الرئيسية / المكتبة الصحفية / كيف أمكن للشيخ عبد العزيز جاويش أن يوجه حياة طه حسين إلى الغرب

كيف أمكن للشيخ عبد العزيز جاويش أن يوجه حياة طه حسين إلى الغرب

حرص الدكتور طه حسين في كتابه الأيام على أن ينسب إلى الشيخ عبد العزيز جاويش الفضل في تعلقه بالسفر إلى أوربا، حين كان يتولى تشكيل شخصيته: ” ولكن للشيخ عبد العزيز جاويش فضلًا على الفتى أيَّ فضل، فهو الذي ألقى في روع الفتى فكرة السفر إلى أوروبا حين قال له ذات يوم: لا بدَّ من أن نصنع شيئًا لإرسالك إلى فرنسا عاميْن أو ثلاثة أعوام. لم يكد الفتى يسمع هذه الألفاظ حتى استقرَّ في نفسه أن ليس له بدٌّ من عبور البحر على أي نحو من الأنحاء”.

الشيخ جاويش جعل الجامعة وسيلة له بعد أن كانت غاية

وفي موضع تالٍ يصور الدكتور طه حسين التحول الذي أحدثه للشيخ عبد العزيز جاويش في حياته تصويرا ذرائعيا حيث يقول إن الجامعة تحولت إلى وسيلة بعد أن كانت في حد ذاتها غاية: “…… ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجامعة بالقياس إليه وسيلة بعد أن كانت غاية، فقد ألقى الشيخ عبد العزيز جاويش في رُوعه فكرة السفر إلى أوروبا، وإلى فرنسا خاصة، فما له لا يفكر في هذا السفر؟ وما يمنعه أن يبتغي إليه الوسيلة؟ والغريب أن هذه الفكرة مازجت نفسه، وأصبحت جزءًا من حياته، وجعل ينظر إليها لا على أنها حلم يداعبه نائمًا أو يقظان، بل على أنها حقيقة يجب أن تكون. وأغرب من هذا أن الفتى جعل يتحدث بسفره إلى أوروبا كما يتحدث الإنسان عن أمر قد صحَّت عزيمته عليه، وقد تهيأت له أسبابه. وكان يتحدث إلى إخوته وإلى أخواته إذا أقبل الصيف بسفره إلى أوروبا قريبًا، وكان يغيظ أخواته بأنه سيقيم في أوروبا أعوامًا، ثم يعود منها وقد اختار لنفسه زوجًا فرنسية متعلِّمة مثقفة تحيا حياة راقية ممتازة، ليست جاهلة مثلهن، ولا غافلة مثلهن، ولا غارقة في الحياة الخشنة الغليظة مثلهن، وكان أخواته يتضاحكن حين يسمعن منه هذا الحديث وربما أضحكن به أمَّ الفتى وأباه.وكان الفتى يقول لهن: اضحكن اليوم فسترين غدًا!

ثنائية اللين والعنف في شخصية جاويش

وفي موضع مهم وغير مشهور أو غير مطروق من كتاب الأيام يصف الدكتور طه حسين ما كان يتميز به الشيخ عبد العزيز جاويش من ثنائية اللين والعنف، وما تركه في نفسه هو من هذه الثنائية، فهو على العموم صاحب حديث لين وصوت عذب لكنه يبلغ أقصى درجات العنف حين يتطرق حديثه إلى الازهر او السياسة، وعلى نحو ما رأينا في قصة رسوب الدكتور طه حسين في العالمية فان الشيخ جاويش كان هو الذي زين لطه حسين الجهر بخصومة الشيوخ وانتقاد سياستهم، وقد كان هذا هو دأبه على الدوام إذ كان يرى تحفظ هؤلاء الشيوخ مما يتعارض مع ثورته من أجل إيقاظ المجتمع ونهضته وعودة مجد الإسلام وعزته: “وكان الفتى يختلف مع ذلك إلى الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه لله، فيسمع له صوتًا عذبًا وحديثًا لينًا رقيقًا، ويرى من وراء هذا اللين وتلك العذوبة عنفًا أيَّ عنف إن ذُكِرت السياسة، أو ذُكِر الأزهر وشيوخه، أو ذُكِر بعض الكتاب الظاهرين الذين لا يكتبون في صحف الحزب الوطني. وكان يحِّبب العنف إلى الفتى ويُرغِّبه فيه، ويزيِّن في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ والنعي عليهم في غير تحفُّظٍ ولا احتياط. فهو كان يرى أنهم آفة هذا الوطن يحولون بينه وبين التقدم بما كانوا يلجُّون فيه من المحافظة ويعينون عليه الظالمين بممالأتهم للخديو، ومصانعتهم للإنجليز.

