ربما يليق بنا في حديث مثل هذا أن نتخطى المقدمات لندخل إلى الموضوع ثم نعود، هل كانت كلمات أحمد شفيق كامل فيما غنته له أم كلثوم صورة أخرى من صورة كلمات طاهر أبو فاشا ؟ نعم كان صورة غير نمطية تقدم الحديث الروحاني التقليدي في صورة حديث مادي عن الروحانيات بأسلوب معهود ومطروق ومستتر:
– أما أنه معهود فلأننا لا نستطيع أن نضع فاصلاً محدداً بين كلمات أحمد رامي التي تملأ الفضاء الذي استغرقته أم كلثوم وبين كلمات أحمد شفيق كامل التي جاءت فبرزت في سياق هذا الفضاء .
– وأما أنه مطروق فلأن الحديث عن كنه الحب وطبيعته يكاد يملأ كل الفضاء الذي لا يزال صوت أم كلثوم يعيش فيه مرددا أقوالها التي أصبحت تنسب إليها من أغانيها .
– وأما أنه مستتر فلأننا لا نستطيع أن ننفي عن شعر أحمد شفيق كامل الذي غنته أم كلثوم أنه شعر عاطفي وإن كان في حقيقته قابلا لتفسير آخر يتبناه من ينظر الناس إليهم على أنهم من الزنادقة حين يقولون إن كلماته تعبرعن عاطفة أخرى غير تلك العاطفة التي يردده المستمعون من أجلها .
وإذا كان لنا أن نقول إن أحمد شفيق كامل يمثل نمطا مختلفا عن الرومانسيين الواقعيين الثلاثة (مرسي جميل عزيز وعبد الفتاح مصطفى وعبد الوهاب محمد) فإننا نكون بحاجة إلى التدليل، وليس من وسيلة لإقامة الأدلة أفضل من القراءة، وإذاً فلنبدأ قراءتنا لهذا النمط من أنماط غناء أم كلثوم بأغنية “أنت عمري” التي كانت ولا تزال تمثل علامة فارقة ذات ضجيج إعلامي، لكنها من حيث هي معنى تمثل ما هو أكثر من الضجيج . في هذه الأغنية تبدأ أم كلثوم بداية شبه متحفظة في الأداء الصوتي بذكر موقف محدد وهو نظرتها في عيون حبيبها فقد تكفلت هذه النظرة بالعودة المتأنية الهادئة (حسب تعبير اللحن الذكي نفسه) إلى أيامها لتكتشف الحقيقة التي تدور حولها معاني الأغنية، وهي أن حياتها بدأت بتلك اللحظة التي رأت فيها عيون مَنْ تحب، وأن ما قبلها كله عدم لا يستحق أن يحسب، ذلك أن صباحها بدأ بنور هذا المعشوق ولم يكن قبله شيء،.. نعم لم يكن قبله، أي شيء، ولا فرحة أية فرحة، وإنما كان ما قبله جراحاً، بل إنها لم تكن تحب عمرها، وبدأت تحبه، ولم تكن تحسب مضي الأيام وبدأت تخاف على هذا العمر وتريد له ألا يجري.. فقد حققت رؤية عيني المعشوق ما اشتاقت إليه بخيالها من فرحة.. وهي لهذا تسأل نفسها: لماذا لم ترزق بهذه الرؤية إلا متأخراً.
ثم هي لهذا تدعوه إلى أن يذوق معها طعم الحب، فهي مستعدة له، وهي تفسر عناصر الاستعداد بالتعداد المتوالي: بالليل والشوق والمحبة والقلب، وهي تترجاه بحسم أن يسلم لها يديه وعينيه، وألا يتردد في الاستسلام لها، فقد فاتهما الكثير. ثم هي تبدأ مونولوجا رتيبا يجيد محمد عبد الوهاب تلحينه بحيث يقشعر به المستمعين لأنه حافل بالحماس والأداء المتصل: فهو أغلى من أيامها، وأحلى من أحلامها، وهي تطلب إليه أن يأخذها لحنانه بعيداً بعيداً حيث لا وجود للآخرين.. لتصحو معه على الحب وتنام على الشوق، وكيف لا وهو الذي جعلها تصالح ايامها وتسامح زمنها وتنسى الألم وتتذكر الشجن، ويعبر أحمد شفيق كامل عن تذكر الشجن تعبيراً يتناسق مع نسيان الألم بطريقة لغوية وفنية ذات مهارة عالية فهي تنسى به الألم لكنها تنسى معه الشجن.
