لا أظن التشويق مفيدا في هذه المدونة التي تتضمن ما هو أطرف من التشويق التقليدي، ولهذا فإنني سأبدأ بذكر الصفة وهي الرخامة ونحن نعرف أن الاستعمال العادي والعامي لهذه الصفة يدل على نوع من الأداء البطيء او المتباطئ الذي قد يكون له ما يبرره، لكنه لا يرتفع به إلى مرتبة أن يكون أداء مقبولا فضلا عن أن يكون محبوبا، وهكذا فإن الأداء الذي يوصف بهذا الفظ ليس مما يسعى اليه أمثالي فضلا عن أن يتقبلوا أن يوصف أداؤهم به، أما على مستوى اللغة الفصحى فإن لهذه الصفة دلالة جمالية راقية إذا وصف بها صوت من الأصوات حتى أن صاحب الصوت الموصوف بأن صوته رخيم يستعيد هذه الصفة بفخر، وربما لا يدري أنها هي نفسها الصفة التي قد تستفزه إذا ما وصف أداؤه بها.
للقضية بعد ثالث وهو البعد المصطلحي فقد وجدت الأستاذ عباس محمود العقاد وهو لغوي جبار لا يعرف كثير من اللغويين قيمته قد لجأ على كلمة الرخيم للدلالة على صوت الكونترلتو وذلك في الوقت الذي ترجم فيه مصطلح الصوت السبرانو بالصوت المديد ومصطلح نصف السبرانو بالصوت الوسيط، ننتقل الى البعد الرابع وهو توظيف اللغة وتقنيات بنائها في الحديث الرسمي او الخطابة البروتوكولية المحضة، وهو موضوع حيثنا في هذا المقام.
بدأت القصة بداية عابرة في أثناء اجتماع مجلس قسم القلب عن مشكلة بيننا وبين قسم مجاور، وإذا بصديقنا وزميلنا هشام، وكان رحمه الله رجلا عمليا إلى أقصى الحدود يقول مخاطبا رئيس القسم إن الحل أن ندعوهم للاجتماع وبعد أن يُفرغوا طاقتهم في المناقشة، تقول حضرتك لمحمد (الذي هو أنا) والذي يكون على غير عادته قد التزم الصمت حتى تلك اللحظة أنك لم تسمع صوته على غير العادة، وأنك تطلب منه باعتباره صديقا للقسم المجاور أن يحكم في الموضوع لا أن يُدلي برأيه فحسب، وعندئذ يتولى محمد “بصوته الرخيم” و”بطريقته الرخيمة” إجبارهم على الحل المنطقي والعملي دون أن يكون أمامهم فكاك من القبول بعد كل ما قالوه وناقشناه، بالطبع لم يكن من حقي أن أرفض، لكن كان ما اثارني هو ذلك الوصف بـ “الرخيم” وهو الوصف الذي إذا قيل بالفصحى يبدو أنيقاً جميلاً، وإذا قيل بالعامية بدا سخيفاً كريها!
قال زميلي: ألا تعرفه من نفسك
أخذت أتأمل في معنى الكلمة على هذا النحو، ثم في نهاية جلستنا سألت زميلي هشام عن هذا الوصف الذي أضفاه عليّ، فقال: ألا تعرفه من نفسك، ألم يقل لك أحد من قبل إن صوتك يُشبه أداء المذيع الأشهر فلان؟ ألا تلاحظ طريقتك في التأني حين تريد أن تقيد حركة من أمامك؟ لم أجد جوابا وبلعت المسالة سواء كانت مديحا أم إهانة.
رخامة الصوت المؤدي
بعد ما يقرب من عشرة أعوام من تلك الواقعة كنت اتحدث في جلسة مجمع اللغة العربية، وأملي من الذاكرة نصاً سيُكتب في المحضر، واساتذتنا صامتون يستمعون وأنا أمليه بتأن، وإذا بأستاذنا فاروق شوشة (وهو الأمين العام) يقول بصوت مسموع لجاره الدكتور كمال بشر (وهو نائب الرئيس يومها) يتكلم كما لو انه طه حسين، وإذا بأستاذنا الدكتور بشر يرد عليه بتلقائية وحب: لكن معجمه أوسع وأرحب، وإذا بأستاذنا فاروق شوشة وبمنتهى التهذيب يحرك رأسه تلك الحركة التي يقصد بها صاحبها أن يقول إن محاوره لم يدرك تماماً المعنى الذي يريد أن يقوله.
