كان الشيخ عبد العزيز جاويش محظوظا إلى أبعد حد في حياته الفكرية في الحياة وبعد الممات على حد سواء، فلم يكن من الزعماء الوطنيين من رزق الخلود في صورة تلميذه الأديب على نحو ما رزقه الشيخ جاويش في الدكتور طه حسين، حتى إنك إذا أردت أن تبدأ تعريفا وافيا شافيا يعرّف القراء بالشيخ عبد العزيز جاويش فإن بوسعك أن تقول إنه الأستاذ الذي أخذ منه الدكتور طه حسين 95% على الأقل من شخصية طه حسين (وليس من شخصية عبد العزيز جاويش) والفارق بين المعنيين كبير جدا .
صحيح أن الأستاذ المرصفي هو أستاذ طه حسين الأول سبقاً وأن الأستاذ أحمد لطفي السيد هو أستاذ طه حسين الأشهر معرفة ولكن الشيخ عبد العزيز جاويش هو أستاذه الأكثر أثراً فيه، وفي جملة واحدة فإنه هو الذي علم طه حسين فن الاشتباك مع كل شيء، وهو الذي علمه قواعد الاشتباك في كل شيء، وهو بلا شك الذي علمه السياسة وكيف يتناولها، وكيف ينحاز إلى مثل عليا يختارها أو يفضلها، وكيف يفرض رأيه وكيف يدافع عنه، وكيف يُهاجم خصومه وكيف يشتط في هذا الهجوم، وكيف يوظف الأدب للسياسة، ويطعم السياسة بالأدب تطعيما لا يُبقي فيه للسياسة إلا القدر المستتر خلف صياغات الأدب الظاهر والمستشري في كيانها الذي يقدمه الكاتب للقراء.
الشيخ عبد العزيزجاويش أيضا هو صاحب القرار الأهم في حياة الدكتور طه حسين وهو قرار التأهل بالدراسة في الخارج، وهو الذي اختار له هذا المستقبل في فرنسا بالذات، وهو الذي أقنعه به وهو الذي ساعده عليه، الشيخ عبد العزيزجاويش أيضا هو الذي كوّن الملامح البارزة في أسلوب طه حسين الأدبي، وفي منهجه في التناول والمقاربة، وفي طريقته في النقد والمعالجة، وفي صياغة ردود الأفعال وصياغة مداخل الفعل من قبل ردود الأفعال.
يعرف القارئ أننا في دراسة الشخصيات (كما في دراسة التاريخ الطبيعي للحياة الإنسانية والعقلية) نستطيع بفضل الخبرة والتمرس أن نكتشف المزيج والأسلوب من دون أن نتأثر بالتوجهات السياسية أو التحزبات المعرفية، فالتوجهات والتحزبات تخضع لعوامل الزمن، وتتغير طبقا لموقف الإنسان والوطن والمجتمع منها لكن جوهر الأسلوب يبقى حتى بعد أن يتطور وحتى إن كان تطوره إلى النقيض من بداياته في الظاهر، كما أن المنهج نفسه يبقى على ما بني عليه حتى مع الخبرة والتجربة، هذان أمران صحيحان فيما اتفقت عليه ذائقة النقد، وصحيح ثالثا أن الحياة تعلمنا ما تسميه العامة باللمسة الديبلوماسية التي تجعلنا نغلف آراءنا المعترضة أو الناقدة بكل ما يُمكن من التدليل على احترامنا للآخر وتقديرنا لآرائه لكن هذه الأغلفة الديبلوماسية مهما بلغت كثافتها لا تستطيع أن تحجب اعتراضنا على فكرة ما، ولا تستطيع أن تغير من اقناع المتلقي بأننا نرى الأمر حلالاً او حراماً، مفيداً أو ضاراً، صوابا أو خطاً.