إذا عدنا لأنفسنا وجدنا أن هذه المعاني التي تتحدث عنها ام كلثوم في أغنية “أنت عمري” لم تشهد خلافاً ولا فراقاً مع المحبوب، ولا دلالا ولا تدلُّلاً، ولا انقطاع الوصل ولا اتصاله، وإنما هي تعبر عن تجربة شعورية تبدأ وتنتهي في لحظة الوصال الأولى التي تتذكر فيها ما قبلها فتعتبره عدما، وتتطلع إلى ما بعدها فتتمنى ان يكون فيه الوجود بكل ما تريده من الوجود من وصال وشوق وحب وحلم وشرود أوسرحان وخيال وراحة بل بكل ما فيه من ندم على ضياع الماضي وتأخر الوصال. هل نستطيع بلغة المادة أن نقول إن هذا الوصف يستطيع أن يستغرق أو أن يستوعب عاطفة بين عاشقين طبيعيين، أم أننا نستطيع أن نلمح أن لأحد طرفي العلاقة طباعاً خاصة تخرج به عن أن يكون عاشقا قابلاً للعشق المادي الذي نعرف، وإن كان قابلا أيضا للعشق الروحاني الذي نعرفه؟ هل نستطيع أن نصدق ما يقول به من يقتربون من الزندقة حين يقولون إن هذه الأغنية لا تخرج عن إطار المدائح النبوية، بيد أن مؤلفها استخدم فيها ألفاظ الحياة المادية وعشق الحياة المادية؟
ليس من الواجب ولا من الضروري أن نحسم مثل هذا السؤال الذي هو أفضل من أي إجابة يقدمها أي ذواقة، أو أي محلل للنصوص، أو أي ناقد، بيد أن هناك إجابة تفوق كل هذه الإجابات هي تلك التي يستطيع التعبير عنها بملامح وجهه من يسمع هذه الأغنية إلى نهايتها بعد أن يكون محمد عبد الوهاب قد استثمر فيها أقصى طاقاته على التعبير العميق عن حالات شعورية كان يقدرها قبل أن يبدأ في التعبير عنها بألحانه، أما أم كلثوم فإنها رأت نفسها بذكائها مطالبة بأن تتنازل للمعشوق بأكثر من تنازلها لكلمات الشاعر وألحان الموسيقار، ومن هنا فإنها عاشت حالة الاستسلام البالغة حد الانسحاق في غنائها لهذا اللحن، وعاشت أكثر من هذا استسلاما من نوع أعمق لهذه الكلمات التي لم تغن مثلها من قبل لأي محبوب.
الذكاء الوجداني في كلمات أحمد شفيق كامل
لست أجد حرجا في القول بأن أحمد شفيق كامل لايزال يبدو لي قبسا من الذكاء المتوهج وهو يختار للأغنية الثانية التي ستغنيها أم كلثوم من كلماته وألحان محمد عبد الوهاب أيضا عنوان “أمل حياتي”، وحتى إذا لم يكن هو صاحب هذا الاختيار فإنه رزق ذكاء في الاختيار وفي الموافقة عليه، فالعنوان ببساطة شديدة وإعجاز أيضا يجيب على الحالة الشعورية التي صنعتها الأغنية الأولى بأن يقول: أنت عمري لأنك أمل حياتي. وبعيداً عن الإحساس بالزمن الذي انقضى فيما بين غناء أم كلثوم للأغنية الأولى والثانية فإننا نستطيع بلا تجنّ على الحقيقة أن نقول إن كلمات الأغنية الثانية ليست إلا استمراراً لكلمات الأغنية الأولى، ولنتصور أم كلثوم وهي تخاطب نفس الحبيب الذي خاطبته من قبل فقالت له إنه هو عمرها، وإن عمرها لا يُحسب إلا من اللحظة التي رأت فيها عينيه، وهي تخاطبه الآن فتقول إنه هو أمل حياتها، وإنه حب ثمين أو فريد لا ينتهي، وإنه هو نفسه أحلى غنوة وصلت إلى القلب خالدة وغير قابلة للنسيان، وإنه إذا كان هو عمرها كما عبرت له في الأغنية السابقة فإنها تطالبه بأن يأخذ عمرها كله الذي هو هو نفسه.