حديثه عن عداوة عبد العزيز جاويش لسعد زغلول

يتطرق الدكتور طه حسين في سياق حديثه عن تلمذته أو تردده على الشيخ عبد العزيز جاويش إلى ما لمسه بنفسه من مظاهر عداوة الشيخ عبد العزيز جاويش للزعيم سعد زغلول باشا فيقول: “وكان بُغضه لسعد زغلول رحمه لله معروفًا يتحدَّث به الناس، هجاه بمقالاته المشهورة التي جعل عنوانها: ” ظلموك يا سعد، وهجاه هجاءً مُنكرًا في بعض الشعر الذي لم ينشره؛ لأنه كان أعنف من أن يُنشر. وقد أنشدني قصيدة قالها في السجن، وقد بلغه أن سعدًا قد يعود إلى الوزارة أو يصبح رئيسًا لمجلس الوزراء، لم أحفظ منها إلا مطلعها وهو بَشِعٌ كما ترى:

إنْ صَّح ما أنهى الرواةُ لمسمعي       فلسوفَ تُصبحُ تحت حكمِ الأقرعِ

مسئولية الشيخ جاويش عن نقده للمنفلوطي

في سياق حديث الدكتور طه حسين عن أثر الشيخ عبد العزيز جاويش في شخصيته ومسار حياته فإنه يلقي على هذا المصلح العظيم بالمسئولية عما كان من إسرافه غير المبرر في الهجوم على ألمع كتاب هذا العصر، وهو موقف معروف في تاريخ الأدب، وإن كان بعض من ينسبون أنفسهم للدكتور طه حسين يحاولون افتعال مبررات موضوعية لهجوم طه حسين على المنفلوطي، لكني أشهد أنني حين اطلعتهم على هذا النص لطه حسين كفوا عن تكرار ما كانوا يقولون به، وما كانوا يمارسونه من استعلاء على أسلوب المنفلوطي: “وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه لله يقع نصيب غير قليل من ثقل تلك الفصول الطوال السمجة التي كتبها الفتى، فشَغَل به الأدباء والمثقفين حينًا، ثم لم ينقطع استخذاؤه لها وضيقه بها وخجله منها كلما ذكرت له، وكان موضوعها نقد نظرات المنفلوطي رحمه لله، وكان عنوانها: نظراتٌ في النظراتِ “. “قرأ الفتى الفصول الأولى من نظرات المنفلوطي راضيًا عنها، مُعجبًا بها، ثم لم يلبث أن سئمها وانصرف عنها. ولكنه لم يكد يراها مجموعة في كتاب حتى ضاق بها أشدَّ الضيق، وكتب يعيبها ويغضُّ منها. وفرح الشيخ عبد العزيز جاويش بما كتب الفتى أشد الفرح، واستزاده من الكتابة، وحرَّضه عليها وألحَّ في التحريض، حتى ألقى في رُوعه ألا يدع فصلًا من فصول المنفلوطي إلا اختصه بفصل من النقد.

” وكان الفتى قديم المذهب في الأدب لا ينظر منه إلا إلى اللفظ، ولا يحفل من اللفظ إلا بمكانه من معجمات اللغة، فكان عيب المنفلوطي عنده أنه يُخطئ في اللغة ويضع الألفاظ في غير مواضعها، ويصطنع ألفاظًا لم تثبت في لسان العرب ولا في القاموس المحيط. وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة. ولم ينسَ الفتى مقالًا دفعه ذات مساء إلى الشيخ عبد العزيز جاويش، فلم يكد يقرأ أوله حتى طرب له وأبى إلا أن يقرأه بصوته العذب على من يحضرمجلسه ذاك، وابتهج الفتى حين سمع الثناء، وأحسَّ بالإعجاب، واستيقن أنه أصبح كاتبًا ممتازًا” ” ثم لم يذكر بعد ذلك أول هذا المقال حتى طأطأ من رأسه ومن نفسه، وسأل لله أن يتيح له التكفير عن ذنبه ذاك العظيم، وكان أول المقال: عِمْ صباحًا أو مساءً، واشرب هواءً أو ماء، واستأجر من تشاء لما تشاء فقد وضح الحق وبرح الخفاء “. ويصل الامر بالدكتور طه حسين في إظهار انقياده لأستاذه الى ان يقول ان بعض تبعة هذا السخف يعود على الشيخ جاويش:

“كان بعض تَبِعَةِ هذا السخف يقع على الشيخ عبد العزيز جاويش”