ونعرف أيضا أن المظاهر الظاهرة من الحياة الحية والخبرة بها تستطيع أن تجعلنا نقول بخطورة المرض بعد أن نشير إلى حالات الصفاء التي تصحبه، أو الهدوء الإجباري الذي يتيحه، أو العبرة التي ترتبط به، ومع هذا فإن المرض وما يقتضيه من العلاج يظل مرضاً، وهكذا كانت آراء الشيخ عبد العزيز جاويش حين صاغها الدكتور طه حسين بعد عقود من الزمان، فلم يتنكر للأصالة على نحو ما صوره بعض من لا يستطيعون الوصول إلى اللب لأنهم ينشغلون بدراسة النص الظاهر الصريح على نحو ما يتصورونه صريحا صحيحاً، على حين أن طه حسين نفسه لم يختلف فيما رآه وارتآه عن الشيخ عبد العزيز جاويش إلا في التغليف وما يرتبط به من كل ما نسميه بالتفعيلات المتاحة في النص من تنصيص وتشبيه وتمثيل وتجنيس وتلبيس وتعمية وتورية وتطبيق.
كان الشيخ عبد العزيز جاويش نفسه فقد أضاف إلى ما تعلمه في الأزهر ما كانت تضيفه دار العلوم من معارف تختلط فيها العصرنة بالعنصرية، وكذا فعل الدكتور طه حسين حين أضاف إلى ما تعلمه في الأزهر ما كانت تضيفه الجامعة المصرية (الأهلية) من معارف تختلط فيها العصرنة بالعنصرية، ثم أبحر الشيخ عبد العزيز جاويش إلى بريطانيا وعاد وأبحر طه حسين إلى فرنسا وعاد، وعلى حين وجد الشيخ عبد العزيز جاويش فرصة للأستاذية في بلاد الإنجليز ثم في مصر واستانبول والقدس ومع الانجليز والعثمانيين والالمان فإن الدكتور طه حسين وجد هذه الفرصة في مصر فعضّ عليها بالنواجد، وأتاح له الزمن ألا ينشغل كثيراً بالمناصب البعيدة عن وظيفة التعليم والكتابة .
حديث طه حسين في الأيام عن فضله
لم يكن الدكتور طه حسين ينكر فضل الشيخ عبد العزيز جاويش عليه، وإنما كان يذكره بوضوح شديد، وبامتنان شديد لكنه كان يلقي على كاهل الشيخ جاويش بالمسئولية عن كثير من أفعاله وأخلاقه التي تبدو متنافرة مع ما وصل إليه من شخصية الرجل الوقور والعميد المتأنق عن رضا بالبروتوكول.
علمه الحماس والغلو
وفي هذا الإطار يكاد الدكتور طه حسين ينسب كل ما ميز حياته من حماس واندفاع إلى ما تعلمه من الشيخ عبد العزيز جاويش، وهو في كتابه الأيام يبدأ حديثه الطويل عن معرفته بهذا الأستاذ الفذ حريصا كل الحرص على الإيحاء بهذا المعنى، ثم إنه حين يعود الى الحديث عن الشيخ عبد العزيز جاويش وأثره لا يجد حرجا في أن يكرر التأكيد على هذا المعنى بكثير من الحقائق، حتى ليكاد القارئ الفطن يظن أن طه حسين يريد أن يقول إنه لم يعرف الحماس قبل الشيخ عبد العزيز جاويش ولا بعده، وانظر اليه على سبيل المثال وهو يذكر أن الشيخ هو الذي علمه الكتابة وعلمه معها طول اللسان، وذلك حيث يقول: “واتصل الفتى كذلك بالشيخ عبد العزيز جاويش رحمه لله فأكثر الاختلاف إليه والاستماع له، وما هي إلا أن أخذ يجرِّب نفسه في الكتابة، كما جرب نفسه في الشعر بين يدي أستاذه المرصفي. ولم يكد الفتى يأخذ في الكتابة حتى عُرف بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد، قلما كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام، ولكنه كان نقدًا محافظًا غاليًا في المحافظة، إلا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى عن طور الاعتدال، ويغلو في العبث بالشيوخ، ويجد التشجيع كل التشجيع على ذلك من الشيخ عبد العزيز جاويش، وربما وجد منه إغراءً بذلك وحثٍّا عليه.”