ثم تحاول أم كلثوم أن تقفز إلى أن تعبر عن حالة من الحلول في المحبوب، أو التوحد معه فتبدأ بالاقتراب من هذه المنطقة الخطرة رويداً رويداً، فتطلب منه أولاً أن يدعها إلى جواره بالقرب من قلبه أو في حضن قلبه على حد التعبير الشعبي البسيط والمتوهج ثم سرعان ما تنتقل من الوجود المكافئ في حضن القلب إلى الأحلام فتطلب من معشوقها أن يتركها تحلم، أي أن تغيب عن الوعي الذي سيعود إليها حتما فينبهها إلى النهاية، وهي هنا (كما كانت هناك) لا تريد هذه النهاية، ولهذا تتمنى من الزمان أن يتركها بلا إيقاظ.. ثم تمضي أم كلثوم في مقطع تال لتعبر عن معاني الحلول بطريقة مادية متسامية لكنها لا تزال مرتبطة بالمادة، فهو عيناها حسب التعبير الشعبي الجميل، وهو أغلى عليها منها هي نفسها، وهي تبدأ في التعبير عن ديمومة الحب بلغة الزمان المادي فهو حبيبها أمس، وحبيبها الآن، وحبيبها غدا، وحبيبها لآخر عمرها (وقتها) وهي تسأله وتسأل نفسها في نفس الوقت بحكم هذه الحالة من الحلول والاتحاد، عما ينقصها من الأماني حين تكون بين يديه، وهي تقصد بالطبع حين يكون بين يديها لكن المعنى مرتبط كما قلنا بحالة التوحد التي أجاد الشاعر أحمد شفيق كامل التعبير عنها، كما أجاد عبد الوهاب اختيار ما يعبر عنها من ألحانه المطعمة بتراث العالم كله.. وهي تمضي في الحديث عن الحنان منقطع النظير، فتعبر عنه باللفظ البسيط الذي يدركه كل الناس، وهي تزعم أنها عاشت حياتها من أجله هو فقط، وهي تتحدث عن لحظة اللقاء الأول وكأنها تستحضر من ذاكرة الجمهور حديثها في الأغنية الأولى عن ذلك اللقاء الأول لكنها هنا تمضي خطوات أوسع في الاعتراف فتذكر أنها أعطته قلبها لأنه هو نفسه حياة قلبها.. وهي لا تطلب أكثر مما هي فيه، فلا هي تحلم بفرح أكثر، ولا بهناء أكثر بل إنها مستعدة لفقدان عمرها كله بلا ندم من أجل هذه اللحظة.