الشيخ جاويش هو الذي قدمه للناس شاعرا

يحرص الدكتور طه حسين حرصا غريبا على ان يصور مكانته هو نفسه في نهر الشعر العربي مرتبطة بما كان يقدمه به الشيخ جاويش للمجتمع، وكأنه لا يرى لشعره الذي كف عن نظمه، ولم يعد إليه إطارا غير هذا الإطار الاجتماعي والأدبي الذي مكنه من قدر من الشهرة والمكانة في المجتمع الثقافي في تلك المرحلة المبكرة: “على أن فضل الشيخ عبد العزيز جاويش على الفتى لم يقف عند هذا الحد، وإنما تجاوزه فأمعن في تجاوزه، فهو الذي عرَّف الفتى إلى جماهير الناس ووقَّفه بين أيديهم ذات صباح مُنشدًا للشعر، كما كان يفعل الشعراء المعروفون، وحافظٌ منهم خاصة، في بعض المناسبات العامة. كان الناس قد ألفوا الاحتفال برأس العام الهجري كلما انقضى عام هجري، وأقبل عام جديد. وكان الشيخ عبد العزيز جاويش يحرص على أن يكون للحزب الوطني احتفاله بهذا اليوم، فأقام حفلة ذات عام في مدرسة مصطفى كامل، واحتشد لهذا الحفل عدد ضخم من الناس شبابًا وكهولًا وشيبًا، وكان الفتى قد أنشأ فيما بينه وبين نفسه قصيدة يستقبل بها عيد الهجرة، وأنشدها أمام الشيخ عبد العزيز جاويش، فرضي عنها وحثَّه على أن يقول أمثالها.

” فلما كان هذا الحفل شهده الفتى مع الشاهدين، ولكنه لم يكد يتخذ مكانه بين الناس، حتى أقبل من أخذ بيده وأجلسه على المنصَّة. ولم يقدر الفتى في نفسه إلا أن الشيخ عبد العزيز جاويش قد أراد أن يرفق به ويتلطَّف له ويُقرِّبه من مجلسه، فرضي عن ذلك كل الرضا، وعدَّه فضلًا من الشيخ عظيمًا، وألقِيَت الخطب وصفَّق المصفقون”، “ولم يَرُع الفتى إلا أن سمع اسمه يعلن إلى الناس، ورأى نفسه يُدعى إلى إنشاد قصيدته العصماء! فلبث في مكانه جامدًا واجمًا لا يدري ماذا يصنع، ولا يعرف كيف يقول، وأقبل من أخذ بيده، وهَمَّ الفتى أن يمتنع حياءً وخجلًا، ولكن الذي أخذ بيده جذبه جذبًا شديدًا وجعل الذين من حوله يدفعونه وينهضونه حتى أنهضوه وجروه جرٍّا إلى المائدة. واستقبل الفتى بتصفيق شديد منحه قوة وجرأة، فأنشد قصيدته في صوت ثابت ممتلئ، ولكنه لم يكن يستقر في موقفه، وإنما كان جسمه يرتعد ارتعادًا، واستُقبلت قصيدته أحسن استقبال وأروعه حتى خُيِّل إلى الفتى أنه قد أصبح حافظًا أو قريبًا من حافظ.

“ثم مرَّت الأعوام وتبعتها الأعوام، واختلفت على الشيخ وعلى الفتى خطوب أيُّ خطوب، وتعاقبت أحداث في مصر أيُّ أحداث! وجلس الفتى ذات مساء إلى صديق له كريم، وقد جاوز الفتى سنَّ الشباب والكهولة، وأخذ في ذكر الصبا وأيام الطلب، وأنُسِيَ الشيخُ شبابَه وصباه وشُغِل عن حياته الماضية، وأعرض عن الشعر كلَّ الإعراض بعد أن استبان له أنه لم يقل الشعر قط، وإنما قال سخفًا كثيرًا. وإذا الصديق الكريم يذكُره بموقفه ذاك في مدرسة مصطفى كامل وإنشاده قصيدتَه تلك، ويذكر له مطلع تلك القصيدة، فيرثي الشيخ لما أضاع من شبابه وما أنفق من جهده في غير طائل ولا غناء.