مقارنته الشيخ جاويش واستاذ الجيل
لا يقارن الدكتور طه حسين بين أستاذه المرصفي والشيخ جاويش ولكنه يقارن مرة بعد أخرى بين الشيخ جاويش والأستاذ أحمد لطفي السيد فيقول: “وكان صاحبنا موزَّعًا بين مذهبين من مذاهب الكتابة في ذلك الوقت، أحدهما: مذهب الاعتدال والقصد، ذلك الذي كان الأستاذ لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه، والآخر: مذهب الغلو والإسراف، ذلك الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يغريه به ويحرِّضه عليه تحريضًا، وكان الفتى يستجيب للمذهبين جميعًا، فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني “.
وفي موضع تال يتحدث الدكتور طه حسين بضوح عن الفرق بين الرجلين فيقول: “وقد لاحظ الفتى فيما بعد أن أحاديثه تلك عن المنفلوطي قد شغلت الناس حتى تحدَّث إليه فيها كل من كان يلقاه، إلا رجلًا واحدًا لم يُشر إليها قط على كثرة ما كان يلقَى الفتى، وعلى كثرة ما كان يتحدَّث إليه، وهو مدير الجريدة لطفي السيد. “فَهِم الفتى، ولكن مُتأخرًا، أن لطفي السيد لم يرضَ قطُّ عن هذه الفصول، ولو قد رضي عنها، وعن بعضها، لتحدَّثَ إليه فيها، وهو الذي كان كثيرًا ما يُشجِّع الفتى فيتنبأ له مرة بأنه سيكون موضعه من مصر موضع فولتير من فرنسا، ويقول له مرة أخرى: أنت أبو العلائنا، يتعمد إثبات الألف واللام على رغم الإضافة في اسم أبي العلاء، ثم يضحك، ويغرق في الضحك حين يرى تنكُّر الفتى للجمع بين الإضافة وأداة التعريف.” “أصبح الفتى كاتبًا بفضل هذين الرجلين: لطفي السيد وعبد العزيز جاويش، وأصبح كاتبًا لشيءٍ آخر: وهو أنه أثناء الأعوام العشرة الأولى من كتابته في الصحف لم يكتب إلا حُبٍّا للكتابة ورغبةً فيها، لم يكسب بها درهمًا ولا ملِّيمًا.”
السبب في رسوب طه حسين في العالمية
حين يتحدث الدكتور طه حسين عما يعتقد أنه السبب المباشر في رسوبه في امتحان العالمية فإنه يقدم قصة مترابطة يبدو أثر الشيخ عبد العزيز جاويش فيها حاسما لا مرجحا فحسب، وكأنه هو الذي أمره أن يرسب فرسب، فهو الذي شجعه على الخطأ في أساتذته ومنهم شيخ الازهر نفسه، ولا ينكر الدكتور طه حسين أنه تجاوز في حق الإمام الأكبر لكنه يلقي بجزء كبير عن المسئولية عن فعله على الشيخ جاويش، وفي الحقيقة فإن منطق قوانين النشر يقر ما قال به الدكتور طه حسين ويشرك الشيخ جاويش في هذه المسئولية، فهو الذي نشر لطه حسين في صحيفة العلم شعره الساخر الذي ألفه في تلك المناسبة وطرب له وهو يحدث أثره: “ولم يكن هذا الندم كل ما جرَّ عليه طول اللسان من ألم، فما أكثر ما كان يَكْلَفُ بالنقد فيمضي فيه مؤمنًا به حريصًا عليه لا يحسب لعواقبه حسابًا ثم تمضي الأيام في إثر الأيام، وإذا هو قد نسي ما كتب، وشُغل عنه بأشياء أخرى، ولكن الناس لم ينسَوه وإنما حفظوه له، وقيَّدوه عليه، وأخذوه به حين سنحت الفرصة”
…………………………….