وهي بالطبع لا تقصد اللحظة وإنما تقصد عمرها الذي أصبح لحظة، وهي تبرر هذا بأنه يكفيها الابتسامة التي تستيقظ عليها فتدعوها للحياة وهي تدعوها وكأنها تغني، وهي تغني لحنه أبداً.. ثم تلجأ إلى صورة أخرى من صور التعبير عن الامتنان للحب الذي غمرها فجعل الدنيا كلها حبا، وجعل حياتها مرتبطة به لا تطيق فراقه رمشه ولا ثانية.. وهي ملهوفة في اشتياقها تبحث عن كلمة تكون خاصة بها لم يستخدمها أحد من قبل ولم يُخاطب بها أحدٌ غيره، وهي تصف هذه الكلمة بما يجعلها غير قابلة للوجود فهي تبلغ في مقدارها مقدار الهوى والاشواق والحنين وهي تبلغ في كنهها أن تكون مثله، وليس مثله أحد، فهو فريد لم يُخلق منه اثنان، وكأن الأمر يحتمل أن يكون هناك واحد آخر مثله، لكن المؤكد أنه لا يوجد اثنان مثله. وتعيد أم كلثوم اللجوء إلى المقاطع السابقة بترتيب وتكرار مختلف على نحو ما هو معتاد في ألحانها الذكية، لكي تؤكد على المعاني التي ستختم بها قصيدتها في مقطع كان من الممكن أن يستغرق الأغنية كلها لكنه جاء في موضعه في الختام لتؤديه أم كلثوم بسرعة وتدفق، بعد أن تهيأت له النفس تماماً فطول العمر لا يغير من إحساسها بقلة الليالي التي لا تتناسب مع الأجيال الطويلة.. ذلك أن حبه ملأ قلبها وعقلها وأنار ليلها وأطال عمرها، وهو دائم الازدياد في الغلاوة والحلاوة معاً، والحب أصبح ألف حب، حتى إنه تجدد في كل نظرة من عينيه، وتستمر في الحب الجديد كما استمرت في الحب الخالد، وهي قد تحولت بفضل حبه إلى شعور إنساني راق يجعلها تنظر للدنيا كلها بالحب حتى إنها تحب عوازلها وحسادها.. بل تحب كل الناس، لأنه يكفيها أن ترى عينيه.. وهي تنام وتصحو على ابتسامته أو شفايفه وهي تطلب منها أن تعيش. ويعمد الشاعر ألا يؤنث الفعل ويردف بها تشبيهه لهذا الطلب أو الأمر او القول بأنها أغنيته تطلب من الحب ألا ينتهي.. ولهذا فإن أم كلثوم تعيد الطلب بأن تبقى إلى جواره.. كي تحلم، متمنية، مرة أخرى، بل مرات أخرى، ألا ينتهي الحلم على يد الزمان الذي يوقظ كل حالم.
تجربة احمد شفيق كامل في الحب كله
ربما تمثل أغنية الحب كله إغراء شديدا بأن تكون رمزا للمقارنة أو للتعبير عن المنافسة بين محبي بليغ حمدي ومحبي محمد عبد الوهاب أو بين ألحان بليغ حمدي وألحان محمد عبد الوهاب، فالأغنية من كلمات احمد شفيق كامل الذي كتب لأم كلثوم ثلاث أغنيات لحنها محمد عبد الوهاب كانت أولاهما وثانيهما على الترتيب أنت الحب، وأمل حياتي، وجاءت “الحب كله” لتكون بعد الأولين وقبل الأخيرة، وليس من شك في أن من يمارس التأمل من ذواقة الالحان يستطيع أن يكتشف وجوه الاختلاف بقدر من التمحيص، ومن ناحية أخرى فإنه إذا جاز أن هناك أوجه تشابه بين لحن بليغ حمدي ولحن محمد عبد الوهاب في هذه الأغنية فالأمر لا يخرج عن حدود ما هو متشابه بين أي لحن والآخر، وعلى سبيل المثال كذلك فإنه إذا كان هذان الأسلوبان اللحنيان يعترفان بالمقدمات الطويلة، ويعترفان بقدرة الجمل الموسيقية على التعبير عن الكلمات المكتوبة، فالأمر لا يخرج أيضاً عن حدود ما هو معروف من التصوير الذكي للعلاقة الفيزيقية المرتبطة بالقدرة على تصويرنا الحقيقة لأنفسنا وهو ما اعبر عنه ببساطة بالقول باننا نريد ان نفهم العلاقة لا انها علاقة بين الصوت والصدى، وانما نحن نريد ان نفهمها بدقة اكثر (أو بعبارة فيزيقية تصورها أكثر دقة) على انها الفرق بين صورة الشيء في المرآة وصورة الشيء نفسه بالعدسة..