لم يكن بيني وبين الاستاذين الجليلين إلا الرئيس الدكتور شوقي ضيف والنائب الدكتور محمود حافظ، وهكذا كان الحوار الثنائي مع استدارة المنضدة يبدو وكأنه حوار ثلاثي، وكأني مع انشغالي بما أمليه طرف فيه، وما إن انتهت الجلسة سأل الدكتور بشر الأستاذ فاروق شوشة هل هو معترض على ما قرره في حقي؟ فقال الأستاذ فاروق: بالعكس أنا أكثر منك اقتناعا بما قلت، وهو يعرف أنني قلت له هذا منذ عشر سنوات، ونحن نسجل برنامج الأمسية الثقافية، قال الدكتور كمال بشر: ماذا إذاً، قال الأستاذ فاروق: رخامة الصوت المؤدي. بالطبع فرحت جداً، مع أني لم افهم المقصود تماما، فلم أكن قد سمعت طه حسين في مثل هذه المناسبة من قبل، لكني تظاهرت بالفهم وعبرت عن الامتنان. ثم سألت نفسي: هل كان هشام وزملاؤنا في القسم مُحقين حين وصفوا صوتي بالرخامة؟
حفل ١٩٥٨
ومضت الأيام بل السنوات.ومنذ أيام قليلة طلب مني احد أصدقائي المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية أن اشاهد فيديو الحفل الذي أقامته جامعة القاهرة احتفالاً بخمسين عاماً على إنشائها وحضره الرئيس جمال عبد الناصر، وطلب مني أن أشاهد الفيديو إلى نهايته وأن اتصل به بعدها مباشرة بدون أن أعقب أو أكتب تعقيبا له على ما رأيت! كان أستاذ الجيل الأستاذ أحمد لطفي السيد قد أناب الدكتور عبد العزيز السيد ليلقي كلمة في هذا الحفل (مع أن المصادفة أن الدكتور عبد العزيز السيد لم يتخرج في جامعة القاهرة حين كان من المتاح له ان يتخرج في أول دفعاتها وإنما تخرج في مدرسة المعلمين العليا في الدفعة التي تناظر أول دفعات جامعة القاهرة..) وكذلك تحدث مدير جامعة القاهرة الدكتور السعيد مصطفى السعيد وهو حقوقي قديم كان أيضا مديراً لجامعة الإسكندرية ثم جاء دور الدكتور طه حسين، وكانت هذه أول مرة أرى وأسمع أداء طه حسين في حفل، وهو يخطب، فقد شاهدته فقط في حواره الشهير مع السيدة ليلى رستم.
التكلف المصنوع بدقة
لست أريد أن أقول إلا شيئاً واحداً، رحم الله الأستاذ فاروق شوشة وبارك في زميلي الذي انتبه لهذا المعنى الذكي وأرسله لي متجسدا في ذلك الفيديو، لكأني كنت أنا المؤدي للدور بهذا التكلف المصنوع بدقة حتى يبدو وكأنه مطبوع، وبهذا التحذلق المقصود هروبا من التملق المكبوت، بل بهذا اللجوء إلى المصدر المؤول للبعد عن تحديد الفاعل الذي هو أصلا غير موجود وإنما مفتعل، وقد قاد هذا كله إلى ذلك الأداء الرخيم بكل ما فيه من المفردات والحركات والسكنات والسكتات والهمسات واللفتات والوقفات، أو باختصار شديد بهذا اللفظ الذي هو في الفصحى مديح وفي العامية ذم: الرخامة. وفي الحقيقة فإنه أداء جيد لكنه ليس مبهرا، وهو أداء متأنق لكنه مفتقد للحماسة والود وإن لم يخل من دفء باهت لكنه مطلوب وربما مستحب.