ونأتي إلى هذه الفقرة الصريحة من نص الدكتور طه حسين في كتابه الأيام:
“وطول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعًا حاسمًا بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعًا إلى حياته التي أتيحت له، وعرَّضه لسخط أيِّ سخط، وحزن أيِّ حزن، وعناء أيِّ عناء. والغريب أنه قد تلقَّى السخط والحزن والعناء باسمًا موفور الرضا، طيب النفس، فلم تتعلق نفسه قط بالجلوس إلى عمود من أعمدة الأزهر، ولا بإلقاء الدرس في حلْقة من حلقاته. لم يأسَ إذن على انقطاع الصلة بينه وبين الأزهر، وإنما ملأ قلبه الحزن والأسى حين عرف سخط أبيه الشيخ، وحزن أمه التي كان يختصَّها بالحبِّ والبرِّ والحنان”.
“كان ذلك حين أنشأ الشيخ رشيد رضا رحمه لله شيئًا سمَّاه مدرسة الدعوة والإرشاد، وأعلن أن هذه المدرسة ستُعِدُّ طلابها من الأزهريين لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولإرشاد المسلمين أنفسهم إلى دينهم الصحيح المبرأ من أوهام القرون وأباطيلها”. “وقد ضاق المجدِّدون من أبناء الأزهر بهذه المدرسة أشدَّ الضيق، وسخطوا عليها أعظم السخط. رأوا فيما أحاط بإنشائها من الظروف انحرافًا عن الوفاء للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من رجل كان يرى نفسه أقرب تلاميذ الشيخ إليه، وأخصهم به وأوفاهم له، فقد عطف الخديو على هذه المدرسة وأعانها وأغرى شيوخ الأزهر بتأييدها. ورأى تلاميذ الأستاذ الإمام أن في عطف الخديو على هذه المدرسة وإعانته لها ما أثار في نفوسهم الرَّيْب فنفَّروا الناس منها، وأطلقوا ألسنتهم فيها، وعابوا على الشيخ رشيد أنه ثاب إلى من أخرج الأستاذ الإمام من الأزهر [طه حسين يقصد هنا الخديو عباس حلمي] وعرَّضه لكثير من الشر والأذى وأغرى به الشيوخ، حتى أذاعوا عن الشيخ ما أذاعوا من السوء، ونالوه بما نالوه من المكروه.
“وفي ذات يوم أقام الشيخ رشيد وأصحابه حفلًا بهذه المدرسة، واجتمعوا حول مائدة العشاء في فندق من فنادق القاهرة يقال له فندق سافوي ، ونشرت بعض الصحف أنباء زعمت فيها أن أكواب الشمبانيا أديرت حول هذه المائدة، وكان جماعة من شيوخ الأزهر يتقدمهم شيخهم الأكبر قد شهدوا هذا العشاء، ورأوا ما أدير فيه من الأكواب فلم يُنكروا بالعمل ولا بالقول. هنالك ثارت ثائرة المخلصين للأزهر، فلهجوا بالشيوخ وقالوا فيهم فأكثروا القول. “ودافع المدافعون عن الشيوخ بأن زجاجاتٍ فُتحت في ذلك العشاء وكان لفتحها فرقعة،ولكنها لم تكن زجاجات الشمبانيا، وإنما كانت زجاجات الكازوزة! ولكن خصوم الشيوخ من أبناء الأزهر لم يقبلوا هذا الدفاع، ولم يُصدِّقوه، وإنما مضَوْا يلهجون ويقولون في الشيوخ فيُكثرون القول، وكان صاحبنا الفتى أطولهم لسانًا، وأجرأهم قلمًا، وأجرحهم لفظًا. عاب الشيوخ شعرًا ونثرًا، ونشر عبد العزيز جاويش له ذلك في صحيفة “العلم ” فرضِيَ المجددون وأغرقوا في الرضا، وسخط المحافظون وأسرفوا في السخط، وتناقل أولئك وهؤلاء هذه الأبيات الثلاثة من شعر الفتى الذي لم ينسبه إلى نفسه، وإنما زعم أنه تلقاه في البريد:
رعَى اللهُ المشايَخ إذ توافَوْا إلى سافواي في يومِ الخميس
وإذ شهدوا كؤوسَ الخمر صرْ فا تدورُ به الُّسقاة على الجلوسِ
رئيسَ المسلمين عداك ذمٌّ ألا لله درُّك من رئيسِ
“ثم مضت الأيام وتتابعت فيها الأحداث، حتى إذا دار العام رأى الفتى نفسه يتهيأ للامتحان في الأزهر لينال درجة العالمية. وقد تلقَّى الفتى ما كان يسمى حينئذٍ بالتعيين، وهو الدروس التي يجب أن يعدها ليلقيها أمام لجنة الامتحان، ويثبت لمناقشة الممتحنين فيها. فاستعد الفتى وأحسن الاستعداد، وحفظ فأحسن الحفظ، حتى إذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان إلا سواد الليل، وأقبل عليه شيخه المرصفي رحمه لله فأنبأه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله إليه في ضوء النهار، وإنما حمله إليه في ظلمة الليل، بعد أن صُلِّيت العشاء. قال الشيخ: إذا أصبحت يا بُني فاستقلْ من الامتحان ولا تحضره من عامك هذا، فإن القوم يأتمرون بك ليسقِّطوك.