نستطيع إذاً، بكل وضوح، أن نرى أن هناك فروقا ضخمة في ألحان الرجلين العظيمين لأم كلثوم، ولأن عبد الوهاب كان هو الأسبق في تلحين أحمد شفيق كامل لأم كلثوم، كما انه صاحب تجربتين في تلحين كلمات هذا المؤلف العظيم مقارنة بتجربة واحدة لبليغ حمدي فإننا بطريقة عملية نستطيع أن نجعل من عبد الوهاب قاعدة المقارنة ونقيس عليها الحان بليغ التي أثرت في أداء أم كلثوم، وطبعت هذا الأداء بطابع يستدعي الإعجاب، ونبدأ بالقول بأن الموسيقار بليغ حمدي لم يجعل المقدمة الموسيقية لهذه الأغنية بمثابة مقدمة واحدة لأغنية واحدة وإنما جعلها مقدمات موسيقية لفنانة عظيمة ذات اتجاهات متعددة في أغاني العاطفة، فهو يبدأ هذه المقدمات بالتعبير عن التأمل، ثم ينتقل للتعبير عن التردد، وبعد التأمل والتردد يبدو وكأنه يوشك على أن يحسم الأمور ويقرر، لكن الفن المعبر عن مثل هذه الحالة لا يحتمل الحسم ولهذا فإنه لا يلبث ان يعود مرة أخرى إلى الدوران مفضلا الدوران في محور رأسي لا أفقي والدوران في محور رأسي يتطلب التحليق، والفنان يحلق بالأداء فيتسامى باللحن الذي يقدمه في تصاعد مستمر، ثم يعود باللحن ليدور حول نقطة واحدة وكأنه يرى اللحن طوافاً حول هذه الكلمة أو ما تمثله هذه الكلمة من معنى..وهكذا فإن أم كلثوم حين تبدأ مخاطبة جمهورها بعد هذه المقدمات تجد الساحة خالية أمامها تماماً فقد تدغدغت مشاعر مُستمعيها بين تأمل وتدبر وترقب وصعود وتحفز وصدود ودوران، وإذا بهذا المستمع متشوق لأن يسمع ماذا ستقول هذه السيدة عن هذا المعبود الذي عاشت من اجله وهو الحب بذاته أو الحب كله .
لهذا السبب فإن أم كلثوم تسعف نفسها بكلمات أحمد شفيق كامل القاطعة التي تلقيها على هيئة جمل خبرية تقريرية تستهل التعبير بالمبتدأ وتردفه بالخبر على هيئة جملة فعلية، وهو في رأيي المتواضع الأسلوب الأمثل لبناء الجملة التقريرية الحاسمة في الشعر العربي.. ولا تكتفي أم كلثوم بجملة واحدة من هذا الطراز وإنما هي تقرأ علينا بتنغيمها بل بأنغامها (ولا أقول: تغني) جملاً متعددة يصف بها أحمد شفيق كامل هذا الحب، فقد أحبت معشوقها بالحب كله، ولا مانع من أن تكرر كلمة كله كله وهي تعبر عن تجربتها بأن تختصر الزمن كله من أجل معشوقها، وهي تطلب من محبوبها بالنداء الذي لا يحتمل إلا التأكيد على ما فيه، أن ينقل اعترافها هذا ويسمعه للدنيا كلها، ولم لا تفعل هذا ؟ أليست هي التي تعتقد أنها خلقت خلقاً جديداً في اليوم الذي رأته فيه؟ ها أنت ترى فكرة من أفكار احمد شفيق كامل في الأغنيتين التي لحنهما محمد عبد الوهاب لأم كلثوم قبل هذه الأغنية، وقد صيغت في يدي بليغ حمدي وبين يديه صياغة أخرى تستدعي من الجموع المتراصة المتتالية أن توثقها على نحو ما يفعل بليغ حمدي بمجموعة من الألحان المتوالية التي يحاور فيها نفسه، وكأنه يطلب من المستمعين أن يصمتوا ليسمعوا التنبيه قبل أن يسمعوا الاعتراف المتوالي لأم كلثوم، وهي تقول لمن تصفه بأنه روح قلبها: إنه هو أيضا حياة أيامها، وإنه هو أيضا ملاك أحلامها، وهكذا تتوالى هذه الصفات الثلاث لا ندري أيها أكثر تعبيراً عن المعنى، لكنها هي هي في تعبيرها عن حالة الانتشاء بالفناء الكامل (أو بلفظ آخر الذوبان الكامل) في المحبوب؟
