحرية، تتمثل فيه أخلاق كرام النبلاء وطباعهم وأساليبهم، شديد الاحتفاظ بكرمته وعزة نفسه، يتنزه عن الصغائر مستقل الرأي، لا يرضى لنفسه أن يكون أداة في يد غيرة، كانت هذه الصفات رداء له في حياته السياسية، إذ صانته من أن يتدلى إلى تنفيذ أهواء الخديويين والمستعمرين، فسلك إزائهم مسلك الكرامة والأنفة، ومن هنا جاءت مواقفة المشرفة في الدفاع عن حقوق مصر وكرامتها وكان فوق ذلك كامل الثقافة واسع الاطلاع، ملماً بعلوم أوربا وأحوالها، فكان ينال احترام ساسة الأوربيين ممن عاصرهم أو اتصل بهم، ولم يكن ينقصه من صفات رجال الدولة سوى الجلد على العمل، فإنه كان يميل إلى الدعة والراحة، ويدع تصريف كثير من شؤون وزارته إلى مرؤوسيه.