كان الشيخ محمد عرفة ١٨٩٠-١٩٧٣، على الرغم من عنايته الفائقة وبلوغه الذروة في تخصصه الأكاديمي في النحو، واحدا من أبرز من ساهموا في فتح باب الاجتهاد وممارسته بالفعل، ولم يكن هذا بالأمر الغريب فقد كان هذا الشيخ الجليل أيضا من أبرز علماء الأزهر الذين بلوروا رؤيتهم السياسية والفكرية في كتب ومقالات واضحة المعنى والمدلول، ومع أن هذا جلب عليه عداوة الشيوعيين وغيرهم من الطوائف المؤثرة في الحياة العامة، فإنه نجح في أن يؤدي الواجب الوطني الذي يتطلب من أمثاله أن يدلوا بدلوهم الفكري في الوقت المناسب، وربما كان من الواجب علينا هنا أن نشير إلى موقفين شهيرين له هما: موقفه من النظرية الشيوعية، وموقفه من الفكرة القومية.
موقفه من النظرية الشيوعية
اشتهر للشيخ محمد عرفة كتابه «الإسلام والشيوعية»، وفي هذا الكتاب الذي كتبه وهو في موقع فكري متقدم، خصص الشيخ محمد عرفة فصلا تحت عنوان «اعتماد الشيوعية على العنف والإكراه»، وأورد نصوصا صريحة للينين وستالين تدعو إلى إبادة المخالفين، كأن يقول لينين: «هلاك ثلاثة أرباع العالم ليس بشيء، وإنما الشيء المهم أن يصبح الربع الباقي شيوعيين»، وحيث يدعو ستالين إلى الحرب، وإن أغرقت الكون في الدماء. وبعد أن كشف أهوال الشيوعية المدمرة، انتقل إلى الإسلام دين الرحمة والإنسانية، ليضع الصفحة الخضراء بإزاء الصفحة الحمراء، على حد تعبير أستاذنا رجب البيومي، وقد تحدث عن ضرورة القتال في الإسلام دفاعا وصونا، لا بغيا وعدوانا، فأتى بما يقنع بالدليل، ويضيء بالنبراس. وفي هذا الكتاب، أورد الشيخ محمد عرفة رأي الإسلام فيما تجيزه الشيوعية من التجسس، والإكراه على الإلحاد، وتحريم الملكية، والتآمر الخفي، والتزلف الظاهري، خاتما كتابه بفصل جيد عن «موضع الدين الإسلامي في الأمة الإسلامية»، واعترف فيه بأن الكثيرين من علمائه ينصرفون عن محاربة الفساد، وعن إيضاح رأي الإسلام في معضلات الزمن، مفضلين إبداء الرأي في مسائل ذائعة.
موقفه من الفكرة القومية
أما في ميدان «الفكرة القومية»، فمن الإنصاف أن نقول إن الشيخ محمد عرفة كان من الوعي، بحيث إنه في ذروة المد القومي تحدث عن أخطار القومية، داعيا إلى الإنسانية الشاملة التي تجعل الناس في كل قارة سواسية كأسنان المشط، وقد انتقد فلسفة نيتشة وتعاليمه، ونبه إلى ما فيها من خطورة. أما كتاب «إنقاذ البشر من أن يفنوا بعضهم بعضا بالحرب الذرية» فقد كتب عنه الدكتور محمد رجب البيومي فصلا تحليليا بمجلة «الأزهر» (المحرم 1399هـ) تحت عنوان «عالم أزهري يدعو إلى السلام العالمي»، وقد أبان الدكتور بيومي عن عبقرية رؤية الشيخ عرفة، ويكفي أن نشير إلى أن الشيخ عرفة في هذ الكتاب تكلم عن الحياد الإيجابي بين الكتلتين المتصارعتين، فأوضح أنه وهم لا حقيقة، وأوضح السبب في ذلك: «إذ يفتقر إلى فلسفة نظرية تؤيد اتجاهه تأييدا يدفع إلى تحبيذه الفعلي، إذ أن أكثر مَنْ هو عين لهذا المعسكر يعمل بحسابه، مما يذهب برسالة عدم الانحياز».
علاقته بالشيخ المراغي
كان الشيخ محمد عرفة وثيق الصلة بالشيخ محمد مصطفى المراغي ١٨٨١- ١٩٤٥ وإصلاحاته، وقد كان كذلك وثيق الصلة بالشيخ محمد الخضر حسين وجهوده، وكان وكيلا له في جمعية الهداية الإسلامية، وكان يقوم بواجبه في هذه الجمعية التي كانت تعنى في المقام الأول بـالمحاضرات العامة، وتوجيه الشباب.