ثم يعطي بليغ حمدي الفرصة لأم كلثوم كي تبدأ في طرح أسئلتها التقريرية التي صاغها أحمد شفيق كامل باقتدار حين تجد السعادة والهناءة في أن تعترف (وهي متعجبة ومقرة بالسعادة في الوقت ذاتها) بأنها لم تكن شيئا مذكورا قبل أن تعرف هذا المعشوق، وهي تعيد التعبير عن هذا المعنى بصورة أخرى لا تقل ذكاء حين تقول إنها قضت حياتها في غيابه أو قبل وجوده وهي تمشي طريق حياتها وحيدة.. وحيدة.. .. في ليل طويل.. طويل بلا قلب يُحس بها ولا طيف يهدي خطواتها، ولهذا فإنها عندما رأته لتستحضر اللحظة بعمق وتكرر قولها: عندما رأته اندفعت إليه بكل الشوق والحب، وكان اندفاعها نداء وجريانا في الوقت ذاته، ثم هي تبدأ مباشرة بتفصيل طبيعة هذه الأحاسيس فتذكر انها نادت الدنيا كلها معلنة حبها له بصوت صادح وصارخ.. لأن الدنيا كلها ليست إلا الحب. ثم إنها لهذا السبب، وفي هدأة من اللحن، تخاطب معشوقها تطلب منه أن يسقيها، وأن يسقيها لأنها كما قالت من قبل تحس أنها خلقت خلقا جديداً برؤيته، في ذلك اليوم الذي شهد بداية وجودها بعد الليل الطويل.
يعود بليغ حمدي ليقدم لما هو آت من حديث الحب، فيهتف في وجدان المستمعين (لا في آذانهم فحسب) بألحان سريعة متدافعة يتردد صداها في ألحان تالية لها لكنها أكثر سرعة منها، وكأن قلب العاشق أصبح قادراً على الإجابة والاستجابة لهذه العاشقة العظيمة.. لكن بليغ حمدي لا يقدم الإجابة مباشرة وإنما هو يدفع اللحن نفسه إلى التأمل بأن يعيد ما اسرع في تقديمه، بأداء أكثر ثقة وهدوءاً، وهو يتريث باللحن ويثبط من صوته العالي لكي تدخل أم كلثوم بمجموعة جديدة من النداءات التي تخاطب فيها المحبوب بصيغ متأججة ومتتالية لكنها رغم التأجج والتتابع تؤديها بتؤدة واطمئنان بعد أن فتح اللحن لها الطريق إلى أذن المستمع المتحفز لسماع ما سوف تقوله في التعبير عن حبها، وهي لهذا تبدأ في هدوء شديد في وصف عطش هواها، وقد وضعت هذا الهوى في القلب في صورة بديعة أتبعتها بصورة لا تقل جمالاً حين تصف محبوبها بأنه أرق من الشمعة وأجمل من الملاك، وهي تبلور صفاته بالنسبة لها في كلمات بسيطة معهودة من قبيل ما سمعناه من قبل من أنه روحها، ونور حياتها وكل عمرها.. لكنها تردف هذه الصفات التقليدية باعتراف وجداني ظريف تقدمه بتقسيمة تعتمد في تنغيمها على الكلمة لا على اللحن حين تقول: ايه أنا بالنسبة لك؟ ويأتي أداؤها لكلمة لك بصورة بديعة اخترعها التلحين، ليجعل منها ختاماً لهذه التساؤلات التي تجيب عليها أم كلثوم بجمل متوالية أكثر تعبيرا عن الغناء، من قبيل أنها خُلقت له وحده، وأن قلبها يعيش على لمس حنانه هو فقط.. ثم هي تتنهد بعمق وهي تقول “حلوة” مقدمة الخبر على كل ما تريد أن تصفه بالحلاوة، فهي تصف الحياة بالحلوة، وتصف الأيام بالحلوة… وهي تريد أن ينسحب هذا الوصف إلى الماضي والأحلام والزمان والأماني.. الخ.