الشيخ جاويش هو الذي علَّمه الكتابة في المجلات

وعلى النهج نفسه يتحدث الدكتور طه حسين عن فضل الشيخ عبد العزيز جاويش في حصوله على ما حصل عليه من مكانة في الصحافة : ” ثم لم يقف الشيخ عبد العزيز جاويش بالفتى عند هذا الحدِّ، ولكنه علَّمه الكتابة في المجلات؛ فقد أنشأ مجلة “الهداية” ، وطلب إلى الفتى أن يشارك في تحريرها، ثم ترك له — أو كاد يترك له — الإشراف على هذا التحرير، وكان له الفضل كل الفضل فيما تعلم الفتى من إعداد الصحف وتنسيق ما ينشرفيها من فصول.  “ولم تخل “الهداية ” من جدال عنيف دُفع إليه الفتى دفعًا، وكان خصمه الشيخ رشيد رضا، وقد أسرف الفتى على نفسه وعلى الشيخ رشيد في ذلك الجدال، وكتب أحاديث استحى منها فيما بعد حين ذكرت له، ولكن الشيخ عبد العزيز كان عنها راضيًا وبها كَلِفًا، وقد أجاز نشرها وشجَّع الفتى على المضيفيها. كان يمقت من الشيخ رشيد ممالأته للخديو وانحرافه عن طريق الأستاذ الإمام، وما دُفع إليه من إعجاب بنفسه واغترار بثناء الناس عليه وإعجابهم به.

الشيخ جاويش هو الذي أتاح له الأستاذية في المدرسة

ويصل امتنان الدكتور طه حسين إلى قمته حين يتحدث عن فضل الشيخ عبد العزيز جاويش في حصوله على ما حصل عليه من مكانة في مهنة الأستاذية بمعناها الواسع: “ثم أضاف الشيخ إلى كل هذا الفضل فضلًا آخر وقع من نفس الفتى موقع الماء “من ذي الغُلَّة الصادي” أرضاه عن بعض حاله، وأكبره في نفسه شيئًا، وأشعره بأن قد أتيح له أن يجلس مجلس المعلم، وأن يكون له تلاميذ كثيرون بعد أن حال الأزهر بينه وبين ذلك. “فقد أنشأ الشيخ عبد العزيز جاويش مدرسة ثانوية كما أنشأ مصطفى كامل مدرسة، وكلِّف الفتى أن يعلِّم فيها الأدب على ألا ينتظر على ذلك أجرًا؛ فالمدرسة عمل وطني لا أجر عليه لمن يُشارك فيه. ولم يكن الشيخ يفيد من هذه المدرسة شيئًا، وربما أنفق عليها من رزقه وكلف نفسه في سبيل ذلك شيئًا من الحرمان، وربما ألحَّ على بعض الأغنياء وأوساط الناس حتى استكرههم على أن يُعينوه على نفقاتها ببعض المال. وقد أقبل الفتى على تعليمه ذاك فرِحًا به مبتهجًا له، يرى فيه شفاء لغيظه من الأزهر، ويرى فيه مع ذلك مشاركة في بعض الخير.  “ثم لم يلبث هذا كله أن انقطع فجأة،صُرف الشيخ عنه بأحداث السياسة، ثم اضطر إلى أن يهاجر من مصر على غير انتظار لهجرته، ولم يره الفتى منذ ودعهم ليلة سفره إلا بعد أعوام طوال، بعد أن عاد عودته تلك، فقد سافر من مصر فجأة، وعلى غير علم من أهلها، وعاد إلى مصرفجأة، وعلى غير علم من أهلها أيضًا”.

فضل الشيخ جاويش في تعلمه الفرنسيَّة

بل إننا نرى الدكتور طه حسين يتحدث بما قد لا نتصوره من فضل الشيخ عبد العزيز جاويش أيضا في تعلمه اللغة الفرنسية: “كان أول عهد الفتى بدرس اللغة الفرنسية أن حدَّثه بعض صديقه من الأزهريين بأن مدرسة مسائية أنشئت في مكان قريب من الأزهر، تدرس فيها هذه اللغة لمن يريد أن يتعلمها من المجاورين. “وكان للشيخ عبد العزيز جاويش رحمه لله يدٌ في إنشاء هذه المدرسة لم يحققها الفتى تحقيقًا واضحًا، ولكنه ذهب إلى المدرسة فيمن ذهب إليها من الطلاب، وسمع الدرس الأول من دروسها، ألقاه كهل مصري كان يحسن أن يلوِيَ لسانه في النطق بالحروف، وكان الفتى يبهره هذا النطق

مجمل فضل الشيخ جاويش عليه

وليس أبلغ في تصويرنا لهذه العلاقة الفريدة بين هذين العلمين من أن ننقل عن طه حسين هذا القول الموجز: “وهو على كل حال قد أعان الفتى على الخروج من بيئته تلك المغلقة إلى الحياة العامة، وعلى أن يكون له اسمٌ معروف. ومثل ذلك فعل الأستاذ أحمد لطفي السيد؛ فعرَّف الفتى إلى كثيرين من الذين كانوا يُلمُّون بمكتبه في الجريدة من الشيوخ والشباب.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com