قيمته الفقهية
وفي مجال الفقه، فإن لهذا العالم العظيم أدوارًا مرموقة غير مشهورة، وإذا كان هناك مَنْ يشارك الشيخ المراغي في فضله في تعديل قوانين الأحوال الشخصية على النحو الذي يسر الأمور للمسلمين، فإنه هو الشيخ محمد عرفة، الذي كتب مبكرًا جدًّا سلسلة من البحوث المتصلة بالأحوال الشخصية، وهي بحوث كانت لها آثارها في تماسك المجتمع واستقرار علاقاته. وقد دعا هذا العالم العظيم إلى إعادة النظر في الطلاق المعلق، وطلاق الغضبان، والمكره، وطلاق ثلاثة الأيمان بلفظ واحد، وأيد دعوته بنصوص الفقهاء والسابقين، وقد كان من النبل بحيث اختار الإيثار، وكتب هذه المقالات موقعة بالحروف الأولى من اسمه «م. ع». ثم كان هو صاحب الفضل الأوفى في الإصلاحات التشريعية التي نسبت إلى مَنْ تبناها من مركزه الوظيفي وهو الشيخ محمد مصطفى المراغي الذي كتب المذكرة التفسيرية لقانون الأحوال الشخصية لسنة 1920 الذي عدّل القانون السابق للأحوال الشخصية (قانون 1910).. وكان الشيخ المراغي في ذلك العصر رئيسا للمحكمة الشرعية قبل أن يتولى مشيخة الأزهر. وقد كانت هذه الإصلاحات التشريعية التي أخذت بها مصر في عصر نهضتها، نموذجا مبكرًا للفهم الرائد الذي استدعى من أحكام الشريعة السمحة مبادئ ذكية كفيلة بصيانة الأسرة والحفاظ عليها، وهو الفهم الذي سبق به علماء الأزهر كثيرًا من حضارات أوربا.
قانون الوصية الواجبة
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الشيخ محمد عرفة كان صاحب الفضل أيضًا في التعديلات التي أجريت على قانون المواريث، فهو الذي لفت النظر إلى أن «يكون الوارث بعض مَنْ يختص بالوصية إذا دعت ضرورة إنسانية لتفضيله»، وأثبت ما ذهب إليه الأقدمون في هذا الميدان. وكان هذا التوفيق الذي رزقه سببا في صياغة ما عرف بقانون الوصية الواجبة، وهو القانون الذي مكّن أبناء الابن الذي توفي قبل والده من الإرث، وهو القانون الذي كفل قدرًا كبيرًا من الاستقرار العائلي والعدالة الاجتماعية.
مراجعته للموسوعة الإسلامية
وعلى مستوى الثقافة العامة والموسوعية كان للشيخ محمد عرفة فضل كبير في تنقيح الترجمة العربية لدائرة المعارف الإسلامية التي شرع ثلاثة من أفذاذ الشبان (إبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، وأحمد الشنتناوي) بترجمتها. وقد بدأ إسهامه في هذا المجال بأن نشر في الصحافة نقده لبعض ما احتواه الفصل الأصلي من أخطاء أو بعد عن الصواب، وقد استجاب أصحاب مشروع الترجمة إلى جهده وأفادوا منه، وطلبوا إليه كتابة تعليقات تصوب ما كان في دائرة المعارف من أخطاء. كذلك فقد شارك الشيخ عرفة مع الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ إبراهيم الجبالي، في الثلاثينيات من القرن العشرين في تأليف مجموعة كتب عرّفت بالإسلام، وترجم أكثرها إلى اللغات الأجنبية، وكانت أبرز جهوده في هذا المجال كتاب «السر في انتشار الإسلام».
رده على الدكتور طه حسين
ذكر أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي أن كتاب «نقض مطاعن في القرآن الكريم» كان هو الكتاب الذي رد به الأستاذ محمد عرفة على محاضرات قرآنية ألقاها الدكتور طه حسين بكلية الآداب، تشبع فيها بما كتبه المستشرق كازانوفا عن القسم المكي في القرآن، وقصر سوره وخلوها في زعمه من المنطق والنقاش، على عكس ما يرى في القسم المدني، إذ كانت سوره مسهبة ذات حوار وعقل! وكان الدكتور طه حسين ١٨٨٩- ١٩٧٣ قد تورط في الحديث عن لفظة قرآن بما لا ينتمي للحق، وعن أوائل بعض السور المبدوءة بالحروف المقطعة، أمثال: ق، ص، يس، حم، وكل ذلك كان يتطلب الرد الملجم، وهو ما نهض به الأستاذ محمد عرفة عن اقتدار ويقظة وعمق.
وقد أشار الدكتور البيومي إلى أن الدكتور طه حسين قد ترك هذه «الآراء الهابطة» معتقدا بطلانها، ثم جاء ما جاد به في كتابه الرائع «في مرآة الإسلام» عن القرآن الكريم، ليعصف بهذه الأكاذيب، “وحسبنا منه أنه تراجع عن شططه، حين صحب كهولته المطمئنة بعيدا عن تسرع الشباب، وليس يجوز لنا الآن أن نسرف في تعداد هذه السقطات التي أسقطها من حسابه فلم يجمعها في كتاب منشور، وإن كان قد أساء بإلقائها على الطلاب”.