ثم هي تطلب المستحيل، تطلب من الأيام أن تنسى اثنين تحقق فناؤهما في الحب، ليظلا فانيين في الحب، فانيين فيه، وله، ومن أجله . وتبدأ أم كلثوم مقطعها الذي هندسه لها بليغ حمدي كي تنوب فيه عن حبيبها في التعبير عن حبهما لبعضهما، فتتحول بالحب من فعله الفردي الذي كانت هي بطلته إلى فعل ثنائي تتولى هي التعبير عنه، ومن ثم فإنها تلتفت لتطلب الطلب الذي كانت طلبته من عاشقها من قبل وهو أن يسقيها، وهي تقفز قفزة أخرى إلى جملة لحنية أخرى سبقت لها، وهكذا تبدو وكأنها تختصر الأغنية في ثلاث جمل عبقرية يتضافر لحنها الوثاب معاً ليختم هذا المقطع من الأغنية. وها هي أم كلثوم تبدأ في التقاط أنفاسها وهي تستمع إلى الآلات الموسيقية التي تقوم بما يقوم به “الكورس” أو فريق المنشدين بين المقاطع المختلفة للأغنية الواحدة، ويبدو للبسطاء من أمثالنا أن الفنان بليغ حمدي قد تعمد أن يجعل من أداء هذه الفواصل الموسيقية المعزوفة بطريقة سيموفونية بديلاً لكورس المنشدين الذين يأخذون من النص مقطعاً يكررونه برتابة وذكاء وحماس، وها هي أم كلثوم تبدأ في النداء بالصفات الأكثر تأججا في تعبيرها عن الحب، فهي تتحدث عن حديث حبيبها وشعره وكلام عيونه، وعن عطره وكلامه وشوقه وهي تركب من هذه الصفات تعبيرات رومانسية من التي كانت تزعج الدكتور طه حسين والدكتور شوقي ضيف في الثلاثينيات والأربعينيات، وذلك من قبيل عبير الشوق، وعبير اليد، ويد العبير، كلام العينين، غيرة الكلام.. وبعد أن تلجأ أم كلثوم إلى مط كلمة من الكلمات لتنتهي من فقرة وتبدأ فقرة جديدة فإنها تبدأ في التأوه وهي تعبر عن هذا الفناء بتعبيرات أبسط وأكثر حماسة من لهيب الخدود، وحنان الأيدي، وتوهان الرحلة.
تلجأ أم كلثوم إلى المد في نهاية بعض الكلمات ممهدة للمقطع الحاسم الذي تطلب فيه من حبيبها أن يخفيها من الزمان وعيونه، فهي لا تأمن للزمان أن يسرق فرحتها فيأخذها ويتركها.. وهنا يجد الجمهور نفسه وقد وصل للذروة لكن أم كلثوم تسرع بأدائها لتستمهل جمهورها لتقدم مقدمات حديثها النهائي الذي يتبلور في أن الدنيا هي الحب.. ولا شيء غير الحب. وتستعيد أم كلثوم من أغنيتها العبارات اللحنية التي أصبح جمهورها متشبعا بها تماماً، وإذا به يرددها لتكون صبابة الذروة في نهاية هذه الأغنية.