قال الفتى: وما ذاك؟!
قال الشيخ: تعلم أني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر أمامها غدًا، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي، فقد دُعِيَ رئيس اللجنة إلى الشيخ الأكبر وأمُر بإسقاطك مهما تكن الظروف.
قال الفتى: ولكني سأحضرأمام لجنة أخرى يرأسها الشيخ عبد الحكم عطا.
قال الشيخ: فإن هذه اللجنة لن تجتمع؛ لأن رئيسها أبَى أن يسمع للشيخ الأكبر حين أمره بإسقاطك، فلما ألحَّ الشيخ الأكبر عليه ألحَّ هو في الإباء، فلما خيره الشيخ الأكبر بين إسقاطك وبين ألا تجتمع لجنته، آثر ألا تجتمع اللجنة، وقال: إنما هو غداء وثلاثون قرشًا!
وأبَى الفتى أن يستقيل على رغم إلحاح الشيخ المرصفي عليه في ذلك، ونام ليله هادئًا موفورًا، واستقبل صباحه راضيًا مسرورًا، وغدا على لجنة الامتحان، وكانت مجتمعة في مكان في الدرَّاسة لا يعرف الفتى أقائم هو أم درس فيما درس من المنازل والدور.
غدا على لجنة الامتحان فألقى التحية، وجلس، وكان أعضاء اللجنة يشربون الشاي.
قال الرئيس للفتى: هل أفطرت؟
قال الفتى: نعم.
قال الرئيس: فأتمم هذا الكوب الذي شربت نصفه لتحصل لك البركة.
“وأخذ الفتى من الشيخ كوبه مُبتسمًا، وشرب ما فيه متكرِّهًا، ثم أخذ في الدرس الأول فأنفق فيه ساعتين ونصف ساعة، ولقِيَ فيه من المناقشة أشدها، ومن الجدال أعنفه. وفي أثناء ذلك دخل الشيخ الأكبر، فلم يسلِّم، وإنما قال: حرام عليك يا شيخ دسوقي، حرام عليك، ارفق به! ارفق به! ثم انصرف. ولم يرفق الشيخ دسوقي بالفتى، وإنما أضاف شدة إلى شدة، وعنفًا إلى عنفٍ، وانقضى الدرس الأول، وقيل للفتى: اذهب فاسترح.
” وخرج الفتى فإذا كرسيٌّ قد وُضع إلى جانب الباب، وجلس عليه الشيخ الأكبر كأنه ينتظر شيئًا. ولم يكد يرى الفتى حتى دعا شيخًا من الشيوخ كان هناك وقال له: خذه يا شيخ إبراهيم فاسْقِهِ فنجانًا من القهوة! وفي انتظار هذا الفنجان أقبل من حمل المحفظة إلى الفتى إيذانًا بأنه قد سقط، وبأن اللجنة لا تريد أن يُتمَّ ما بقي له من الدروس.